ثمار

مذكرات جمال عبد الملك (عابر سبيل) من هو؟ وماذا فعل؟

في تقديمه لمذكرات عابر سبيل، وصف د. عبد الله علي إبراهيم، تأثير جمال عبد الملك على الحياة الفكرية والثقافية والسياسية السودانية قائلاً: “كان جمال فينا لقية مصرية فأثرانا بالكتابة في أجناسها المُختلفة، كما لم يفعل كاتب سوداني، ووفوده لنا وملابساته السياسية والفكرية، حري بالاحتفال بمثل احتفال جيل الحركة بزيارة عباس محمود العقاد القصيرة، وستعيدنا حكايته إلى شوق سوداني لمصر رنت له الوجوه المثالية في الحركة الوطنية خلافاً لما نرى من البلديْن لزمننا ونسمع ونتنكر، فكثير منا يدين لماراثون جمال (ابن خلدون) الثقافي والصحافي والتعليمي”.

وُلِدَ جمال عبد الملك (ابن خلدون) – كما يظهر اسمه في مجلة القصة والصحف السودانية) – في يناير 1929م، بصعيد مصر لأب موظف في الحكومية المصرية وأم توفيت في صغره تنتمي إلى أسرة غنية من صعيد مصر.

ويستدعي جمال عبد الملك، في الجزء الأوّل من مذكراته، الأحداث العائلية، التي كانت سبباً في انتقاله من بيت العائلة الكبيرة بالصعيد (بيت الجد)، إلى منزل والده في القاهرة، مُتعرِّضاً إلى مصادره الأولى في الروايات البوليسية والسينما، ثم التحاقه بكلية الطب – التي لم يكمل دراستها – وانضمامه إلى التكتل الثوري بزعامة شهدي عطية؛ حيث كان الصراع يدور بين تيارين يتزعّم أحدهما هنري كورييل، والثاني شهدي عطية. ووصف عبد الملك الصراع آنذاك بين التيارات الشيوعية المصرية قائلاً: “وجدت نفسي في خضم دوامة من الجدل والاحتقانات التي لا تنتهي، فمايكروب الخلاف والحدة في الخصومة، والميل إلى التشرذم، يستشري بسهولة في أوساط اليسار، وربما لأنه مرض المثقفين هواة الجدل النظري، وربما لأن اليسار يبشر بالجنة على الأرض، وهي أيضاً فكرة مذهبية تستثير حماساً شبه ديني”. وقد كانت مظاهرات فبراير 1946م، ذات أثر بالغ على جمال عبد الملك، وهي المظاهرات التي انتشرت بكافة مدن مصر ممتدة إلى الخرطوم وأمدرمان؛ فالتفت إلى ضرورة تغيير الأوضاع السائدة، ويقول عن تلك الفترة: “في تلك الأيام، كانت صحف الحكومة تعزو مظاهر القلق والاضطراب إلى (أصحاب المبادئ الهدّامة) وصممت على التعرف على تلك الفئة التي ترهبها الحكومة وتقضُّ مضاجع الحاكمين”. وظل عبد الملك يبحث عن تلك الجماعات الحمراء، حتى طرق بابه في ليلة شتائية طالبان ومعهما حقيبة ثقيلة وأوصياه أن يحتفظ بها ولا يفتحها.

ظن في بداية الأمر أن الحقيبة تحتوي على قنابل ومسدسات لمقاومة جنود الاحتلال، ولكنه فوجئ بحقيبة مليئة بالكتب العربية والإنجليزية. يقول عبد الملك: “لم أفهم شيئاً كثيراً، والحقيقة أني أُصبت بدوار ذهني، وماذا كان يمكن أن أفهم من كتب مثل: الرد على دوهرنج، لينين والنقد التجريبي، خلاصة رأس المال، إنجلز عن أصل العائلة؟… فنظرية داروين كانت أسهل بكثير”. فيما بعد، علم أن الطالبين اللذين أتياه بالحقيبة هما من جماعة شهدي عطية المناوئة لجماعة كورييل. ويتضح لجمال عبد الملك لاحقاً جذر الخلاف بين التنظيمين الماركسيين: تنظيم هنري كورييل، وتنظيم شهدي عطية، إذ يسعى الأول إلى قيام حزب يكون طليعة لكل الطبقات الوطنية، على طريقة تيتو، بينما يتبنى الاتجاه الثاني الموقف الماركسي الكلاسيكي ببناء حزب يكون طليعة للعمال.

