تجربة “الرَّحَّال” بين الدراما الموسيقيَّة وفن الأوبرا والدراماتورج.
يُمكننا أن نُهدر الكثير من الوقت في مُحاولة تسمية هذا العمل الفني الذي عُرض بالمتحف القومي أمسيَّة الخميس 20 أكتوبر 2016 تحت اسم “الرَّحَّال”. فهو “إعداد دراماتورجي” اتَّخذ هيئة “الدراما الموسيقيَّة” المنفتحة على تقاليد “الأوبرا الغنائيَّة” وشعر “الملاحم الراقص”. وفكرة الإعداد الدراماتورجي فكرة ما بعد حديثة أصلاً وبالتالي لا تسمح بالتفكير في سؤال النوع والتجنيس الفني إلاّ من باب مُحاولة استكشاف الصُور المستعينة بكل هذه الأجناس معاً في مكان واحد هو مكان العرض “س” الآن وهُنا. سؤال النوع سؤال أجناسي المنشأ وكلاسيكي الأصل بينما فكرة الدراماتورج لا أجناسيَّة أصلاً ومُتجاوزة لسؤال النوع والجنس ومنشغلة بسؤال المعياريَّة وسقوط الحدود.
لا بُد أن نذكُر هنا أنّ هذا العمل الفنِّي الموسوم بـ “الرَّحَّال” لربَّما هو أوَّل تجربة سُودانيَّة دراميَّة موسيقيَّة مصحوبة بأداء كورالي أوركسترالي راقص، عبر أصوات مُغنِّين سوليست وكورَس مَسرحي ومجاميع تشكيلات راقصة وشَخصيّات مُؤدَّاة غنائياً ضمن قصة لا أجناسيَّة أيضاً، مُستفيدة من قصائد شعراء سُودانيين معروفين كالشاعر (مُحمّد عبد الحي) والشاعر الدرامي (عادل إبراهيم مُحمّد خير) والشاعر (أمين صديق) وبعض مقاطع روائيَّة مأخوذة من حوارات رواية “الخيميائي” لـ (باولو كويلو) وبعض القصص والشخصيَّات الملحميَّة من تاريخ الحضارة المرويَّة التي شكَّلت عظم القصَّة ذات الطابع التاريخي المنفتح على فضاء الأسطورة شكلاً ومضموناً.
يصعُب بعد هذا الوصف الأوَّلي أن نتغاضى عن جِدَّة التجربة نفسها في حقل وتاريخ “الدراما الموسيقيَّة” في السُّودان، ولربما أنَّها لا تشبه عملاً في هذا التاريخ أكثر من مُشابهتها لتجربة إخراج قصَّة “ثورة أكتوبر” الموسومة بـ “الملحمة” على خشبة المسرح القومي السوداني في العام 1968 بعد أربع سنوات من الثورة نفسها في العام 1964.
كانت تجربة الملحمة شراكة فنيَّة مطهوَّة وفق مذاق عقد الستينيَّات نفسه وتقاسم طبخها داخل أجواء ملحميَّة كل من الشاعر والمسرحي (هاشم صديق) تأليفاً، المُمثل والمخرج الفنَّان (مكي سنادة) في الإشراف العام على الرؤية الإخراجيَّة والخشبة، المغني والموسيقار (مُحمّد الأمين) في التلحين والغناء، وفي التوزيع الموسيقي كان هناك الموسيقي “مُحمَّد موسى إبراهيم”، وشارك في الغناء أيضاً كل من (عثمان مصطفى) و(خليل إسماعيل) و(بهاء الدين عبد الرحمن) والفنانة (أم بلينة السنوسي).
المُشترَك بين التجربتين بديهي بالنسبة لاعتبار التاريخ، لكنّ الأهمَّ أنهما لربما التجربتان الوحيدتان المنفتحتان على المُزاوجة بين الدراما والموسيقى والغناء والرقص المسرحي في عمل واحدٍ طويلٍ، اتَّخذ طابع الملحمة الجمالي المستند على تصوُّر رومانتيكي محايث للسياق في التّجربة الأولى، بينما انفتح على الدراما الغنائيَّة المُتاخمة للأوبرا والباليه في الثانية الموسومة بالرَّحَّال.
