مطاردةُ الانهيار وصَيدُ الأشبح (1-2)
سينما الأبيض: عروس الرمال
ننشر في (الممر) من خلال هذه المساحة، تحقيقاً ميدانيّاً حول السينمات السودانية في مدينتي (عطبرة والأبيض)، وهو لم يُنشر من قبل، وأُنجز في العام 2013م بالتعاون مع معهد جوته – الخرطوم، و(سودان فيلم فاكتوري)، قبل أن تستقل الأخيرة عن المعهد وتصبح مؤسسةً مستقلّة. ضمّتني الرحلة مع المصور مُحمّد توم، والذي كانت تصاويره تُشكِّل المادة الرئيسيّة لكتاب قصة مصوّرة حول هذه الرحلات، وكان قد أخذ من نص التحقيق أدناه بعض الاقتباسات ونُشرت مرفقةً مع الصور. نبدأ اليوم بمدينة (الأبيض)، ونختم الأسبوع المقبل بجولة (عطبرة).
الأبيض: مأمون التلب – تصوير: محمد التوم
تاريخٌ مُهمَلٌ:
كما العادة، استغرقت رحلتنا ليلةً وصباح يومٍ تالٍ في مدينة الأبيض، فنزلنا بحقائبنا عند بوّابة سينما (عروس الرمال) التي تَرَمَّلت منذ سنوات طويلة، تَقشَّرت بشرتها وهلكت، خَلت جدرانها من إعلاناتها الضخمة المنيرة والزاهية بألوان الممثلات والممثلين والخلفيات المُوحيَة، وانغَلَقت أمامنا بوّابتها القديمة بإحكام بدَت معه وكأنها في ثباتٍ قديم. ذات الشعور بإحكام الإغلاق والموات الذي بَعثَته فينا بوّابة السينما الوطنية بعطبرة. لا مَفرَّ لقلبك من الشعور بالأسى عندما تُفتح لك البوّابة وتدخل، ببطء من يدخل مقبرةً، إلى شسوع مساحتها الهائل. تأسست هذه السينما في العام 1958م، ووضع حجر أساسها سليمان مكاوي أكرد مدير مديريّة الأبيض آنذاك، وهي مملوكة لآل سنهوري، عائلة عريقة جدّاً من الأبيض. وسينما (كردفان) هي الأقدم تاريخيّاً (عشرينيات القرن الماضي) ولكنها غير موجودةٍ الآن تقريباً؛ وقد تحوّلت إلى محالٍ تجاريّة لبيع الموبايلات وإكسسواراتها.
تنظر من حولكَ وكأنّك دخلتَ تاريخاً مُهملاً بإصرار، تصعد الدرج فترى تعدّد مستوياتها: هناك في الأسفل تنحشر الكنبات الحديديّة في بعضها البعض، ومن بينها تتصاعد النباتات ومن حولها تتناثر الأوساخ، وللحظةٍ تظنّ أنها تتأرجح، من شدّة تكدّسها وتداخلها؛ كم هائل من الكنبات الحديديّة يسع ما يسمّونه بـ(درجة الشعب) العاشق للسينما في ماضٍ ما، والذي تمتدّ صفوفه على جانبي السينما ـ البوابات الشعبيّة ـ ويمكنك، بقليلٍ من الخيال، أن تتصوّرهم واقفين خلف بعضهم البعض، في تلك الصفوف، يتبادلون المُزاح والحديث عن الأفلام.
كنّا نقف إذاً بين كراسي (درجة ثانية – اللوج) الصدئة، ذات التكوين الجميل، اللين بزواياه المتلوّية، والتي استدارت جميعها، لتواجه الجدار لا شاشة العرض، جدارٌ جديدٌ مُبيَّضٌ ومستوٍ، يُستخدَمُ الآن لعرض المسلسلات ومباريات الكرة والمصارعة باستخدام البروجيكتور، والذي يبدو، بالنسبة لشاشة السينما التي تكفي لعرض أفلامٍ لألفي مشاهد، كإنسانٍ يُواجه عملاقاً بسيفٍ من خَشَب.
