ثمار

تدشين الإصدارة الثانية لمعتصم الإزيرق الثلاثاء الماضية(1-3)

mutasim

مساء الثلاثاء الماضية، 22/11 الجاري تم تدشين المجموعة الشعرية الجديدة (معاوية نور على ضفاف التيمز) عن دار المصورات للشاعر معتصم الإزيرق بدار العاملين بديوان الضرائب بود مدني. قدم الأمسية وأدارها الكاتب الأديب علي مؤمن. قرأ الأستاذ المترجم السر خضر قصيدة (إيقاعات) بالإنجليزية للإزيرق سبق أن ترجمها له. الشاعرة إيمان عابدين قرأت قصيدتها (في تحية ود مدني)، ثم قرأ الإزيرق قصيدته المطولة (معاوية نور على ضفاف التيمز)، وكان ختام التدشين ورقة عن الديوان قدمها الأستاذ جابر حسين بعنوان (وجهة أخرى في الشعر، ليس عن معاوية وحده)! خصَّ بها (الممر)، ننشرها على جزئين، فإليها:

(إذا لم يجيء الشعر طبيعياً، تلقائياً، كما تنمو الأوراق على الأشجار، فخير له أن لا يجيء).  – كيتس –

بالأمس صدر عن (دار المصورات) الكتاب الشعري الثاني للشاعر معتصم الإزيرق (معاوية نور على ضفاف التيمز). الكتاب في 146 صفحة من القطع الكبير وصمم غلافه محمد الصادق الحاج. يحتوي على 20 قصيدة. جاء في مفتتح الكتاب حيث رأى أن يرينا حاله وهو في مواجد العشق ويعايشها الكلمات. يمكننا أن نقول إنها بمثابة افتتاحية للمجموعة الشعرية، ومدخلاً يهديك عبره ضوءً منيراً يؤشر لحال الشعر عنده، ولما تقوده، في ذاته، إلى حيث يكون الآن، في الشعر والعشق والحياة. ثم يجعل من الكلمات، التي هي الشعر، لبوسه في راهن حياته الآن، وكيف يكون سبيله إلى العشق وهو خائض في بلباله. الشعر والموقف، إذن، هما قوله فينا، وفي الملأ الذي هو الحياة عنده. هكذا، رأيت في الشعر والموقف، كليهما، الباب العريض الذي المفضي إلى شعره كله في هذه المجموعة. رأيتها، تلك الافتتاحية، المدخل المضيء الوسيع الذي يأخذك إلى ملكوت شعره كله. يقول من يقين ذاته، في تحدٍّ وزهوٍ، حد تخاله يصرخ في الملأ :

(ولكن الحرائق وهي ترصد ما تَبَرْعَم بيننا

اشتَعَلَت بنيران الكراهية،

داهمتنا.. قبل ميلاد النهار.

وشُرِّعت سُنَنُ الفراق لنا،

وقالت إنها من أجلنا قدمت،

لتنقذ عشقنا منا!.

تعال إليَّ يا عشقي،

تعالي.. يتها الكلمات نمضي العمر حرية،

ونكتب باندفاعات الدم العشقي فينا،

أننا لا نرتضي من كائنٍ من كان،

أن يتملق الأعتاب،

أن يتسلَّق الأسباب،

يسرق حلمنا منا،

ويُجهض طفلَ ميلاد الهوى فينا)!

هو، هنا، ينادي البلاد، عشقه الذي يكاد لا يكف عنه، وهذي البلاد، نفسها، هي في الجوهر من شعره وحقيقته، ولا ضير أن يأتي، وهو في لبوس الشعر، أحياناً غامضاً أو جهيراً باهراً، أو مالحاً، أو واضحاً! كنت قد قلت في تحيّتي إليه العام الماضي لمناسبة تدشين كتابه الشعري الأول (وتريات صاحب الربابة):

mutasim

ذاك هو حال الإزيرق، عاشق الإيقاع وأخته التوأم الموسيقى. يتذكر، وهو في حضرة الذكرى، تماماً كما قال درويش، صدى الأشياء تنطق به، فينطق، وهذا شعره الآن مضموما إلينا بمحبة الشعر ورؤاه فينا ! الموسيقى، إذن، بإيقاعها، تتعمد في قصيدته، تنثال في النصوص كلها حتى خاتمة الكتاب، صوراً ومشاهداً شتى مبثوثة في مناخٍ شجريٍّ، في البستان وفي الحديقة، ومثلما الفراشات يجعل للتعابير رفيفاً، فينشط في إذكاء أوارها بالموسيقى والإيقاع، لكأنه يودّها تتسع لتغدو عوالماً وسماوات، لكنه لا يغفل عن سقياها، فقد خلق اللحظة الأثيرة التي تؤذن بانبجاسة الماء!

الموسيقى بنت الشعر، والإيقاع ربيبهما الوسيم في الحياة! الإزيرق – الذي نقرأ بعضه الآن – هو في الأصل “حلواني” على قول أصحابنا المصريين. سر حلاوته في صواب اختيارهما معاً، الجميلان في أفق الشعر: الموسيقى والإيقاع، في قصيدته. هذا الإنسان الجميل – والإنسانيون في مشهدنا الشعري قليلون قليلون – رغم واقع تخصصه في اللغة العربية منذ العام 1970، ثم – من بعد – حصوله على الماجستير في “الأدب العربي الحديث” العام 1980، فقد عاد – بسبب من تلك الروح الحالمة في تحليقها العالي وتجلياتها – إلى أشواقه وعشقه الذي لا يكون إلا به، إلى الموسيقى، معشوقته التي شَكَّلت شخصيته ورؤاه في الحياة، حيث ذهب، من بعد، إلى “معهد الدراسات الأدبية” التابع لجامعة لندن لتلقي الدرسات في الموسيقى، في وجهها الذي عرفه وخالطه هنا، ووجهها هناك، ولم يغادر إلا بعد أن نال درجة الماجستير في الموسيقى، فتأملوا!.