مَعروفٌ أنّ أشكال الفنون المُهتمة بالمُزاوجة بين الدراما والمُوسيقى في شكل أوبرالي هي سليلة مُحاولات الحركة الرمزيَّة في ألمانيا القرن التاسع، والتي آلت إلى نظريَّة جماليَّة خاصة بالمؤلِّف الموسيقى (ريتشارد فاغنر) (1813 – 1883) عبر أوبراته الشهيرة “تريسيتان وآيزولدة”، و”سيِّد المغنين” والرباعيَّة الملحميَّة “خاتم المغنِّين” التي كتب نصَّها وموسيقاها بنفسه وكان قبلها قد بدأ التمهيد لنظريَّته الجماليَّة التي أودعها كتابيه الموسومين “العمل الفني مستقبلاً” أوَّلاً ثُمَّ “الأوبرا والدراما”. معروف أيضاً أن هذه الحركة نفسها هي أكثر الحركات الفنيَّة الكلاسيكيَّة تأثيراً على هيئة واستخدام الصوت والموسيقى في الأعمال الدرامية الغنائيَّة باستضمار نيَّة إحداث الأثر الشعائري الطقسي في المُتفرِّج، عبر تعظيم دور الحواس البشريَّة في التواصُل البشري وضمن تصوُّر فلسفي يُعلى من الاهتمام بقدرة الصوت البشري والموسيقى ويستفيد في ذات الوقت من طاقة وكيان الأسطورة في تشكيل الصورة الدراميَّة والمُحتوى القصصي وأداء المُمثل الذي تفترض الرمزيَّة أنّه مُؤدٍّ من نوع مُستقبلي قادر على تجاوز اختباري الجسد والحس، وحقيقي بحيث أنه يُضاهي الموسيقى باعتبارها أكثر الفنون الحسيَّة نقاءً كما هي مقولات الرمزيَّة الواغلة في تراث رومانسي.
مثل هذه التجارب الدراميَّة المُوسيقيَّة نادرة في خشبات المسارح المعاصرة بعد أن ورثتها السينما الحديثة ضمن نوع “الفيلم الموسيقي الغنائي”، والذي يُمكن أن ندل عليه بأفلام: (جولة استمتاع في المدينة: 1949)، (الرقص تحت المطر: 1949)، (السادة يُفضِّلون الشقراورات: 1953)، و(صوت الموسيقى: 1965)، والكثير من أفلام الرسوم المتحرِّكة المُختصَّة بسرد القصص التاريخيَّة سينمائياً كأفلام “والت ديزني” وأهمَّها فيلم (الجميلة والوحش: 1991).
من أشهر أفلام هذا النوع السينمائي الدرامي الموسيقي المعاصر وآخرها من حيث الإنتاج فيلم (الطاحونة الحمراء: 2001) أو “ماولين ريوج” للمخرج (باز لوهرمان) الذي حقَّق بواسطة هذا العمل مُحاولته في أعادة إحياء نوع الفيلم الموسيقي الغنائي في عصر ما بعد الحداثة وبواسطة معايير جديدة متَّصلة بالثورة التكنولوجيَّة وأثرها على صناعة السينما راهناً. وعندما نَتَحَدّث عن هذه الصناعة راهنا فعلينا أن نتدارك بالقول إن المكان السوداني غير مؤهَّل لخوض هذه المُقاربة تاريخياً بالذَّات في حقل الدراما الموسيقيَّة الحيَّة، باعتبار أنه لا يزال منخرطاً في سؤال أوَّلي هو سؤال مكان العرض نفسه!
نخرُج من هنا وندخُل من باب هذه التجربة الجديدة لنستعيد التأمُّل في أشكال فنيَّة رفيعة تخذلنا الإمكانيَّات دوماً في مواجهتها بالجاهزيَّة اللازمة. نتأمَّل صورة هذا العمل ونحن نُدرك أنَّه لربما يكون العرض الأوَّل والأخير من نوعه في هذا المكان، ونتأسى أيضاً ببعض الإخفاقات التي منعتنا من مُتابعته بتفصيل لا يُتاح من المشاهدة الأولى مهما بلغت درجة الانتباه. فمُشكلة هندسة الصوت مثلاً مشكلة باتت كثيرة التكرار في العروض التي تستغنى عن المكان التقليدي وتختبر أمكنة جديدة. الإرهاق المُتبدِّى على جبين طاقم العمل الكبير وهو في ليلة العرض الأُولى، ازدحام الجمهور على المكان نفسه بما لا يُتيح القدر الكافي للتركيز، وموات حيل الصوت والأداء الدرامي المتوقَّع بعد إرهاق متَّصل في بروفات مُتكرِّرة لإخراج هذا العمل.
ما ذكرته بعالية هو مشاهدة أوليَّة لعرض دراماتورجي من إعداد (د. شمس الدين يونس) في الإعداد الدراماتورجي، في التوزيع الموسيقي الصديق (الصافي مهدي)، في الغناء أصوات كثيرة بجانب (هاني عابدين) و(مهديَّة ابراهيم) و(ملاذ غازي) وفي الإخراج أستاذ مادة الإخراج المُشارك (عادل حربي)، يُساعده في الإخراج (عادل فطر) وجيوش جرارة من المؤدين والراقصين السودانيين وغناء بأصوات أفريقيَّة أخرى لم نعلم عنها شيئاً بمثلما لم نعلم عن ملحِّن هذا العمل الجديد شيئاً فمن هما؟!
* كاتب من السودان
* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تصدره صحيفة السوداني.