عائلة السينما:
هنالك دوائر صغيرة تحتمل وجود أربعةٍ إلى خمسة كراسٍ، مُحاطة بدرابزين جميلٍ تصلحُ لضمّ مجموعةٍ من الأصدقاء، كلٌّ في مكانه، ويُحيط بكل هذا، كحدوة الحصان، طابقٌ ثالثٌ خُصِّص للعائلات. (تُخدم الدرجة التي في الأعلى من البوفيه بواسطة جرسونات – يقول العم سبت ديرو تُرُك – وبإمكان المشاهدين من الشَعب أن يخدموا أنفسهم من تلك النافذة). يُشير إلى شبّاكٍ عتيقٍ يُؤدي اليوم إلى مطبخ عائلة العم سبت، والتي تسكن اليوم داخل السينما، وهو المشهد الوحيد النابض بالحياة داخل السينما، وهو الذي بَعثَ فينا الارتياح والمواساة؛ ترى الأسرّة منتصبة بناموسيّاتها أمام مسرح شاشة العرض الكبير، ومن نافذة الكافتيريا القديمة تلمح المطبخ الحي، والأطفال يلعبون هنا وهناك.
يعمل العم سبت ديرو تُرُك في هذه السينما منذ يوم 15 نوفمبر 1969م (يحفظ التاريخ جيّداً) أي لأربعة وأربعين عاماً، بدأها كعامل للنظافة وترقَّى إلى رئيس عمّال، واليوم هو مسؤول من السينما برمّتها. لم تتوقّف السينما تماماً، بشاشاتها ومكناتها، حتّى العام 2004م ـ حسب سبت ـ وأنها توقّفت مع توقّف الأفلام (كان يربت بيده على بكرات الأفلام القديمة) والتي تأتي عادةً من الخرطوم. تحوّل العمل إلى آلة البروجيكتور بعد ذلك على الشاشة الكبيرة، ولكنهم، ونسبةً لارتفاع كشّافاتٍ نَصبتها الحكومة في ساحة المواصلات العامّة بجانب السينما، أوقفوا استخدام الشاشة لأن الإظلام لم يعد يَحدث؛ لقد انتَهَكَت كشّافات الشارع جمال ظلام السينما المُرَكَّز، ففقدت معناها، وطُوِيت وخُزّنت في المخازن. يقول سبت إنهم تحدثوا مع العاملين في البلدية حول كشّافات الشارع ولكنهم (جَهَلوهُم)، ففكّر المدير في تحويل العرض إلى الحائط الجانبي الحالي. سنحرس السينما ـ يواصل العم سبت ـ إلى أن يبيعها المُلاك أو أن يجدوا لها حلاًّ آخر. يرى سبت أنّ إعادة تأهيل السينما أمرٌ ممكنٌ نسبةً لمتانة بنيتها ومعمارها، وأن الشاشة من المُمكن أن تُربَط في خمس دقائق، وأنها من الممكن أن تُسقف وتتحوَّل إلى صالة عرضٍ مُغلقة! وبالنظر إلى إمكانيات المبنى والمكان فإن حديثه يبدو معقولاً. ولكن، بالنظر إلى إمكانيّات التمويل ودعم الدولة المُفتَرَض، يبدو الأمر، كما يشي الحال الحالي، وكأنه من سابع المستحيلات.
يقول سبت: في الستينات كانت هذه السينما جميلة جداً، كانت تُغسَل بالماء والصابون؛ الأرضيات والكراسي والحوائط، بطريقةٍ دوريَّة، وفي كلّ عامٍ يُعادُ طلاء كلّ شيء؛ طلاء الجدران والدرابزين والكراسي، والبلاط يُلمَّع بـ(البوليش)، فتبدو كأنها (عروس الرمال) وقد أُعيد زفافها. كان طاقمها مُكتملاً؛ لكل درجةٍ عمّالٌ لتنظيفها. يؤكد سبت: (السينما دي ممكن تتصلَّح، وممكن تكون صالة جميلة وراقية، ممكن تتصلَّح، في حاجة ما بتتصلَّح؟) ويضحك بأمل.
إفادات الانهيار:
وعبر علاقتنا بالروائي الزين بانقا المعروف في مدينة الأبيض، ودكتور علم الفيزياء الشيخ محمد الشيخ، التقينا بالأستاذ أبو الغيث الخير سابل، من مواليد الأبيض 1952م، كاتب وقاص، عمل في مجال التدريس، وكموظّف في الهيئة المركزية للكهرباء والمياه، وبعد المعاش الاختياري دخل مجال المكتبات، وشارك في الكثير من معارض الكتب. هو ناشط ثقافي ومؤسس مع الزين بانقا وعدد من الكُتّاب والمثقفين لمنتدى كردفان الثقافي.
