المسرح في جنوب السودان .. نشاط قديم وإبداع متجدد
(1)
في جنوب السودان أحدث دولة في العالم، إزدادت في الآونة الأخيرة وتيرة الإهتمام بالمسرح والأنشطة الثقافية المختلفة، سيما وسط شرائح المثقفين، رغم التحديات اللوجستية التي تواجه الفن عموماً والمشتغلين بها من جهة، والتأثيرات السلبية الناجمة عن الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد منذ حوالي العامين من جهة أخرى، وشكل ذلك إلى جانب عوامل أخرى عائقاً كبيراً أمام إزدهار وتطور المسرح الذي يعد نشاط قديم في البلاد ومارسته المجتمعات منذ عهود بعيدة – وإن لم يكن بمعناه الحديث – إذ تذخر الطقوس والثقافات المحلية بممارسات عديدة يمكن ادراجها ضمن الاشكال المعروفة للمسرح.
(2)
نشاط قديم :
يعود تاريخ المسرح في جنوب السودان إلى أزمان قديمة، وعرف الناس المسرح مع تشكل الكيان الذي يعرف “بجنوب السودان”، إذ كانت ولا تزال الطقوس الشعبية المحلية تذخر بالعديد من الممارسات التي يمكن إدراجها ضمن أشكال الفنون المسرحية المعروفة، والمستوحاة من لدن ثقافات وتقاليد الشعوب، بيد أن المسرح بمعناه الحديث بدأ في التشكل والظهور في البلاد مع دخول البعثات التبشيرية المسيحية في القرن قبل الماضي، وظل بعد ذلك محصوراً في نطاق الكنيسة، فيما أشتهر بالمسرح الكنسي.
ويقول الصحفي والناقد المتخصص مثيانق شريلو في عرضه لتأريخ ومراحل تطور المسرح في جنوب السودان :”المسرح في البلاد ظل موجوداً مع بداية تشكل ما يسمى بجنوب السودان، وكانت هنالك ممارسات مسرحية تظهر في الطقوس الشعبية المحلية ومرتبطة بحياة المجتمعات، سواء كان في شرق البلاد أو غربها أو الجنوب أو الشمال”.
وأضاف :”ظلت هذه الممارسات سائدة لحين تقسيم جنوب السودان في حقبة الأستعمار لأكثر من ثلاثة مناطق تبشيرية، كاثوليكية واسقفية وإنجيلية، وما هذا التقسيم ودخول البعثات التبشيرية بدأ الجنوبيون يعرفون المسرح بشكله الجديد، ولكن في إطار محدود، إذ كانت الاشكال المسرحية السائدة آنذاك هو ما يسمى بالمسرح الكنسي، ولا يخرج من نطاق الكنيسة، ويتناول موضوعات لها علاقة بالتبشير”.
وأوضح شريلو انه مع التطورات السياسية في السودان قام الرئيس السوداني الاسبق الفريق ابراهيم عبود بطرد البعثات التبشيرية المسيحية، ولكنه استدرك قائلاً :”قبل ذلك الحدث هنالك فترة مهمة جداً في تاريخ المسرح المحلي عرفت فيها البلاد الأشكال الحديثة للمسرح، وذلك بعد عودة شخص يدعى امونا كباسي .. وكباسي هو جندي في الجيش البريطاني شارك في الحرب العالمية الثانية، وعاد عقب انتهاء الحرب برفقة مجموعة من الجنود الجنوبيين إلى البلاد مكتسبين ثقافات جديدة”.
وتابع :”مع عودة أمونا كباسي جلب معه ما يسمى بالمسرح الحديث واستطاع من خلال خبرته في الجندية وتجواله في مدن عديدة، بالإضافة إلى الموهبة التي اكتسبها من المجتمع، تطبيق ما يمكن تسميتها بأول ممارسة مسرحية في جنوب السودان، وكانت العروض محصورة في اماكن محددة، ولكن بعد فترة اصيب كيباسي بمرض الجذام، ولأنه يعرف جيداً أن المسرح هو فن إنساني قرر تخصيص عوائد المسرحيات التي كان يؤديها لزملائه المصابين بمرض الجزام.
