هل أنتَ شخصٌ مُهمٌّ جداً؟! حسب تصنيف جوتة الثقافي؟
شكراً معهد جوتة الثقافي على الفكرة، شكراً على المجهود، وللفنانين، الجماهير الجميلة، والخرطوم على وجه الخُصُوص المدينة التي ما زالت تتجمّل بالموسيقى والفكر وسط أنقاض البناء الثقافي العام، محبتنا واحترامنا، وجوتة، الشاعر المستكشف ضمير اللغة والمؤمن واسع الإطلاع يرمق ما يقوده أحفاده وشباب سوداني باسمه من تجوال ثقافي محبب إلينا نتقرب به إلى الله عسى نتحقق معاً في قوله الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) صدق الله العظيم.
تلك صورة من صور الحب العظيم الذي سخره الله لنا لنعمر الأرض ونخرج من جدبها خضرة ومن عطشها رواء، تلك الصورة التي جذبت مئات المواطنين السودانيين إلى متابعة كل الفعاليات بشغف المُشارك الذي خاطبت الدعوة الموزعة على طرقات العالمين الفعلي والافتراضي وجدانه الإنساني وقادت خطاه إلى حشد من الخطى يسعى كل مساء نحو أرض مُحايدة، أغرتها الموسيقى نحو الحياة.
خرجت ذلك المساء أسعى نحوها، عبداً أعتقه العمل بعد طول تجبر وعناء! فانطلق يركض حُراً نحو فضاء المتحف القومي، ذكرى قديمة محفورة على جلد بلدي القوي الأثير، أفكر كما – أظن – قد فكر الكثيرون أن اختيار المتحف القومي لعرض دراموسيقي باسم (الرحال) لابد وأنه إشارة غنية وعميقة إلى قوة الصور التي لابدّ ونحتها المخرج والمؤدون بين جنبات ذلك الفضاء القديم، أفكر في حال بعض الأصدقاء الذين سأقابلهم حتماً وقد طال بيننا البُعد زَمناً، أفكر في حالي وقد حيل بيني وبين مثل هذه الفضاءات الثقافية والفنية لردح من الزمان، أتبسم حين أتخيّل المكان وقد اتسع لنا ونحن ندخل إهابه وأحب صورتي وهي تجلس كالرهبة قدام ما أتخيله لوحة كاملة البهاء من التحام المؤدين والراقصين في عرض دراموسيقي أعرف مخرجه ومُساعده وكثير من صناعه ولي في بعض أغنياته كلمات، أتبسّم عندها معتبراً نفسي أحد صناعه، وحينها أحب أنْ أكون.
أدخل من بوابة المتحف مطمئناً موافقاً على تفتيشي من قبل حرس البوابة داعياً أحد الشباب المنزعجين إلى التعاون مع الأمر على أن لنا فيه كلنا مصلحة، أشكر حارس البوابة، وأعبر بين الناس، ذلك الحشد من مُحبي الفن المنتشرين في الفناء المخضر الذي تتخلّله السلالم والعتبات الحجرية، تتوزع مساحاته تماثيل قديمة يعود تاريخها إلى أكثر من مائتي عام، أسلم – كمن يرقص – على بعض الأصدقاء، نتصافح بالأيدي والقلوب، نحتضن بعضنا كمن يتوب من الفراق ونضحك على كل كلمة نقولها لبعضنا ونحن نتعجّب من طول الغياب الذي قبلناه بأنفسنا وتعودناه مثل أنفاسنا ونحن لا ندري أننا مُجبرون.
“هذه الليلة ستكون توبة من الغياب” هكذا فكرت وأنا أدخل وسط الناس مُستأذناً لأقترب من مكان العرض، المشهد الرئيسي في ليلة احتفال جوتة الدراموسيقي، عَلّني أجد مكاناً يواجه مكان العرض ولو على بُعد قريب، أوقفتني أيادٍ متماسكة لفتيات سودانيات، لم التفت لذلك، اعتبرتهن صديقات يتماسكن كنوعٍ من التقرب أو الإعلان الصداقي، وهن أفسحن لي وإحداهن تسأل مرتابة ومتهيبة:
– VIP ؟
لم أرد، عبرت، ولكنني بعد خطوات قليلة فهمت ما سمعت، لأنني وجدت المشهد الرئيسي مُكتمل العدد، المكان الرئيسي المُواجه لمكان العرض مباشرة هو المكان الوحيد الذي توزّعت فيه كراسٍ للجلوس، وقد امتلأت بالحُضُور، وأمام حُضُور المشهد الرئيسي تراصت كراسي الذين ذكرتهن أمامي الفتاة المرتابة المتهيبة:
الـ VIP
سألت:
– هل كانت هناك دعوات خاصة لهذا اليوم؟.
– نعم.
– وهل هي التي سمح لها وحدها بالجلوس كمشهد رئيسي لهذا الاحتفال؟.
– نعم.
– وهل من بينها من هُم أشخاصٌ مُهمِّون جداً؟.
– نعم.
– وهل يعتقد (ناس جوتة) حقيقة أن احتفالاً ثقافياً مثل هذا العرض يحتاج إلى أن يرعى بعض الأشخاص لحُضوره مُتميِّزين عن الباقين كأشخاص مُهمِّين جداً؟.
– …………………
المشهد غير الرئيسي في احتفال جوتة الدراموسيقي كان خارج دائرة جلوس المدعوين بكروت خَاصّة والأشخاص المهمين جداً كما يلي:
– صوتٌ ضعيفٌ جداً غير مسموع جيداً لمن هُم خارج دائرة الحدث الرئيسي ما عدا صوت الصولو.