رحَّب بنا بطلاقةٍ وانشراحٍ باديين، وأخذنا في عدّة جولات ليليّة عبر طرقات المدينة. عندما اكتشف هَدَف رحلتنا وجَلسَ ليُدلي بإفادته، قال إن الحديث عن سينمات الأبيّض مُحزن جدّاً، فعاد بالتاريخ إلى سينما (كردفان) الأقدم، وهي ـ حسبه ـ شراكة بين سودانيين ويمنيين، يقول: (كانت الأبيض في تلك الأزمنة مدينة عامرة بالجاليات المختلفة؛ منها اليونانية والسوريّة والقبطية والهنديّة، بوصفها مركزاً تجارياً تنويرياً). تحدّث عن الحركة الثقافيّة الجارفة منذ الأربعينيات، والتي فاق تأثيرها مُدناً كثيرة وكبيرة في السودان، إذ كانت مزاراً للعديد من الكُتّاب والشعراء من خارج السودان مثل نزار قبّاني وعلي عبد الواحد وافي، عالم الاجتماع المصري، وكانت محجّة للشعراء في الخريف. إضافةً إلى أسماء كبيرة خَرَجت من الأبيض في مجالات الموسيقى والأدب والفن والفكر.
بدأت علاقة أبو الغيث بالسينما عبر والده العاشق لهذا الفن، فمنذ افتتاح سينما (عروس الرمال) في الخمسينات، تردَّد عليها أبو الغيث منذ أن كان في السادسة من عمره رفقة والده. وتدريجيَّاً تغلغل حبّها داخله، وهو إلى الآن، محب مُخلص لها، ولكن أصابها ـ كما يقول ـ ما أصاب الكثير من المؤسسات الثقافيّة في السودان من خراب ودمار. (أثّرت السينما عليَّ ككاتب؛ الموسيقى والديكورات، وأكثر ما كان يجذبني (الفيشات) التي تظهر ضخمة في الشارع على جدار السينما، بصور الممثلين الكبار مُضاءةً. اشتهرت سينما عروس الرمال بتقديمها للسينما الراقية، أي التي تفوز بجوائز عالميّة كالأوسكار؛ هل تستطيع أن تتخيّل أن الفيلم الحائز على الأوسكر يُعرض في سينما (عروس) بعد شهرٍ من نيله للجائزة؟) يقول، فأقول في سرّي (لا أستطيع، أعذرني)، يواصل: (كنّا نقرأ في الإعلان: هذا الفيلم حائز على جائزة الأوسكر، ببساطة. شاهدنا في السبعينات أفلام لن ينساها الإنسان طوال حياته، كفيلم Turning Point وGone with the wind وWar and peace وقد رأينا شارلي شابلن لأول مرة في هذه السينما والإخوان هاردلي وغيرهم الكثير من المعجزات؛ وجميعها كانت إثراءً وجدانيَّاً لإنسان المدينة والسودان). وعن روّاد سينما (عروس)، يقول: (كان أغلب روّادها من المثقفين، والذين كان عددهم كبيراً في تلك المرحلة، فهي تقدّم أفلاماً غربيّة واجتماعية وروائية وتاريخيّة، ولم تكن تميل لأفلام الكاو بويز والآكشن، وفي ذلك الوقت بالطبع، لم تكن الأفلام الهنديّة منتشرة كما اليوم، فقد دَخَلت على استحياء، ولكنها أيضاً كانت أفلاماً لا تُنسى وكانت تحوز على إعجاب الناس كفيلم (الهلال)، وهو باكستاني على ما أعتقد، ثم ظهرت سلسلة أخرى.
تأميم السينما:
قبل المصادمة ما بين نميري والشيوعيين، في السبعينات، كان المدّ الاشتراكي طاغياً فدخلت السينما الروسيّة، ومن أشدّ الأفلام تأثيراً ولا يُنسى كان فيلم رائعة تولوستوي (الحرب والسلام)؛ كان عرض ذلك الفيلم حدثاً كبيراً في الأبيّض؛ إذ عُرض على جزئين، وأتذكّر في اليوم الثاني، وعند انتهاء العرض، والسينما ممتلئة عن آخرها، وَقَف الحضور جميعاً وهم يصفّقون بشدّةٍ مستمرّة لمدة طويلة؛ كان فيلماً مميّزاً من حيث الإخراج والتصوير والموضوع والتمثيل، وقد كان الوعي في تلك الأزمنة عالياً، ولن نستطيع المقارنة بين الحركة الثقافية السودانية في تلك الأزمنة واليوم نسبةً لانعدام المؤسسات وانحسار ظاهرة القراءة الشَرِهة التي تميَّز بها السودان عبر مقولة: القاهرة “تكتب، بيروت تطبع والخرطوم تقرأ”، وكانت المكتبات منتشرة بطريقة غير طبيعيّة. والآن دعك من الأبيض، ولكنك ستشقى لتحصل على كتاب في الخرطوم – العاصمة – بينما كانت آخر الإصدارات من بيروت أو لندن أو أمريكا توجد في كل مكتبات السودان.