ومضى إلى القول :”امونا كيباسي لم يكن الظاهرة الوحيدة، هنالك ظواهر اخرى لم تسلط عليها الاضواء، وبرز أسم كباسي لأنه بدأ نشاطه في مدينة جوبا .. وجوبا كانت هي المركز الرئيسي وأهم مدينة في جنوب السودان .. أيضاً كانت هنالك أنشطة مسرحية شهدتها المدارس الثانوية القومية، إذ كانت غالبية المعلمين الذين كانوا يدرسون في تلك المدارس عملوا في مناطق تحت سيطرة المستعمر، واكتسبوا خبرات ثقافية معتبرة ساهموا بها في خلق حراك وسط الطلاب”.
(3)
المشاركة في مهرجان شكسبير بلندن :
في مكتبه المتواضع بحي “نيم” وسط العاصمة جوبا، يجلس المنسق العام لمنظمة جنوب السودان للمسرح، نيكولا فرانكو، خلف شاشة الحاسوب، وبدأ مشغولا بأمر مهم، علمنا لاحقا انه يرتب في برنامج مسرحي تعتزم المنظمة اقامته قريبا في جوبا، وتشارك فيها فرق مسرحية من جوبا و واو وبور.
يقول فرانكو :”المسرح في جنوب السودان قام بعد عودة جنود جنوبيون شاركوا في الحرب العالمية الثانية، إذ اكتسبوا بحكم تجوالهم حول العالم ثقافات جديدة من بينها المسرح، وقاموا بتطبيقها على ارض الواقع”.
وأضاف :”بعد التوقيع على اتفاقية اديس ابابا للسلام في سبعينات القرن الماضي، بدأت أعداد كبيرة من الجنوبيون في العودة إلى وطنهم، من شرق افريقيا وأمريكا ومن شمال السودان، وقاموا بتأسيس فرق مسرحية عديدة، أشهرها فرقة (سكاي لاك) التي كانت تمول من قبل الحكومة الإقليمية”.
وتابع :”شهدت البلاد أكبر نشاط مسرحي أثناء فترة الحرب الأهلية الثانية التي اندلعت في عام 1983، في المدن المختلفة وفي مناطق النزوج بشمال السودان، وازدهر المسرح في نهاية الثمانينات وفاتحة التسعينات من القرن الماضي، وتأسست فرق مسرحية في مدينة واو من قبل الأستاذ ديرك الفريد وزملائه، وكذلك في مدرسة رومبيك الثانوية، وكانت هذه النشاطات تبرز أثناء منافسات الدورة المدرسية، وفي عام 1994 تم تأسيس فرقة كواتو الشهيرة، ومن بعدها ولدت فرقة عماوس في 1996، إلى جانب فرق مسرحية أخرى، وبدأ الحراك المسرحي في التوسع والانتشار”.
وزاد :”اما الفترة ما بعد التوقيع على إتفاقية السلام وإستقلال جنوب السودان (2005 – 2011) فلم تخضع بعد لدراسات متأنية، ولكنها شهدت نشاطاً مسرحياً ملحوظ، وكان أبرز حدث في تلك الفترة هو نقل كلية الفنون والموسيقى والدراما بجامعة جوبا من الخرطوم إلى جوبا، إذ ساهم ذلك في تشكيل البنية المسرحية الحديثة في جنوب السودان”.
وحول تجربة المشاركة في مهرجان وليم شكسبير للمسرح بلندن يضيف فرانكو :”مهرجان وليم شكسبير هو مهرجان عالمي يجمع كل مسرحيات شكسبير وتقدم بلغات محلية، وكان المهرجان مضبوط ليقام مع فعاليات اولمبياد لندن في ابريل – مايو 2012، بمشاركة 27 دولة حول العالم، وكنا محظوظين بالمشاركة في المهرجان رغم إن بلادنا كانت حديثة الميلاد وقتذاك ونالت الاستقلال لتوها”.
ومضى في الحديث :”السؤال الذي وجه لنا، كان حول المسرحية التي نرغب بالمشاركة بها في المهرجان من بين مسرحيات شكسبير، وبعد قراءة وتمحيص لكل النصوص، وقع اختيارنا على مسرحية (سمبلين) .. وكان ذلك لأسباب عديدة ابرزها تشابه القصة والحبكة مع الأحداث والنقاشات التي كانت تدور وقتها في جنوب السودان، مثل مواضيع السلطة والحكم والعسكر وخلافها، ووجدنا أيضا فلسفة مرتبطة بالواقع السياسي والاقتصادي والثقافي للجنوبيين”.
وأوضح :”بعد اختيارنا لمسرحية – سبملين – كان ينبغي علينا أيضا اختيار لغة واحدة من بين اللغات المحلية لتقديم المسرحية، بحسب لوائح المهرجان التي تشترط تقديم العرض بلغة محلية، واخترنا في النهاية لغة جوبا، وكلف الاستاذ الكبير جوزيف أبوك نفسه بترجمة المسرحية إلى لغة جوبا بحروف لاتينية وإنجليزية”.
واردف :”بدأ المهرجان وقدمنا عرضين متتاليين في يومي الثالث والرابع من مايو 2012، ووجدتا اقبالا واستحسانا كبيرين من قبل النقاد في صحيفة غارديان البريطانية، وصنفت المسرحية ضمن أفضل المسرحيات في المهرجان وحازت على أربعة نجوم من أصل خمسة بحسب الصحيفة”.
(4)
تجارب شخصية :
ويذخر الوسط الثقافي في جنوب السودان بعديد القصص والحكايات الملهمة لشباب أسرهم الفن، واختاروه دون سائر العلوم والتخصصات، ليخوضوا معه رحلة جديدة في الحياة عنوانها “إبداع بلا حدود”.
ويسرد الشاب جوير جوير دينق – الذي تخرج حديثا من كلية الفنون والموسيقى والدراما بجامعة جوبا قسم الدراما والتمثيل والاخراج، كيفية التحاقه بهذه الكلية التي لا تحظى بشعبوية كبيرة في المجتمع الجنوبي.
ويقول :”دخلت هذه الكلية بناءاً على رغبتي الشخصية، وقبل التحاقي بها كنت ناشطا في الفرق الشعبية بالخرطوم، وعضوا في فرقة تدعى “سودان قلبو ابيض” بمنطقة أمبدة، ومن خلال نشاطي في الفرقة تشكلت رغبتي في دراسة المسرح”.
وأضاف :”عندما جلست لامتحان الشهادة الثانوية كان رغبتي وقتها الالتحاق بكلية الفنون والموسيقى والدراما بجامعة جوبا .. ذلك هو حلمي بأن ادرس في الكلية التي يرى الكثير من أفراد المجتمع أنها ليست ذات تأثير كبير في الحياة، وبالفعل تم قبولي بالكلية في عام 2009 .. واستطيع أن اقول الآن، بأنني قد تعلمت الكثير من خلال سنوات دراستي بالجامعة، أجملها معنى التعايش السلمي”.
(5)
مطالب بتشييد مسرح قومي :
يواجه المسرح في جنوب السودان تحديات عديدة، تهدد استمرارية نشاطاتها، فبخلاف غياب القوانين والتشريعات التي تنظم العمل المسرحي أو الثقافي عموما، يعاني المسرح من غياب البنية التحتية والتمويل المالي اللازمين، ونتيجة لذلك برزت مؤخراً أصوات تطالب بضرورة تشييد مسرح قومي، ودور للعرض واندية ثقافية تساهم في إثراء النشاط الثقافي وتخلق حراك مصحوب بإنتاج وفير.
ويقول الصحفي المهتم بالشأن الثقافي، مايكل عبدالله، إن أكبر التحديات التي تواجه النشاط المسرحي في البلاد هي غياب المسرح القومي والاماكن المخصصة لإقامة الأنشطة المسرحية والثقافية، كما اشار إلى ان ضعف التمويل المالي يشكل عقبة كبيرة أمام تطور المسرح، مطالبا جهات الاختصاص بالالتفات للموضوع.
وأضاف عبدالله :”رغم تلك التحديات إلا ان المسرحيين استطاعوا تقديم اعمال جميلة بمجهودات فردية، والمسرح كفن نبيل يمكن أن يلعب دور كبير في خلق التعايش السلمى وسط المجتمعات، ومخاطبة القضايا الاجتماعية المختلفة”.
* كاتب من جنوب السودان
* نُشر هذا التقرير تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تصدره جريدة الموقف بجنوب السودان.