ثمار

وهم الطريق الواحد الحركة الثقافية السودانية: محاولة لتعريف الانتماء

 (1)

للكلمات حياة، وبالذات تلك التي تطفو على سطح الحياة العامة مشكلَّةً لنفسها نوعاً من السلطة المكتسبة من الأحداث الواقعية التي أدت لبروز تلك الكلمة المعينة. مثلاً:  كلمة (تعدد) هي  الوليدة الشرعية للحروب التاريخية في أطراف وهوامش البلاد وهو الحدث. بينما وجود الكلمة فعلياً لم يتسلل إلى أذهان المثقفين والسياسيين إلا بعد ضربة الحرب؛ فقد قام بعض الباحثين والمفكرين وحتى السياسيين بالانتباه إليها كواقع لا مفر من الاعتراف به، خاصة الأفراد المصابين بظلمٍ نسبةً لتجاهل المجتمع والنخب لهذه الكلمة. ولكنها بدأت تؤثر في الذهنية الإجتماعية العامة وتفرض وجودها بعد أن ذاقت الحياة الاجتماعية من ورائها الويل والدمار وخسارات تمثلت في أرواحٍ واقتصادٍ كسيح ..إلخ. ولكن ما أريد تناوله هنا ليس كلمة (التعدد) في حد ذاتها وإنما سيرها في نفس الطريق الذي سارت فيه أخواتها، بدايةً بالعدل وانتهاء بالديموقراطية، وهو ما يؤكد حياة الكلمات إذ أنها تملك عمراً، ومواقف يلعب البشر دوراً أساسياً في تشكيلها.. والطريق المكرر هذا يؤدي إلى آلةٍ كبيرةٍ تطحن هذه المفاهيم (والتي تعتبر آخر ما توصلت له الإنسانية كردِّ فعلٍ طبيعي من معاناتها) محولةً إياها إلى قائمة المنسي والمساهم في (غضِّ البصر) العام. ويمكننا القول: غالباً ما تُنتج هذه الكلمات بعد أن يخوض الإنسان تجارب مؤلمة بشكلٍ رهيب ليتيقَّن بأحقيتها، إذ تبرز إلى حيز التداول السياسي والثقافي الواسع بين الأيدي المحركة لوجه التاريخ الكالح بعد دخول الصور والمشاهد البشعة، قتلاً وهزيمةً ودماراً، في ذاكرة الشعب بأدوات حادَّة وحقيقية. ومن بعد تبدأ محاولة تطبيقها على أرض الواقع كمخرج مهم للكارثة التي تهدد وجود هذا الشعب، والأهم من ذلك: السلطة.

(2)

ولكنني أريد أن أمسك بأحد الأسباب التي تؤدي بكلمة مثل (احترام التعدد) إلى مزبلة النسيان. أتحدث من موقع إيمان بالحركة الثقافية كآلية أو مجموعة آليات فعَّالة، مما يقتضي موقفاً نقدياً من (المحرِّك السياسي)، وسيكون من المُخِل جداً وغير المجدي أن يحاكم نقدياً من وجهة نظر أخلاقية تنتمي إلى الضمير الثقافي (والذي يعتبر مثالياً نوعاً ما بالنسبة للسياسي، وهذا يعود إلى طبيعة الصراع في الساحة الثقافية، وهو صراع مغلَّف بحجَّة طبيعة المادة القائم لأجلها هذا الصراع: إن كانت فكرية أو أدبية أو فنية.. الخ) وهذا الموقف النقدي منتشر وشائع في محاكمة السياسيين وهي في الحقيقة أقرب إلى (مطالبة) أخلاقية يطالب بها المجتمع _بكل انتماءاته_ المحرِّك السياسي، بل إن السياسي (ويا للمفارقة) يستخدم نفس المطالبات الأخلاقية في مواجهة خصومه في الضفة الأخرى. وأقول أن مسألة الأخلاق هي (كما هو بديهي) نسبية جداً بحيث يكون انتقالها من مساحة إلى أخرى مغيِّراً لأساساتها تماماً. مثلاً لا يمكن أن تكون الأخلاق في التجارة هي نفسها أخلاق المهن الوظيفية، ولا في المجتمعات الآسيوية كما هي في المجتمعات الافريقية، حتى أنها تختلف من فرد إلى آخر، ولكن المهم والمرعب في نفس الوقت أنها: تستخدم بلغة واحدة، إنها متشابهة في الكلمات التي (تدل) عليها. وللتوضيح فإنني أقصد بالضبط الأخلاق ذات الإتجاه الإيجابي في المفاهيم الاجتماعية (العامة)، تحديداً تلك التي لن تجد شخصاً _مهما كان منتهكاً بسببها أو بذريعتها_ يستطيع أي ينكرها!!