انضم جمال عبد الملك بعدها إلى جماعة العادليين وهي المجموعة التي نشأت لإعادة الوحدة إلى المنظمات اليسارية. كان عبد الملك يسهم في تحرير جريدة (الخبز والحرية) في الوقت الذي شاركه شهدي عطية السكن في مخبئه قبل أن تعتقله السلطات في القاهرة.

في العام 1949م،انضم جمال، إلى حزب الراية المصري، لكن التعليمات التي تلقاها من قيادة التنظيم كانت أن ينفي معرفته بأي شيء، وأن يبحث عن عمل، أو يعود إلى دراسته، وقد وجد له أحد زملاء الحزب (زكريا) فرصة للعمل مع ابن خالته، (عبد الغفار) بالسويس، الذي اكتشف فيما بعد أنه عميل للبوليس السري، فهرب من السويس عائداً إلى القاهرة، لكن الحزب لم يصدق تلك القصة، واعتبر أنها محاولة لتبرير الفشل. استلم جمال مطبعة الحزب التي تقوم بطباعة المنشورات، وفي ذات الوقت كان مضطراً  للعمل لإعاشة نفسه، فعمل في مطبعة يدوية، لكنه أثار زملاءه العمال باختلاف سلوكه عنهم؛ فاضطر للهروب من العمل بحجة أنه هارب من أسرته لخلافات عائلية.

في مطلع العام 1951م، انتشرت أنباء عن مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية للحكومة المصرية بإرسال قوات للمشاركة في حرب كوريا؛ فخرجت مظاهرات من طلبة الجامعة والثانويات لمقر مجلس الوزراء، وكان جمال قد كتب نص منشور وُزِّع في تلك المظاهرة التي انفضَّت. إثر ذلك تم القبض عليه ونقله إلى سجن الأجانب ثم إلى السجن العمومي حيث كان شاهداً على نماذج إنسانية غريبة.

خرج جمال من السجن بكفالة قدرها (50) جنيهاً، عائداً إلى بيت أبيه، لكنه هرب مرةً أخرى وفي هذه المرة إلى الصعيد.

يقول عبد الملك عن الفترة التي قضاها في الصعيد: “تعلمت أول درس في مفهوم السرية والأمن في الأقاليم، ففي الريف السرية مستحيلة لأن البلد صغيرة والناس يعرفون بعضهم معرفة شخصية، وإذا لم يعرفوا التفسير الحقيقي لما تقوم به فسوف يخترعون تفسيراً من عندهم ويردِّدونه، وسيكون تفسيراً سيئاً في الغالب”.

في 23 يوليو 1952، استولى الجيش على الحكم في مصر، وأصدر حزب الراية بياناً في كتيب (حقيقة الانقلاب الأخير: انقلاب عسكري يريد أن يجر الشعب للحرب)، بينما اتخذ تنظيم (حدتو) موقف التأييد.

