ثمار

تقديرات إعْتِباطيَّة مُخِلَةْ

اتيم سايمون

لا أدري من أين جاءوا بهذا الاكتشاف العظيم ، هكذا خبط عشوائي ، ليبنوا عليه العديد من التقديرات الرسمية ، والتي وصلت مرحلة الجزم لدى العديد من المسئولين الحكوميين بجنوب السودان ، لست أدرى من هو ذلك الشخص العبقري الذي خرج باكتشاف أن جنوب السودان دولة تضم في تكوينها الأنثى حوالي 64 مجموعة عرقية مختلفة ، حتى تسير بذلك الركبان وتصبح المسألة في عداد المسلمات الغير خاضعة للنقاش دون البحث عن جذور الاكتشاف نفسه ، لأنني وحتى هذه اللحظة لم أجد إحالة مرجعية للمسألة على الرغم من خطورتها الشديدة الكامنة في الاحتفاء بهكذا تقديرات بهذه المجانية ، فكيف لوزارة الثقافة أن تجعل هذه المسالة تمر علينا مرور الكرام ، كيف لكلية الآداب و اللغات بجامعة جوبا وغيرها من الكليات و المؤسسات البحثية الأخرى أن تجعل تخمينات الساسة في المسائل المتعلقة بالسكان واللغة والتنوع تتسيد الموقف دون أن تكون هناك جرأة أكاديمية تقطع علينا حالة التيه الجماعية التي نمر بها حاليا.

بالطبع هذا ممكن ،  فليس عصي على كليات اللغات و الدراسات الانثربولوجية القيام بإجراء مسح لغوى شامل لتحديد تصنيفات المجموعات الثقافية و اللغوية المكونة لجنوب السودان علي امتداد مساحته الجغرافية و بيئاته الثقافية المتنوعة ، فللقضية أهمية أخرى تتجاوز بها الضخامة العددية لكن هناك مناهج في التصنيف اللغوي و الاثنولوجي هي التي تحكم تقدير عدد المجموعات (اللغوية) ، لكون أن مبدأ اعتماد عامل اللغة هو الأكثر ضبطاً من حيث المصداقية المهنية في حالة مجتمعات جنوب السودان أكثر من التصنيف السلالي المتبع لدى المجموعات السودانية نسبة لعوامل الاختلاط الكبيرة بين المجتمعات في جنوب السودان بجانب تداخل هجرات المجموعات السكانية خاصة وسط تلك المتاخمة للحدود حيث تجد امتدادات شاسعة بين تلك المجتمعات بين جنوب السودان وأكثر من دولة مجاورة.

من المؤسف أن أولى الإشارات الواردة حول التقدير الكمي لمجتمعات جنوب السودان وتحديدها بـ64 (مجموعة لغوية ) سمها قبلية أو أثنية كانت قد طفحت ضمن تقرير أعدته إذاعة (بي بي سي) حول جنوب السودان قبيل احتفالات الاستقلال في التاسع من يوليو 2011، ومن هناك تم اعتماده بصورة غير رسمية دون التحقق منه ، وأخشى أيضاً أن تكون الدراسات العلمية والمداولات الرسمية للدولة قد اعتمدت تلك الإحصائية في المستندات و البحوث العلمية خاصة بالنسبة لطلبة الدراسات الاجتماعية ، وإذا حدث ذلك فإننا سنكون قد وقعنا في أكبر أفخاخ المسايرة العمياء.

في أكثر من موقع ودراسة بحثية وجدت إشارات متعددة للتقديرات اللغوية لمجتمعات جنوب السودان ، واقصد بالمجتمعات هنا الجماعات اللغوية و الإثنية ، وهي أيضاً تقديرات غير مقيدة بالتحقق الشامل ، فقد ورد في احدي الكتب الصادرة للدكتور جون قاي بان جنوب السودان يتكون من 84 مجموعة أثنية ، كما أن هناك إحصائية غير علمية منشورة في موقع صحيفة (قورتنق) الالكترونية بحيث أفردت مساحة للتعريف بالمجموعات الثقافية لجنوب السودان إلا أنها أيضاً لا تكاد أن تتعدي مرحلة الجمع و الاجتهاد الذي خلطت فيه كثيراً بين المجموعات بشكل قد لا يجد مساندة كبيرة من قبل المهتمين دع عنك دارسي اللغويات و المتخصصين في علوم الاجتماع و الاثنولوجيا و الانثربولوجيا الثقافية .

لا نختم انطباعاتنا هذه إلا ونحن ندعو مجدداً أساتذة الجامعات ، ووزارة الثقافة و بالتعاون مع منظمة اليونسكو للبحث عن كيفية تمويل مشروع للمسح اللغوي في جنوب السودان ، مشروع يهتم بالدراسة و التصنيف المنهجي حتى نستطيع تحديد الخارطة الثقافية للبلاد ، وهذه الخارطة ستساعد تلك المؤسسات و الدولة أيضاً في وضع قاعدة بيانات معرفية دقيقة ، تقود أيضاً إلى تطوير اللغات الآيلة للاندثار و المجموعات المحاصرة بخطر الذوبان و الانحسار الثقافي  ، وهي أيضاً عديدة لكنا لن نستطيع الوقوف عليها دون أن يكون هناك رصد علمي ودراسة متكاملة تمكننا من الوقوف علي القضية بصورة حقيقية لا تنجرف وراء التقديرات السياسية العامة بالغة الخطورة مستقبلاً في الجوانب المتعلقة بالحقائق الكلية حول قضايا ، اللغات ، الدين و السكان ، لان التقديرات السياسية تتحكم فيها عوامل الانتماء و السلطة و التكييف الرسمي ، وجميعها مسائل كنا حتى وقت قريب نشتكى منها ومن تداعياتها.

unnamed-1

*شاعر وصحفي من جنوب السودان

* نُشر هذا المقال تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تُصدره جريدة الموقف بجنوب السودان.

زر الذهاب إلى الأعلى