حين سرق السيد الرئيس الجوكر
اكتفى بالسلام علينا من على البعد دون اهتمام كبير، قبل أن يواصل سحب دخان الشيشة وإغراق المكان حوله في الدخان ، لقد جئنا لنراه، لكننا كما قال زميلي سراج: لن نراه أبدا بسبب قنبلة الدخان التي يعيش داخلها.
كان يبدو حين تتبدد سحب الدخان من حوله لحظات الشهيق، مثل ثور يحترق، لحظة وصولنا كان هناك هجوم من المتمردين على أحد أطراف المدينة ، لكنه لم يبد اهتماماً كبيراً بعجلة زملائه الضباط ، الذين ارتدى بعضهم ملابسه بسرعة وغادر البيت. كان يبدو مثل شخص سعيد ، لا علاقة له بمصائب الكون ، يستمد سعادته من معين داخلي لا علاقة له بتعقيدات الحياة في العالم خارج حدود جسده. قال له احد الضباط: هل ستخرج معنا؟
رد بدون اهتمام وهو ينفض الرماد من حبّات الفحم، هل نسيت؟ اليوم يوم عطلتي!
ضحك زميله وقال: لا توجد عطلات في الحرب، هل نخبر المتمردين بعدم شن الحرب أيام عطلة سعادة العقيد؟
قال بدون اهتمام وبرنة صوت آلية: لا تخبرهم بشيء، اذهب وحاربهم ما دمت لا تستطيع الحصول على عطلة من الموت.
دفن السيد العقيد لامبالاته في الدخان، بدأت العمل فوراً: حاولت أن أرى رد فعله على تعليق زميله ، لحسن الحظ انقشعت سحب الدخان من حوله ، فرأيت صفحة وجهه التي تحولت بفعل إدمان اللامبالاة إلى قطعة حجر، كأنه كان يتحدث مع الجدار.
بدأنا العمل فوراً، طلب منه زميلي سراج سيجارة ، سحب صندوقا من جيبه وألقى به في اتجاهنا. لم تبدو عليه السعادة لوجودنا ، لكن لا مبالاته كانت تطغى على أية شعور بالضيق لوجود غرباء. أخيراً وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع الرئيس القادم! مع العقيد: حسن عبد الرحمن النور!
سيبدو أفضل كما لاحظ زميلي سراج لوظيفة كبير الياوران ، يقف بجانب الرئيس ليبتسم نيابة عنه ، وحين يتسلم السيد الرئيس باقات الورد أو بعض الهدايا التذكارية ، يقوم هو بتسلم الهدايا من السيد الرئيس ، ليس من الحكمة أو البروتوكول أن يبق الرئيس طوال اليوم يحمل باقة ورد ، أو صندوقاً صغيراً محشواً بقطع الشوكولاتة البلجيكية. كما يرسله السيد الرئيس لينوب عنه في بعض الاحتفالات الصغيرة التي لا تستحق من أجلها إقلاق راحة الحرس الرئاسي.
قال سراج هامساً: لا يصلح رئيساً، يصلح شبيهاً للرئيس، يحضر نيابة عنه الاحتفالات أو المناسبات التي يكون فيها تهديد أمني على حياة رأس الدولة ، فيتلقى طلقات المتمردين نيابة عن السيد الرئيس ، ضحك سراج بخبث وقال: إذا وصل هذا الرجل إلى الرئاسة سيكون أول شبيه يصبح رئيساً، لن يحتاج لشبيه ، الرصاص لن يؤذي هذا الثور الذي يسير في حراسة الدخّان، مثل قاطرة السكة الحديد، يمكننا بسهولة إيجاد شبيه له أن كان ذلك ضرورياً.
نحتاج فقط إلى ثور يرتدي بزة عسكرية!