باختصار: الأخلاق (العامَّة) أو المتفق عليها إجتماعياً بصورة كبيرة هي الطريق الأقصر والأضمن والأسهل لإنزال الكوارث بشتَّى أشكالها على الإنسان لأجل سطلةٍ أو جاه. وربطاً للحديث أقول أنه ليس مجدياً البتَّة بالنسبة لي _وأنا الواقف ضمن تيار الحركة الثقافية_ أن أكيل الشتائم والجمل المجانية على العامل في الحقل السياسي، مثل: (قذارة السياسيين) وما شابهها، لأن الذي أراه قذارةً وممارسات غير أخلاقية قد تتحوَّل في الجانب الآخر _ضمنياً_ إلى كلمات مثل: دهاء سياسي، مناورات هامَّة…الخ وبالتالي يكون العكس صحيحاً. ولكن المفيد هو التعامل واستيعاب هذا الفرق الأخلاقي و(تحديد) السياسي ووضعه في حجمه الطبيعي (ضمن) الحركات الأخرى الساعية إلى تغيير وقلب النظم التي تشكِّل الوعي الاجتماعي.

(3)

في تعريفٍ بسيطٍ لما أسميه بالحركة الثقافية، والتي أفصلها عن قصدٍ _كما هو ملاحظ_ عن بقية القوى المغيِّرة، أنها الإنتاج الأدبي والفكري والفني، وهي أدوات ذات طبيعة مرتبطة بالعمل السياسي والإجتماعي نسبةً للتداخل الواضح بينهما، وبالذات في ما يتعلَّق بالفكري وهو الذي يرتبط به السياسي من جهة والعمل الإبداعي من جهة أخرى. ولكنني أريد أن أشير إلى أنها _الحركة الثقافية_ تفتقد لصفة: (الإستقلالية) التي تمتلكها الحركة السياسية (وبجدارة) في هذه البلاد.

وأقصد أن الحركة الثقافية كانت _وطوال التاريخ والذي يعتبر سياسياً_  رافداً للحركة السياسية (وربما كان مرحلياً في أغلب الاحيان وهو ما يصيب العمل الإبداعي والفكري في مقتل إذ أن الراهن والمرحلي _في رأيي_ سرطانٌ مهلكٌ لهما) إنها لم تكن (جوهراً) قائماً بذاته بحيث يكون السياسي والاجتماعي رافداً لها لتتكون لدينا مجموعة من الحركات المستقلة/المتكاملة تستطيع كل واحدةٍ منها أن تتخذ مواقفها النقدية، وتقرر كيفية ومدى مشاركتها في التكامل (الواجب) في ما بينها وبين بقية القوى دون إملاءٍ أو توجيه. حتى المحاولات التي قام بها (أفراد) في الأساس لأجل هذا النوع من الإستقلال كانت تنهار لأن المنضوين تحت هذا النوع من الرايات، أو (هذا الخيار)، لا يمتلكون إنتماءً كاملاً وحقيقياً له، إذ سرعان ما تبرز الانتماءات السرية والقوية التي تجذبهم إلى رافدٍ آخر للحركة السياسية، وهذا ما سيقودني للرجوع إلى كلمة (بجدارة) التي نسبتها لسيطرة الحركة السياسية على مجرى التاريخ، لأنها استطاعت وبجدارة أن تمنح إرادة الانتماء وقوَّته (وهذا شيء إيجابي وجيد بالطبع) وربما ترجع هذه القوة إلى طبيعة العمل السياسي نفسه، آنيته ونتائجه السريعة، يسنما يَجر العمل الثقافي (المستقل) إلى بركة الإحباط واليأس والإحساس بانعدام رد الفعل بعد القيام بفعلٍ ما.

(4)

ولكن.. هل هنالك طريقة تفكير معيّنة وملامح شخصية يستطيع الفرد من خلال إكتشافها في ذاته أن يقرر الإنتماء إلى الجهة المناسبة؟!