كانت شركة “لوكَس” هي الموزّع الرئيسي لهذه الأفلام على نطاق السودان، وقد أَمّمها الرئيس جعفر نميري في عهده، يرى أبو الغيث أن لُب المعضلة وبدايات انهيار السينما بدأ من هذه النقطة من تاريخ السودان؛ يقول: (وقد أمم تلك الشركة ـ نسبةً لتأثّره باشتراكيّة الرئيس المصري جمال عبد الناصر وسياساته التأميميّة ـ لمجرّد أن يتشبّه بعبد الناصر، وقد كان النميري بسياساته تلك يشبه تماماً (الثور في مستودع الخزف). فتلك الشركة لم يكن لديها أية توجهات سياسية بل كانت تعمل في مجال الثقافة والمعرفة فقط! لم تكن ضد الدولة أو المجتمع! أعتقد أن الانهيار بدأ بعد ذلك، وقد تأسست في ذلك الوقت، بدلاً عن الشركة، مؤسسة الدولة للسينما، وأصبح اسما بلا معنى؛ فقد كان من الطبيعي، بعد تأسيس المؤسسة أن تنشأ حركة إنتاج سينمائي، وأن تكون لدينا كليّة سينما في معهد الموسيقى والمسرح مثلاً! حتّى الذين هاجروا لدراسة السينما خارج السودان عادوا ولم يجدوا المُعينات، فالعلم وحده لا يصنع السينما؛ فهي فن وتجارة أيضاً، كذلك فالسينمائي لا يستطيع أن يعيش إلاّ وسط مجتمع منفتح لا تكبّله القيود، ولكن كانت هنالك الرقابة والضغوط المُمارسة على الفنانين من جهات سياسيّة؛ الفن لا ينشأ إلا في المحيط الحر، وهذا هو السبب الثاني. ثم جاءت الأفلام الهندية الرخيصة. كانت لدينا فُرص لترقية المجتمع والناس ولكننا لم نفعل ذلك، إن واصلنا في ترقية المجتمع منذ نقطة تطوره الكبيرة في السبعينات لطلب الجمهور سينما متقدّمة وراقية تتناسب مع ذوقه، ذلك لم يحدث: فالتهمتهم تلك الأفلام الهابطة، رخيصة الانتاج والتكلفة. فمنذ الانهيار الأعظم في ذلك الوقت، والمستمر بالطبع إلى الآن، بدأ الناس يطالبون بتلك الأفلام، وتلقّفتها الدور في جميع أنحاء السودان).
مراقبة الأطلال:
ما نراه الآن عبارة عن أطلال؛ أُحيطت بالدكاكين والكافتيريات، وداخل سينما كردفان، في مكان شاشة العرض، هنالك محل للموبايلات، وعندما خَرجنا مع الكاتب أبو الغيث وجُلنا كان يشير إلينا: (ذلك الدكان كان مكتبة عامرة، وقد كنت مالكاً لها في يومٍ من الأيام) وهي اليوم محل لبيع التبغ ومعسلات الشيشة. في زاويةٍ بارزةٍ يُوجد جزّار يقطّع اللحم بقبعة حمراء، أشار إليه أبو الغيث: (ذلك الجزّار كان يملك، في ذات الزاوية، مكتبة عامرةً أيضاً) تحدّثنا إليه عبوراً وقد بدى الأسى على وجهه وانعدام الحيلة. وعندما مررنا بالجامع الكبير، وسط السوق، الأقدم في المدينة (1903م)، كانوا يجرفونه بالجرّافات في ذلك الليل ليبنوا مكانه واحداً حديثاً، ومن حوله تناثرت أكشاك الكتب الدينيّة ممزّقة الأوصال، مقتلعةٌ من الجذور.
* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني بالسودان.