سراج لم يكن يضيع وقته، ثرثر في احد المقاهي في الخارج مع بعض اللاجئين الأثيوبيين، في المساء باح لي بالسر الرهيب: السيد الرئيس لديه عمل إضافي في أيام الجمعة و العطلات الرسمية! حسبته يمزح، يتحول إلى شيخ يعالج بالسحر! يشرب برميلاً من الخمر أثناء أيام الأسبوع وحين ينتهي الأسبوع يحرز توبة مؤقتة من الخمر ويرتدي ملابس شيخ ، ضحك وقال: لا بد انه مثل ذلك الشيخ الذي كان يشرب الخمور سراً، وحتى لا يعرف مرافقيه من الحيران بأمره كان يضع الخمر في إبريق الماء الذي يستخدمه للوضوء ، ذات مرة هجم أحد المريدين على الإبريق حتى يأخذ البركة من بقايا مياه وضوء الشيخ، حاول الشيخ انتزاع الإبريق الملئ بالخمر من المريد وحين لم يفلح صرخ فيه محققاً المعجزة السهلة: إنشاء الله الماء يتحول إلى خمر أيها النجس!
لديه عيادة محولة للاجئين، يقوم بطرد الشياطين مستخدما أسوأ علاج لطرد الشيطان: الحب! ما أن يهجم بأسلحة الحب على جسد ما حتى تولي الشياطين الأدبار، فتستعيد المريضة الجميلة عافيتها ، لا يعالج النساء غير الجميلات أو المسنات بالطريقة نفسها ، يقول على النساء الدميمات ، أن الشيطان تمكن منهن حتى أطل من وجوههن! هنا يستخدم خليطاً من الماء المرقي والبخرات.
بدأنا العمل فوراً لكتابة التقرير.
لم نخبر أحداً أننا حضرنا خصيصاً لرؤيته بعد أن رشّحه بعض معارفه داخل حزبنا الذي كان يدبر لعمل انقلاب عسكري، ليكون هو الرئيس القادم ، كان الحزب بحاجة لعسكري في المرحلة الأولى حتى يتمكن من مفاصل الدولة ، وحتى يعطي الانطباع داخلياً وخارجيا إن التغيير الذي سيحدث هو مجرد انقلاب عسكري مثله مثل عشرات الانقلابات العسكرية التي تحدث كل عام من حولنا. اعتمد المعارف والأقارب الذين رشحوه للمهمة على أنه لا يملك طموحا للقيادة ولا حتى لقيادة مركب شراعي، وانه لولا أن والده دفعه دفعا للدخول للكلية الحربية لم يكن يطمح سوى أن يفتتح مقهى لبيع المشروبات والأطعمة الشعبية، فقد كان يعشق شراب كل شيء من الشاي وانتهاء بالخمور إضافة للعب الورق والنساء. حين دفعه والده للدخول إلى الكلية الحربية لم يهتم كثيراً لتغيير قدره، فإحدى فضائله القليلة أنه كان لا يفكر كثيراً ، إذا حدث تغيير ما في حياته لم يكن يتوقف ليسأل لم حدث ذلك، كان يكتفي بتغيير اتجاه شراع مركبه باتجاه الريح الموجود أيا كانت جهة هبوبها!
حين طرقنا باب البيت فتح لنا أحد الضباط الباب، كان شاباً لطيفاً متوسط الطول يضع نظارة طبية فوق عينيه ، تكاد تغطي وجهه النحيل ، ويبدو انه وصل إلى البيت قبل حضورنا مباشرة أو كان على وشك الخروج ، فقد كان لا يزال يرتدي ملابسه العسكرية.
عرّفنا باسمه : النقيب علاء الدين ، سألته عن اسم الشخص الوحيد الذي أعرفه وكان يعمل مع الجيش قبل سنوات ، شرحنا أننا حضرنا في مهمة صحفية لتغطية أحوال المدينة في ظل الحرب وكتابة تحقيق عن النازحين وضحايا الحرب الأهلية ، وقد سمعت أن أحد زملاء طفولتي يعمل أيضاً مع نفس حامية الجيش فرغبت في أن أراه. نجحت خطتنا فقد أصر الضابط حين عرف أننا حضرنا من العاصمة على أن ندخل بل وأن نبقى معهم لحين انتهاء مهمتنا. قال لنا أن فنادق المدينة التي دمّرتها الحرب الأهلية غير نظيفة، تتقاسم فئرانها الأكل مع النزلاء، معظم الغرف لا يتم تركيب سلك النملية في شبابيكها ولا توجد مراوح سقف تخفف من القيظ وهجمات البعوض الذي ينافس الفئران في حجمها في هذه المدينة، وخدماتها سيئة وغير آمنة أيضاً ، بسبب وجود أعداد هائلة من النازحين واللاجئين من حروب أخرى على امتداد القارة. ويمكننا أن نبق معهم ما دامت زيارتنا قصيرة.