لكن، ما يتوجب قوله هنا، أن هذه المجموعة الشعرية الجديدة للإزيرق، تتجاوز، في ظني- فنياً ورؤيوياً- ما رأينا عليه شعره في (الوتريات)، وهذه، كما رأيت، وجهة ابتكار وتجديد على نحو ما في مسيرته الشعرية التي يبدو لنا أنه يأتينا بها كل عام! ثم أنني أراها، في عديد وجوهها انسجاماً -أقول انسجاماً لا مطابقة ولا شبيهة- مع وجه وتوجهات الشعرية الجديدة الطالعة، الآن، فينا، دحضاً فنياً مبتكراً وجديداً، للسائد المسيطر، حتى الآن، وتحليقاً، ليس بأية اشتراطات، في فضاءات القصيدة، تلك التي تقول قولها من داخل جواهرها هي بالذات، من الكينونة الشعرية الكائنة لدى الشاعر باللغة الحميمة والإيقاع الرحيم، وأراها، أيضاً، في وجهة المغاير غير المألوف، تقسو علينا بجديدها حدَّ أن تصيبنا بذات إيقاع العشق لدى وجدان الشاعر و… في القصيدة نفسها!.

في حواريته (يا له من سفر)، يضع السؤال تلو السؤال ويلح عليه، يلح ويلح ليظفر بالجواب الذي يكون في موضع الانتظار، لكنها، وحدها، الكلمات تنطق به وتقوله علناً، تقول به برغم “القسوة التي في الحليب” على قول المجذوب، تقول به في أوان الحوار الجريء مع الذات، ومع الآخر. فتأتي الإجابات لتزيح عديد الأقنعة والمقولات والرؤيات التي ذبلت، ماتت أو تكاد، فتنهض نهجاً جديداً للتفكر والتأمل بشأن الذي جرى ويجري ويحدث أمامنا شاخصاً مديداً الآن. يفعل ذلك حتى يأتيه، من أعماق رؤياه، منادي اليقين الذي هو دليل قلبه ووعيه في هذا السفر الطويل الطويل:

(نُزَوِّج -أنى استطعنا- عذارى الشجر،

 نُحَرِّر بعض الدعاوي القديمة،

 بعض الطيور الرهينة في القيد

 نكسر طوق الحمامة

 وزن القصيدة،

 ننشئ مملكةً في جناح الفراش المسافر،

نربح حيناً.. ونخسر،

ولكننا نتحرر،

من حالة الانتظار،

ونخرج من غرفة الاحتضار

وندخل في لَهَب النار،

من ذاتنا نتحرر،

وفي ذاتنا نَتَغَيَّر،

نُولَدُ في ذاتنا من جديد،

ونعلم أن القطار الذي فاتنا،

لن يعود،

وأن علينا تعلم معنى الزمان،

ومعنى المكان،

وإدراك مغزى

ووجهة هذا السفر..!).

في النار، هذه التي طلبها حتى كان فيها، تتجوهر جواهرنا فتصير صقيلةً ناصعةً وبأجلى وأوضح ما تكون، تغير كل ما حولنا و… نتغير، وندرك معنى الزمان والمكان ونتحرر، ذلك لنكون في قامة الذي يظللنا بالبهاء وبجدوى الحياة، ذلك هو الوطن! ولكن، ما هو الوطن؟ يقول درويش: (وما هو الوطن؟ ليس سؤالاً تجيب عنه وتمضي؛ حياتك وقضيتك معاً. وقبل وبعد ذلك هو هويتك، ومن أبسط الأمور أن تقول: وطني… حيث ولدت.. وقد عدت إلى مكان ولادتك لم تجد شيئاً فماذا يعني ذلك؟ ومن أبسط الأمور أن تقول أيضاً: وطني حيث أموت.. ولكنك قد تموت في أي مكان وقد تموت على حدود مكانين فماذا يعني ذلك؟ وبعد قليل… سيصبح السؤال أصعب)*، ونضيف، لنمضي في الأسئلة، على ذات نهج الإزيرق نفسه هنا، لماذا هاجرت؟…. لماذا هاجرت؟ منذ أن غشانا الظلام وادلهمت ليالينا ونحن نسأل: لماذا هاجروا؟ ليست الهجرة إلغاء الوطن.. ولكنها تحويل المسألة إلى سؤال، فلا تؤرخ الآن، أيها الشاعر، حين تفعل ذلك تخرج من الماضي، والمطلوب هو أن تحاسب الماضي، فلا تؤرخ إلا جراحك، لا تؤرخ إلا غربتك أنت هنا، هنا والآن! هذا ما شرع الإزيرق يشتغل، شعرياً، عليه، مراجعة الماضي ومساءلته، وليس تأرِخَتِه بأي حال من الأحوال! فعلها مع النيل في (قليلاً.. قليلاً) حين وقف عارياً، إلا من الشعر ويصدقه، فشرع يتلو، إليه وإلينا، مسوغاته:

(عسانا نردّ إليه الحياة

عسانا نجدد فيه الشباب،

ونسدي إليه الجميل

ونشهد فيه الجمال

إذا ما استطعنا إليه سبيلا

قليلاً.. قليلا…)

* شاعر من السودان

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.

زر الذهاب إلى الأعلى