عاد جمال من الصعيد لإعادة بناء تنظيمات الحزب ثم أصدر بالتعاون مع (15) ضابطاً – كانوا يريدون إنشاء تنظيم الضباط الأحرار عقب ثورة يوليو – صحيفة (النصر). في 1954م، اُتهم جمال عبد الملك بأنه خائن من قبل أعضاء اللجنة المركزية للحزب بعد أن هاجم البوليس الشقة التي تتم فيها طباعة منشورات الحزب وبياناته، وأصدر الحزب بياناً ضده بطرد الخائن “وزمرته المخرِّبة”؛ وكان التخوين أحد الأسباب التي دفعت به إلى الهجرة من مصر إلى السودان بالإضافة إلى مرضه بذات الرئة. ويتساءل عبد الملك قبل أن يبدأ فصلاً آخر من حكايته (في الخرطوم): “إذا كان حزب الراية نموذجاً مصغراً لكل الأحزاب السياسية اليسارية، وهو خارج الحكم سريع التشكك في أعضائه، قاسياً عليهم وعلى غيرهم، فماذا يفعل بنا إذا وصل إلى الحكم؟”.

نتيجة لتعرض ابن خلدون لمرض ذات الرئة عرض عليه زملاؤه السودانيون الذهاب إلى السودان، حيث الجو الحار والجاف كفيل بشفائه من المرض اللعين، ورتب مع الطلاب السودانيين كيفية سفره إلى الخرطوم بعد انتهاء العام الدراسي 1955 – 1956م (سيُحكم على ابن خلدون غيابياً بعدها بعامين مع مجموعة من زملائه بحزب الراية)، وقد وجد عبد الملك في السودان تأثيراً قوياً للتجربة السياسية المصرية على أوضاع التنظيمات اليسارية السودانية.

في السودان، بدأ ابن خلدون رحلة البحث عن عمل، فكتب مقالات أرسلها إلى جريدتي (الرأي العام) و(الأيام)، فعيَّنه محجوب محمد صالح محرراً بالقسم الخارجي بجريدة (الأيام)، لكنه لم يلبث بها أكثر من ستة أسابيع؛ ثم بدأ الكتابة في مجلة (صوت الشعب) التابعة للجمعية الوطنية، تحت اسم (سياسي عجوز). وعن علاقته بالجمعية الوطنية يكتب ابن خلدون: “لم تكن ثمة مشكلة في نشر آرائي بالصحف السودانية المحلية في ظل تعدد الأحزاب والتيارات والحريات النسبية التي أعقبت استقلال السودان، ولكني تجنبت الارتباط بأي تنظيمات سياسية سرية. وفي الجمعية الوطنية، عرفت نخبة من المثقفين (…) وكان جو الجمعية الوطنية أقرب إلى أندية المثقفين (…) وهو جو يختلف عن أجواء دهاليز التنظيمات الماركسية المصرية (…) كما اختلف عن أجواء الحزب السوداني الذي يفرض الولاء الكامل لزعيمه (راشد) الذي ورث بعض ممارسات العمل السري عن (حدتو) في مصر”.

 بعد انقلاب 17 نوفمبر 1958م ترك جمال عبد الملك الكتابة السياسية واتجه للنشاط الأدبي، فشارك في مجلة (القافلة) التي توقفت في عام 1959م، ثم عمل في تحرير مجلة (القصة) مع مؤسسها عثمان علي نور، ويقول عن تلك الفترة: “كنت أعمل مع الأستاذ عثمان متفرغاً للمجلة وكان العائد منها بالكاد يكفي تكلفة البريد والمكتب، ومع ذلك ما زلت أعتبر تلك الفترة من الفترات الخصبة في حياتي. قرأت خلالها مؤلفات عديدة وكتبت عدداً من القصص، كما قمت بوضع مسودة الموضوعات لكتاب (مسائل في الإبداع والتصور) (…) وتوثقت علاقتي بالكثير من طلاب كلية الآداب جامعة الخرطوم وأساتذتها، وبالمثقفين الذين التفوا حول مجلة القصة (…) وكان الدكتور إحسان عباس حريصاً على استمرارية المجلة، وكان يعلم ما تعانيه من عسر، فكان يدفع للمجلة من جيبه الخاص قيمة اشتراكات لترسل المجلة لأصدقاء له حتى لا يجرح مشاعرنا”.

ومن خلال المجلة، تعرَّف جمال عبد الملك على المستر سنغ الأديب والدبلوماسي الهندي الذي ترجم له أحد أعماله بمجلة (القصة)، وعمل معه فيما بعد بمكتبه مترجماً مما اضطره إلى تغيير اسمه إلى (ابن خلدون) بحسب اتفاقه معه.

 يقول ابن خلدون: “وعندما اغتيل الزعيم لوممبا في 1961م، ماجت الخرطوم بمظاهرات الاستنكار وكتبت تعليقاً ساخناً بعثتُ به لمجلة القصة وطلبتُ من الأستاذ عثمان نور وضعه باسم مستعار فاختار اسم (ابن خلدون) حين كان أمامه كتاب المفكر الموسوعي عبد الرحمن ابن خلدون، وليس صحيحاً أني اخترت الاسم إمعاناً في التخفي”.

وفي خضم الديمقراطية التي أظلت السودان بعد 1964م طرح جمال عبد الملك تأسيس حزب اشتراكي ديمقراطي، وتجاوب معه أعضاء الجمعية الوطنية القدامى، ما أثار غضب الشيوعيين الذين اعتبروا أي محاولةٍ لإنشاء حزب يساري آخر محاولة لشق الصفوف، وفي غضون ذلك كان المستر سنغ قد نقل للعمل في بلد أوروبي فتفرغ عبد الملك للعمل بصحيفة (الرأي العام).

وإثر ملابسات فشل حكومة سر الختم الخليفة واستقالة رئيس الوزراء وتكوين حكومة جديدة يتمتع فيها حزب الأمة بأغلبية وموقف جمال عبد الملك منها؛ قرر السفر إلى إيطاليا ثم فرنسا ثم الجزائر للعمل هناك، بتوصية من أحد الصحَفيين الجزائريين، ولكن الأحداث العالمية آنذاك قادته للرجوع إلى مصر ثم السودان مرة أخرى ليعود محرراً للشؤون الخارجية بصحيفة (الرأي العام)، حتى قرر السفر إلى ليبيا في العام 1969م والعمل في الإذاعة الليبية وجريدة (الهدف) التي أبدت تأييدها لثورة الفاتح من سبتمبر بقيادة العقيد معمر القذافي، لكنه اصطدم بعدم رغبة السلطات هناك في بقائه، فقفل راجعاً إلى الخرطوم ليعمل في عام 1971م ضابط إعلام بجامعة الخرطوم حتى بلغ سن المعاش، ليشهد بعدها تقلبات حكومة المشير جعفر نميري بعد انقلاب هاشم العطا في يوليو 1971م، ومن ثم يشهد انتفاضة إبريل المجيدة منخرطاً في العمل الصحَفي.

وطيلة سنوات السبعينيات والثمانينيات، ظل ابن خلدون يعمل في مجالات التأليف والنشر والكتابة الأدبية في الصحف والتلفزيون؛ فكتب (مسائل في الإبداع والتصور) (البُعد الرابع) “بالإنجليزية” ورواية (مفترق الطرق) التي استوحاها من سيرة الذاتية وعدة مجموعات قصصية.

انخرط ابن خلدون في تدريس مادة المعلومات العامة للطلاب العسكريين في الكلية الحربية، كما تعرَّض في مذكراته للكتابة عن الصحافة السودانية في فترة الديمقرطية الثالثة، ومشكلات تأميم الصحف.

 وبعد إحالته للمعاش اتجه ابن خلدون في العام 1989م، للعمل في صحيفة (السياسة) وهي الصحيفة الموالية للحكومة الديمقراطية آنذاك.

غادر جمال عبد الملك السودان إلى لندن وطلب اللجوء السياسي في مطلع  التسعينيات.

توفي جمال عبد الملك في السابع والعشرين من فبراير في العام 2001م بلندن تاركاً إرثاً سياسياً وصحَفياً وثقافياً وأدبياً كبيراً.

صدر الكتاب في (197) صفحة من دار عزة في العام 2016م.  

* نشرت هذه المادة تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.

حاتم الكناني

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى