ثلاث مراتب ووسادتان
في الصباح الباكر جداً، اضطر صديقنا حامل الضغائن المثيرة للاشمئزاز، وهو في طريقه إلى فتح أبواب محله الذي يبيع فيه مراتب الإسفنج المتوسطة الجودة، إلى استفراغ عشاء البارحة الدسم، متقززاً من مشهد شّماسيين كانّا يطيحان بفضلاتهما اللزجة كلاً على حدة ، قبالة محله ، وأكثر ما أثاره سماع دوي فرقعات بطنيهما، وبخاصة أن نظره كان قد وقع على ابتسامة غير مكترثة، تموضعت في فيه أحدهما وهو الشماسي ، ذي السبعة عشر ربيعاً ، ذي اللون القمحي والشفتين السودّاويين، بسبب تعاطيه “البنقو”، في قطيعة جديدة ، مع التعاطي التاريخي للسيلسيون ، رغم أنه ابتدأ به رحلته في عالم الشماسة. أما رفيقه الآخر، وهو معروف أكثر منه، وعلى بعد خطوات قليلة جداً من أنْ يصبح أباً، وهو ابن الأربعة عشرة ، “وحرمه” بعد إنجابها الوشيك، ستكون قد تخطت العشرين، وإن وضعت ولداً فهو سيكون الثالث لها، وأما إن كانت بنتاً فستكون الأولى بلا شك، وقد عزمت على أن تطلق عليها، اسم رفيقتها التي قضت قبل الأوان، في حادثة غامضة، وتُدعى “غزالة”.
وحامل الضغائن المثيرة للاشمئزاز ، يُدعى ، سليم ، ويكنى طبقاً للشّماسيين، بـ”خراء القدح”، هذا رغم أنه رجل أنيق الهندام ونظيف الجسد والرائحة، ووسيم الطلعة، إلا أنه مبتور القبول، بخاصة في أوساط الشماسة، ورجال شرطة السوق على السواء، ولا يفلت من حنق أغلب الزبائن. لأنه ؛ وهذا حق، لأن وجهه يطفح بنتانة دواخله المريرة ، إذ ليس بوسعه ، إدراك آلام وجوده الفادح والثقيل، لسماكة شعوره وتبلده المثير للرثاء الإنساني. لم يبع منذ عدة أشهر سوى ثلاث مراتب، ووسادتين اثنتين فقط ، وحدث هذا الحادث، أي، توقف مبيعاته، بعدما قيل إنه “عمل شرير”، قام به منافسه، صاحب المحل الذي يجاوره، ذي البوابة باللون السماوي، واسمه وفقاً لسجلات البلدية، يحيى، غير أن زعيم شماسة السوق يدعوه، بـ” أبو صلعة” ويقول هذا اللقب علناً ، وأحياناً يضيف إليه ، نعتاً مريراً، بلغة الراندوك الأكثر حداثة والأقل تداولاً، ولا يدركها، إلا من بلغ مجد الشميس، أي من صار له حفيد واحد على الأقل، واستطاع أن يفلت من الموت وبلغ الخمسين.
لما اغتسل الشماسيان من خرائهما اللزج، كان حامل الضغائن المثيرة للاشمئزاز، سليم، قد أفرغ عشاء البارحة الدسم كاملاً ، حتى أن ضغائنه ونتانته الداخلية كانت قد خرجت ، ولاحظ رجل عابر، ولكن بدقة متناهية ، آلاف الأحقاد، تندلق من باطن الرجل ، لدرجة أنها أثارت في الجو كراهية مطلقة ، إذ أن الرجل العابر، وهو أخ شقيق لست سيدات، لم يتزوجن بعد، أكبرهن بلغت الخامسة والثلاثين، شعر بحقد مدوٍ، يرج دخيلته رجا، ورغم أن الجو كان صحواً وشاعرياً، والشمس بالكاد، انفلقت من سترها، إلا أن الكراهية التي تناثرت في الجو فعلت به الأفاعيل، وتجلت تلكم الكراهية، بعدما رمق العالم وفقاً للطبقة والحظوظ، والحظوة، ووجد أنه شخص، لا فرق بينه والشماسيان، إلا كونه يمتلك مرحاضاً بلدياً، يُنثر فيه الرماد صباحاً، حتى لا يصير مكباً للذباب، ويمكِّن من قضاء الحاجة.
عندما بدأ سليم، صاحب الأحقاد التي صارت ذاوية، في شرب قهوة هذا الصباح، عند السابعة وخمس وعشرون دقيقة، كان التغيير قد ضربه، فغدا، متبسماً كأمٍ أفاقت بعد مخاضٍ، ترنو إلى وليدها، ونبتت له مسبحة فوق يده، كأنما كان يسبح الله منذ الأبد، وسمعت له ضحكات موفورة بالمرح، وكل من رآه قبل حلول العاشرة، وقت وافته المنية، لم يعد يذكره، حينما كان مثيراً للاشمئزاز والرثاء. وقيل، ان ملاك الموت، بدا خجلاً، وهو يقبض على حياته، واختلق جاره، أبو صلعة، رواية سّماها حقيقة يوم جاره الأخير، إلا أن الشماسيان، وبالأخص زعيم الشماسة في السوق، قد دحض روايته التي تقول، إنه تبول، على سرواله خوفاً من الموت.
* كاتب من السودان