– مَشهدٌ دِراميٌّ بعيد جداً ومن جوانب أخرى غير مرئي تحجبه بعض الأشجار والآثار.
– وقوفاً من غير كراسٍ ولا حتى صناديق بارد.
– انغمسوا في ونسات ومواضيع أخرى على أساس عدم أهمية مشهدهم وهذا رد فعل متوقع.
– هل قصد (ناس جوتة) أن يصل حُضُور المشهد غير الرئيسي لرد الفعل السابق ذكره استناداً إلى عدم أهمية رد فعلهم نفسه ما دام المشهد الرئيسي مُكتملاً؟.
أخي مدير معهد جوتة الثقافي بالخرطوم – السودان:
قد تكون جماهير الناس حسب تصنيف معظم المهتمين بسيكولوجيا الجماهير قطيعية السلوك، يتبعون عامته ولا ينتبهون لخُصُوصية ردود فعل كل منهم على وجه الخُصُوص، وقد لا يعي بعضهم أو كثيرهم الآن معنى أن يكون مُهملاً غير مشمولٍ بأهداف خُطة الاحتفال وغير مُدرج في مُؤشّرات التقييم الخَاصّة به إلاّ على أنه رَقمٌ مُضافٌ إلى مجموع من حضروا الاحتفال، ولكننا لاحظنا ذلك؟ قد لا تصدق، ولكننا لاحظنا أنّنا كنا ضمن (تمامة العدد) لضبط مؤشرات تقييمكم ومُنِعنا من عُبُور خط البنات السودانيات المتماسكات اللائي يسألن بريبة متهيبات: VIP? هل أنت شخصٌ مُهمٌ جداً؟! وكنت أنت ضمن خط الأشخاص المُهمِّين جداً، توشك أن تظن نفسك – وأتمنى أن يخيب ظني – جئت السودان غازياً مثلما ظن مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة للشمال أنه دخل أوروبا غازياً – مع الفارق بالطبع – فآذى نفسه وآذى من أحب، وأخشى أنّك تسلك سلوك من لا يعي جيِّداً أنّ دوره الثقافي يحرمه من ميزة الاستمتاع بخدمات التمييز، وأنّك الوحيد الذي تحتاج إلى تقديم عظة لغيرك في أهمية أن توحد الثقافة الناس على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، وليس التراتب على أساس القيمة والأهمية الذاتية بالنسبة إلى مركزكم الثقافي العادي المُتواضع، وأخشى أن ردك المتوقع على أن المركز يحق له أن يوزع دعوات لضيوفه في إطار فعالية عمل الاتصال، مردودٌ بأنّنا نُقدِّر ذلك جَيِّداً ولكنّنا ندعوك إلى زيادة فعالية عَملك الاتصالي بالحِرص على ضَمان تَمتُّع ضُيوفك المدعوين بكروت خاصة وغيرهم المدعوون بإعلان عام بنفس الميزات الرئيسة في التمتُّع بأريحية الضيوف في حفل مضيفهم، ومُتابعة وسماع صورة وصوت العرض الدراموسيقي ما دامت الدعوة تتضمّن حُضُورهم، ولعلك تعرف أن هناك طرقاً لضمان ذلك مثال توزيع شاشات لنقل الصورة إلى مُختلف أماكن الاحتفال وتوزيع سمّاعات أيضاً، وبعض الكراسي لضيوف المشهد غير الرئيسيين لرفع معنويات ضميرهم ليساهموا في التفاعل مع المشهد الرئيسي، فقد جاءوا بناءً على دعوتك ووقفوا كخيول الاستعراض يجملون فراغات حفلكم بالركض خلف زوايا النظر!!
ذلك ونصيحة خالصة لوجه الله، بناتنا السودانيات (ديل)، لم نعتد وهن على استخدام هذه المفردات الطبقية بالرغم من استخدام سياسيينا لها واهتمام إدارة المطار بإبرازها كخدمة خاصة، فرجاءً لا تُساهم في حط مفاهيم الضيافة لدينا – على الأقل ثقافياً – إلى حد تعريف الناس حسب درجة أهميتهم لدى المُضيف!! بالإضافة إلى اعتقادي أنّ استخدامها بوجهٍ خاصٍ وسط احتفال ثقافي ينظمه مركز ثقافي يفترض فيه أنّه يستهدف إدارة تجربة مُشاركة ثقافية دولية جامعة أظنه لا يخدم ذلك الهدفإن لم يكن يهدمه، خاصة وأن المصطلح لم ولا أتوقع استقراره على شفاه أجيالنا السودانية بسهولة، فقد اعتدنا البُسُط الأحمدية أكثر، لذا أظنهن/م سيظلون ينطقونه لفترة طويلة جداً بهذه الطريقة المرتابة المتهيبة: VIP ؟
– هل أنت شَخصٌ مُهمٌّ جداً؟!.
– أممم!! لا،أنا شَخصٌ وَضيعٌ جداً.
– إذاً لا يمكنك المرور من هنا، هذا المكان للأشخاص المُهمِّين جداً.
– أأأ!! الحقيقة أنني نسيت، إنني شَخصٌ مُهمٌّ جداً آنستي.
– حسناً، هل معك كارت معهد جوتة الخاص الذي يثبت أنك شَخصٌ مُهمٌّ جداً؟!!.
– ………….
مع شكري وتقديري
*مؤلف ومخرج مسرحي غير مهم إطلاقاً
* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تصدره صحيفة السوداني.