العمل الثقافي داخل بيئة هي في الأصل مشبَّعة بطرق وآليات التفكير السياسي لن تكون له خيارات سوى أن يقتات على فتات تلك الطرق في التفكير واستخدام آليات مشابهة لأن أغلب الأفراد المشتغلين في هذا الحقل يأتون بالعقلية _التي تعتبر أساسية نسبةً للإنتماء_، ولهذا السبب يتغير شكل الصراع داخل الساحة الثقافية ليحولها إلى معترك سياسي مقنَّع. ومن غير المجدي والسطحي أيضاً أن أتحدث عن صراع الأحزاب السياسية _مثلاً_ على النقابات والسلطات ذات الصفة الثقافية. وإنما أقصد الطريقة التي يتعامل بها المثقَّف مع هذه السلطة وذاك المنصب. الإدارة ستكون بنفس الأساليب السياسية وليس هذا هو المهم، بل إن الأهم أنها ستكون بالمبررات الأخلاقية التي تعتبر مرفوضةً تماماً في هذه البيئة والتي تأخذ مسميات واضحة الدلالات (كما أشرت سابقاً لنقطة إنتقال الأخلاق من حيز إلى أخر) لأنها ستكون في المكان الخطأ، وسيكون استخدامها قاتل ولن يدفع بالحركة إلى أي تقدمٍ يصب في مصلحتها وتماسكها، وإنما يقذف بها بين يدي تراجعٍ مستمر تزفّه الهتافات والتصفيق الكثيف.

(5)

عندما قلت: يجب أن نتعامل مع السياسي بمفاهيمه وأساليبه كأمرٍ طبيعي، كنت أقصد أنه سيكون من المضحك جداً أن نطالبه بالتوقف ريثما تستعيد الحركة الثقافية أنفاسها وتستطيع أن تلحق بتقدّمها الرهيب (ولا أقصد تطورها)، وسيكون من المضحك أيضاً أن نقول لها: (اتركينا وشأننا لأنك السبب المباشر في تراجعنا!!) ولكنني أريد أن أقول بأن الخلل يكمن في المحرِّك الثقافي ذات نفسه، وفي أدواته التي فقدها ويفقدها تدريجياً، والإشارة المهمه هنا أن أدوات وآليات الحركة الثقافية تتميَّز بأنها مواد أولية ولا تحتاج لصناعة وتقويم ودراسة لوجودها، بينما الحركة السياسية تكون في حاجة لصناعة هذه الأدوات سواء كانت من خلال التنظيم أو العمل الإعلامي…الخ. وقولي أنها مواد أولية هو أن الإنتاج الثقافي في حدِّ ذاته والذي يعتبر دليل وجود الحركة الثقافية يكون لوحده آلية وقوة وحركة، وهذا ما لا تستطيع سلطة ولا مؤسسات ولا تنظيمات التحكم فيه سلباً أم إيجاباً، بحيث يكون العمل مسئولية فردية في الأساس. أما مصادرته ومنعه من النشر والوصول إلى الجماهير فهو سلاح ثانوي ولا يؤدي إلى موت العمل (إلا في حالات نادرة تكاد تصبح مستحيلة) لأنه سيظل باقياً حتى تأتي المرحلة الثانية من دورة وجوده وهو الوصول للمتلقي. وبكونه مسئولية فردية في الأساس، يكون الحديث عن ملامح شخصية وطريقة تفكير تؤدي بصاحبها لاختيار المشروع الثقافي كخيار جوهري، كانتماء أساسي، يكون هذا الحديث معقولاً، لكي تأتي بقية الانتماءات (سواء كانت سياسية أو اجتماعية) حافزاً ورافداً لهذا المشروع وليس العكس. وجود (أفراد) يستطيعون أن يدركوا القوّة والسلطة التي يتمتَّع بها العمل الثقافي على بقية القوى المغيِّرة، أفراد يدركون القيمة الوجودية لحامل هذه الراية (دون أن ينتظروا من أحدٍ قيمةً وهميةً كانت أم حقيقية). يمكن أن يمنح أملاً لفتح حوار حول خلق آليات جديدة ومنافذ مستقلة وصاحبة قرار وسيدَّة مواقفها النقدية.

(6)

هل يمكننا أن نتقصى الأسباب والمؤثرات التي تمنح المحرِّك الثقافي عذراً للتراجع عن مشروعه الثقافي أو للتهاون فيه، أو لفقدانه قيمته الوجودية بالنسبة له…الخ؟!. هذا ما سيطول الحديث فيه وأرجو أن أتمكن من الكتابة عن هذا الموضوع في كتابة أخرى.

* شاعر وكاتب من السودان

* نُشر بجريدة سوداني عام 2004 م

مأمون التلب

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى