ثمار

السيف والنار

1 3

عرض كتب حول الطبعة الجديدة لكتاب (السيف والنار) لسلاطين باشا

يُعتبر كتاب «السيف والنار» ومُؤلفه سلاطين باشا مَعلَمين من أهم المعالم التي لعبت دوراً بارزاً في تاريخ السودان الحديث. والكتاب عبارة عن رواية لتجربة سلاطين باشا أحد المعاصرين للثورة المهدية منذ بدايتها والذي لعب فيها دوراً مزدوجاً: الأول كونه أحد رجال الدولة المتنفذين في عهد الحكم التركي المصري للسودان، والثاني بعد انتصار الثورة المهدية كأحد المُلازمين المُخلصين للخليفة عبد الله التعايشي مما جعله مقرباً أيضاً لأصحاب النفوذ والشأن في الدولة المهدية. وابتدأ تأليف الكتاب منذ عام 1894م بعد فراره مباشرةً حتى اكتمل في شكل مخطوطة باللغة الألمانية قُدمت كتقرير للحكومة المصرية عن الوضع في السودان، وقد تولّى وينجت باشا ترجمة المخطوطة وتحريرها وإخراجها باللغة الإنجليزية تحت عنوان: «السيف والنار في السودان Fire and Sword in the Sudan» ونشرها عام 1896م في أوروبا التي استقبلت الكتاب بكثيرٍ من الاهتمام، وتُرجم إلى أهم اللغات الأوروبية. ويُعد كتاب «السيف والنار في السودان» إلى جانب كتاب وينجت باشا: «المهدية والسودان المصري 1891 Mahdism and the Egyptian Sudan».  وكتاب الأب أوهروالدر: «عشر سنين في أسْر المهديين 1892 Ten Years’ Captivity in the Mahdi’s Camp» من أعظم الكتب السياسية شأناً وتأثيراً في عصرها، حيث ساهمت في تحديد وضع السودان ومستقبله في الخارطة الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية.

وسلاطين باشا (1857-1932م) مؤلف كتاب «السيف والنار في السودان» من أصول نمساوية. وُلد في ﭬيينا، وجاء أول مرة إلى السودان مغامراً عام 1874م ولم يتعدّ عمره الـ18 عاماً. وقد تجول في أرجائه لكن رحلته انقطعت فجأةً بسبب انتشار التمرد في جبال النوبة وعدم استقرار الحكم التركي المصري في دارفور، مما جعله يعود مكرهاً إلى الأُبيّض ثم الخرطوم. وبعدها، وبسبب الإلحاح الشديد من أسرته، قرر وقف مغامرته نهائياً، ورجع إلى ﭬـييناعام 1875م، لكن حلمه بالرجوع إلى السودان لم يفارق مخيلته أبداً (1).

بعد عودته إلى ﭬـيينا انخرط سلاطين باشا كضابط برتبة ملازم في الجيش النمساوي وشارك في حرب البوسنة. وعندما كان يضع حداً لخدمته في الجيش النمساوي وصلته برقية مفرحة في عام 1878م من غردون باشا يطلب فيها منه العمل بالسودان. لكن، وبسبب تأخر إجراءات تسريحه من الجيش النمساوي، تأخر وصوله إلى السودان حتى عام 1879م. وبعد وصوله عيّنه غردون باشا مفتش مالية عموم السودان، وهو العمل الذي أوقفه على رؤية فداحة الضرائب وفساد موظفي الحكم التركي المصري وجورهم على المُواطنين، مما أوصله إلى قناعة راسخة بأنّ نظام الضرائب في السودان لا يُمكن تغييره إلاّ بتغيير كامل للرؤية والهيكلة في الحكم التركي المصري في السودان، الشيء الذي جعله يقْدم على تقديم تقريره واستقالته في آن واحد. ورغم قبول الاستقالة إلا أنه أرسل مُباشرةً ليتم تعيينه مديراً على حامية دارا في دارفور.

وقد تطوّرت الأمور من بعد بالنسبة للشاب سلاطين باشا سريعاً، فبعد تعيين رؤوف باشا حاكماً لعُموم السودان أصدر أوامره في عام 1881م بعزل الإيطالي مسدجاليه بك وتعيين سلاطين باشا حَاكماً عَاماً على مديرية دارفور الشاسعة المساحة والمُعقّدة التفاصيل وعُمره لم يتجاوز 24 عاماً!، وقد توسع سلاطين باشا في كتابه «السيف والنار في السودان» في رواية هذه التجربة وسرَد أحداثها على نحو مفصل.