لم نقل أننا حضرنا خصيصاً لنرى العقيد حسن عبد الرحمن ونرى كيف يعيش وكيف يفكر. ونكتب تقريراً نوضح فيه رؤيتنا إن كان الرجل سيصلح ليكون الرئيس القادم، مفروض أن التقرير الذي سنكتبه عنه سيكون حاسماً في تحديد مصيره ، هل سيقضي بقية عمره في هذه البلدة الغارقة في الألغام، يزيح لغماً من طريقه ويجلس للعب الورق ، ويطارد اللاجئات الأثيوبيات في ليالي الخريف حين تخف حدة الحرب،أم سيذهب إلى القصر رئيساً. في البداية لم نر شيئاً يستحق تسجيله. كان المكان غارقا في دخان الشيشة و السجائر الرخيصة. وكان هو شخصياً ، يضع أمامه على طاولة اللعب جوالاً صغيراً من التبغ المحلي ، لصناعة السجائر لم يكن يستخدم ورق اللف الرقيق ، بل ورق عادي من النوع المستخدم مع ماكينات التصوير، كان صعباً علينا في البداية أن نصدق أننا في حضرة الرئيس القادم ، لا ينقصه سوى عصا ضخمة يمسكها بيديه خلف ظهره ليبدو مثل سمسار مواشي في أحد أسواق المواشي البعيدة ، كان يرتدي جلباباً ضخماً ويضع على رأسه الضخم طاقية متسخة يقارب حجمها حجم إطار سيارة من النوع الصغير. يبدو محشوراً في جسده ، رغم ضخامة جسده ، لكنه يعطي انطباعاً كأن حجمه الحقيقي أكبر كثيراً من حجم الجسد. عيونه الواسعة لا يرهقها بالنظر إلى أبعد من ورق الكوتشينة الذي يحمله بين يديه ويخفيه داخل حجره. حين جلست بجانبه ، أحاول اختلاس النظر إلى الأوراق التي يحملها. اكتشفت بسرعة أنه سرق الجوكر! يا للكارثة هل سيصبح لص الكوتشينة رئيسا للجمهورية!
بدأنا العمل فوراً، كان السؤال الأول: هل يصلب وهل يؤدي الصلاة في مواعيدها؟
سمعنا بعد قليل صوت مؤذن بعيد يؤذن لصلاة المغرب ، كان الصوت بعيداً كأنه قادم من وطن آخر أو من أحد الأحلام ، يتخلله صخب المارة في شوارع الحرب ، وغناء الأطفال على ضفة نهر استوائي منسي ، مصحوباً بنغمات ربابة متقطعة ، ويقطعه أحياناً صوت طلقات رصاص . لاحظنا تحرّك بعض الضباط لأداء الصلاة في غرفهم بينما بقي البعض في أماكنهم ومن ضمنهم رجلنا نفسه ، قلت ربما لم يسمع الأذان ، طلبت من الضابط الذي فتح لنا الباب أن يحضر لنا سجادة لأداء الصلاة. أشار لي إلى مكان المرحاض في ركن الفناء. توضأت من برميل ماء صغير موضوع بجانب حوض حنفية الماء، بسبب انقطاع المياه كثيراً يملأ البرميل الصغير بالماء لغسل الأيدي أو الوضوء. أدينا الصلاة أنا وزميلي في الفناء، أثناء أداء الصلاة دفعني أحدهم لأقف في المقدمة ، اعتقدت انه ربما سيكون رجلنا ، لكن بعد نهاية الصلاة اكتشفت أن الضابط الذي فتح لنا الباب هو الذي انضم للصلاة بينما بقي رجلنا في مكانه.
يا للكارثة تنظيم إسلامي متشدد يستولي على السلطة، ويتقدم صفوفه ليصبح رئيساً ، رجل لا يصلي!