بعد استلام دارفور من قبل الثورة المهدية تغيّرت الأمور من حول سلاطين باشا حتى أوصلته، بعد أن عانى كثيراً من الحبس في القيد، إلى ان يصبح أحد المؤمنين الزاهدين التابعين إلى المهدية، وعمل كملازم دائم للخليفة عبد الله التعايشي لأكثر من 10 أعوام حتى فراره إلى مصر عام 1894م. وقد استقبله العالم الأوروبي كأحد الأبطال المظفرين القادمين من ويلات القارة السوداء وأُعطيَ أعلى التكريمات والأوسمة من قبل الإمبراطوريتين البريطانية والنمساوية. وعند بداية حملة إعادة استعمار السودان عام 1896م – بشكل مترافق مع نشر كتابه – عُيّن في إدارة المخابرات (The Intelligence Department)  مساعداً لمدير قلم المخابرات وينجت باشا مَلاكه الحارس ومُعِدّ خطة هروبه إلى جانب تحريره وترجمته ونشره كتابه «السيف والنار في السودان».

بعد قيام الحكم الإنجليزي المصري في السودان عُيّن سلاطين باشا مفتش عام السودان. وهي وظيفة إدارية ذات سلطات واسعة ومسؤوليات كبيرة يكون فيها مُراقباً لجميع المفتشين العسكريين والمدنيين في السودان بما يشمل الجوانب: العسكرية، المالية، القضاء المدني والشرعي، المُخابرات، مخازن الغلال، التعليم، النقل وغيرها(2). واستمر بالمنصب حتى بداية الحرب العالمية الأولى، لكن بسبب كون النمسا أصبحت رسمياً عدوة لإنجلترا فإنّه قد سُرّح بهدوء من منصبه.

تُرجِم كتاب «السيف والنار في السودان» إلى اللغة العربية عام 1930م بعد مُرور أكثر من 44 عاماً على صدوره لأوّل مَرّة باللغة الإنجليزية. وقد أنجزت الترجمة العربية جريدة «البلاغ» التي كان يتولّى تحريرها القانوني والصحفي عبد القادر باشا حمزة (1880-1941م) الناشط المصري القومي ضد الاستعمار الإنجليزي في مصر والسودان. وقد رأَس عبد القادر باشا في عام 1910م تحرير جريدة «الأهالي» اليومية حتى أصدر جريدته الخاصة «البلاغ» بالقاهرة عام 1923م. وساهمت جريدة «البلاغ» بترجمة عمليْن مُهمّيْن يُصبّان في صلب قضايا مقاومة الاستعمار نُشِرا في حلقات متسلسلة على صفحاتها: الأول كتاب «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» لمؤلفه السير/ ويلفريدبلنت، والثاني كتاب «السيف والنار في السودان» لمُؤلفه سلاطين باشا. وقد اعتمدت ترجمة كتاب «السيف والنار في السودان» على النسخة الشعبية المختصرة الصادرة عام 1914م في إنجلترا من دار نشر إدوارد أرنولد (EDWARD ARNOLD).

اعتمدت هذه النسخة الجديدة المحقّقة والمحرَّرة من كتاب «السيف والنار في السودان» بالأساس على النسخة العربية لترجمة جريدة «البلاغ» إلى جانب مراجعتها من الطبعة الشعبية الإنجليزية. وتمتاز الترجمة العربية بالمتانة والوضوح فضلاً عن سلاسة اللغة، الشيء الذي أتاح لها الحياة كنسخة مقروءة لأكثر من 80 عاماً حتى الآن. برغم أن ذلك لم يمنع من احتوائها على كثير من الأخطاء تركزت غالبيتها في تهجئة أسماء الأعلام وسقوط فقرات مختلفة من النص الأصل باللغة الإنجليزية.

ركّز عمل التحرير والتحقيق على مراجعة ثغرات الترجمة العربية بدقة وتصحيح أسماء الأعلام وهي التي انتشرت أخطاؤها في ثنايا الكتاب إلى حدّ أن أوصلتها أحياناً إلى تحريف الحدث أو الخلط بين رقعتين جغرافيتين شديدتي التباين والاختلاف. وقد قامت المراجعة بتصحيح دقيق لكل أسماء الأعلام بالكتاب مُقارنةً مع الأصل الإنجليزي من الطبعة الشعبية الإنجليزية. مثل تصحيح أسماء: مدن، جبال، أقاليم، قبائل، مناطق جغرافية، طرق صوفية، قادة حربيين وشخصيات سودانية وغيرها. وقد وصل تعداد أسماء الأعلام المصححة إلى أكثر من 480 اسم علم.

بالنسبة إلى الترجمة، قام عمل التحقيق بمراجعة النص العربي ومقارنته بالنص الإنجليزي الأصل. وقد وجدت عديداً من الفقرات والجُمل التي لم تُترجم إلى اللغة العربية، وقد تراوحت بين تعديلات طفيفة لسطر أو اثنين وحتى سُقوط فقرات كاملة ومهمة تضرّ بفهم الكتاب والتوثق منه، وكمثال فقد سقطت في الفصل السابع عشر من الترجمة العربية رواية لتفاصيل الهروب الأول الفاشل لسلاطين باشا عن طريق منطقة خور شمبات. وقد تمت ترجمة الفقرات والجُمل وإضافتها من جديد مع مراعاة لغة وأسلوب التعبير للترجمة العربية لجريدة «البلاغ».

أيضاً لم تحوِ الترجمة العربية لكتاب «السيف والنار في السودان» إهداءً ومُقدمات ومُلاحظات النسخة الإنجليزية الأصل، فضلاً عن سُقوط جميع اللوحات المُرافقة للكتاب في النسخة العربية. وربما يرجع ذلك إلى ظُرُوف النشر المُتسلسل بحلقات في الجريدة بما لا يُمَكّن من التضحية بحلقات كاملة في مُقدِّمات تمهيدية أو لوحات خارج الموضوع الأساس. وقد استرجع عمل التحقيق والتحرير كل مفقودات النص الإنجليزي في هذه النسخة الجديدة من إهداء ومقدمات وملاحظات. أيضاً تمّت إضافة جميع اللوحات المُرافقة للنص المكتوب في نفس المواقع التي وُجدت بها في المُقابل الإنجليزي، بما يجعلها نصوصاً تشكيلية تريح القراءة وتعبر بشكلٍ مُختلفٍ عن أحداث الكتاب.

وقد قام عمل التحقيق والتحرير بمراجعة الاقتباسات الكثيرة من اللهجة العامية السودانية بسبب خبرة المؤلف بالسُّودان ومُعاشرته الطويلة لأهله، والتي ذكرت بشكل خاطيءٍ في بعض المواقع بالترجمة العربية مما أبعدها كثيراً عن المعنى المراد. وكمثال ورد في الفصل الخامس مقطع لشاعرة سودانية تقول فيه:

“راجلي اضليم وابويا ربطة. سفر يومين سووهم في جبطة”

والصحيح القول:

“راجلي هضليم(3) وابويا رَبْدا(4) سفر يومين سووهم في جبدَة(5)”.

ومعنى المثل: إن زوجي ذكر نعام وأبي أنثى نعام، ومن شدة سرعتهما فإنهما قد قطعا سفر يومين في لحظة قصيرة. وهو دليلٌ على الجبن والهروب من المواجهة.

في الأخير قام عمل التحقيق والتحرير بإضافة مُعجم مُختصر لبعض المعلومات التاريخية المذكورة في كتاب «السيف والنار في السودان». والسبب أنه بعد مرور أكثر من 130 عاماً على أحداث الكتاب فإنّ كَثيراً من المعلومات التاريخية من أسماء ومعارك وقبائل وشخصيات وغيرها قد تكون غير معروفة للقارئ المعاصر. وتأتي إضافة المعجم بغرض زيادة التوضيح وتوسيع حجم القراء المهتمين بالكتاب لإضاءة مجريات رواية سلاطين باشا عن تاريخ تلك المرحلة من تاريخ السودان. وتعتمد المعلومات الواردة بشكل أساسي على «القبائل والأنساب في السودان» للبروفيسور/ عون الشريف قاسم إضافةً إلى مراجعتها وتنقيحها مع مراجع تاريخية أخرى مُهمّة تعرّضت لتلك الفترة الحرجة من تاريخ السودان الحديث.

في الختام نرجو أن تكون محصلة هذا الجهد ولادة جديدة لكتاب «السيف والنار في السودان» لمؤلفه سلاطين باشا ممّا يعني إضافة ثرة للمكتبة السودانية والتي نتمنّى مُستقبلاً زيادة طاقاتها الإنتاجية لتشمل مختلف ضروب التأليف والنشر.

مراجع:

1- نعوم شقير: جغرافية وتاريخ السودان. ط 1، دار الثقافة، بيروت، 1967م. ص 607.

2- جغرافية وتاريخ السودان. مرجع سابق، ص 195 – 196.

3- عون الشريف قاسم:قاموس اللهجة العامية في السودان.المكتب المصري الحديث، القاهرة، ط2،1985 م

مادة: هضلم، ص 1188.

– هضليم: ذكر النعام.

4- نفس مادة: ربد، ص430

– رَّبْدا: النعامة الأنثى. والذكر منها الهضليم.

5- نفسه. مادة: جبد، ص 201.

– جَبْدَة: قطع مسافة. والمقصود أنهم قطعوا مسافة يومين في زمن قصير.

* كاتب من السودان

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تصدره صحيفة السوداني.

 

زر الذهاب إلى الأعلى