أحضر الضابط الذي استقبلنا كوبين من الشاي . وحاول أن يخفف فتور استقبال بقية الضباط المشغولين في عراك لعب الورق وتدخين السجائر الرخيصة وشرب خمر المريسة المحلية. سألنا كيف يسير عملنا ، لم نذكر له بالطبع أننا بدأنا عملنا في تلك اللحظة بالذات. وأن الجوكر المسروق هو أول خطوة في التقرير المطول الذي سنكتبه، كان سراج لا يزال يعلّق الكاميرا حول صدره. وكان ذلك كافيا لإقناع كل من يتشكك حول مهمتنا الصحفية . والحقيقة أن الضباط المنشغلين بمعركة المساء لم يكن ليولوا أية مدني كثير من الاهتمام أو التدقيق، سواء ذهب المدني في مهمة أو بقى في البيت فلن يمكن ملاحظة أية فرق! هكذا صرح الرجل الذي سيصبح رئيساً للجمهورية بعد أن لعبت الخمر برأسه الضخم، لم أصدّق في البداية أن الخمر يمكن أن تلعب برأس بمثل تلك الضخامة . الصحيح أن رأسه هو الذي كان يلعب بالخمر، مثل كرة يلقيها في زوايا المكان ويستعيدها متى أراد ذلك. كان ذلك ما خطر لي ثم تبين لي أن تلك كانت الحقيقة ، حين غرق الجميع في مقاعدهم من فرط السكر ولم يعد بمقدور أحدهم ولا حتى إلقاء الورقة حين يحين دوره ، واصل هو اللعب وسرقة الورق وكأنه كان يشرب ماء ويشرب زملائه خمراً. مع تقدم الليل لم يعد يهتم بالسرقة بحذر كان يمد يده ويقتلع الورق حتى من يد زملائه السكارى ، فقد أصبحت حلبة اللعب والشراب مسرحاً له كممثل واحد. جمع حصيلة ما كسبه ووضعه في جيبه، ثم نظر إلينا كأنه يرانا للمرة الأولى ، لا أدري لم خطر لي أنه عرف ماذا نفعل وعرف سبب حضورنا ، لكن ذلك لم يدم سوى ثانية واحدة استعاد بعدها لا مبالاته ، قام الضابط الذي فتح لنا الباب ليساعد زملائه السكارى الذين سقطوا أرضاً ، ثم أحضر أحدهم صحن الفول الضخم الغارق في زيت السمسم.
بعد العشاء بدأ دخان المعارك ينجلي في المكان، اختفى العقيد حسن عبد الرحمن في غرفته ، عرفنا أنه الوحيد الذي يسكن في غرفة لوحده بسبب شخيره الذي يشبه شخير فيل مسن، اقترح النقيب علاء الدين أن يخلي لنا الغرفة التي يتقاسمها مع ضابط آخر لكننا رفضنا بشدة وأصررنا على النوم في صالة البيت ، كان هناك سريران من الحديد في جانب الصالة يبدو أنهما معدان للضيوف. أحضر لنا الضابط أغطية قطنية خفيفة. قال لنا أن مروحة السقف التي تخفف من هجوم البعوض تتوقف أحيانا بسبب انقطاع الكهرباء فيفضل أن نستخدم الأغطية الخفيفة رغم حرارة الجو لنحمي أجسادنا من لسعات البعوض.
أخبرناه أننا سنغادر مبكراً ونعود مساء . أحضر الضابط جلبابا لكل واحد منا شكرناه واعتذرنا بأن معنا ملابس خفيفة ، قمنا بتغيير ملابسنا ، ذهبت إلى المرحاض في نهاية الفناء. كنت أشكو من الإمساك ربما بسبب تغيير عادات الأكل أثناء السفر. حين كنت أجلس داخل المرحاض سمعت صوت خطوات شخص ما قام بفتح باب الفناء. دخل شخص آخر ثم اختفت أصوات الأقدام. قال لي زميلي يبدو أن فتاة حضرت للنوم مع رجلنا!
*(من رواية تحت الطبع)
* روائي وقاص من السودان