شهادات

مع آرثر غابرييل ياك

في هذا الحوار يحاول الروائي و القاص آرثر غبريال ياك فتح النقاش المبكر حول أولى أعماله الروائية التي رأت النور مؤخراً بعد أن فازت بجائزة آفاق للكتابة لهذا العام ، لكنه لا يحاول بالضرورة الدفاع عن منجزه الإبداعي ككاتب بقدر ما يستغرق في سرد أجواء الكتابة ومحفزاتها ، شخوصها وعوالمها ، أسئلته الوجودية ، وتوقعاته المستقبلية ، سيما وأن (يوم إنتحار عزرائيل) الرواية التاريخية غطت حقبة مهمة في سياق تطور الاحداث الراهنة بأسلوب فنى رفيع ، فإلى مضابط ما قال :

حاوره / أتيم سايمون

– آرثر غبريال بعد صدور روايتك الأولى (يوم انتحار عزرائيل) ، كيف ترى تجربة الانتقال نحو السرد الروائي ، بعد تجربتك الطويلة مع القصة القصيرة؟

هي تجربة لا  بأس بها.. قد تكون الأولى في الصدور ولكنها بالنسبة لي تعتبر الثانية في الكتابة. لدى رواية أنهيت كتابتها قبل ( يوم انتحار عزرائيل) لكن لم يتم نشرها بعد فبعد الانتهاء منها وجـدت نفسي أدخل مباشرة في مشروع  (يوم انتحار عزرائيل)، لذا آثرت نشرها  في المستقبل القريب.

– كيف بدأت التفكير في كتابة مشروعك الروائي البكر (يوم انتحار عزرائيل) ، وماهي المراحل التي مر بها تحديداً؟

جاءني المشروع كفكرة لم تختمر بعد إلا بعد أن تقدمت به إلى منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون وفزت بها ومعي سبعة كتاب من مصر والمغرب ولبنان واليمن وفلسطين وسوريا.. كانت المنافسة ليست بالسهل حيث تقدم حوالي 289 كاتبا من 16 دولة عربية ، تلك كانت المرحلة الأولى بالنسبة لمشروع يوم انتحار عزرائيل.

كانت المرحلة الثانية هي حضور ثلاثة أسابيع ورش عمل حيث قضينا أسبوعان في كلٍ من بيروت وبشرّي في لبنان، وأسبوع آخر في مراكش، المغرب. تلك الورش كانت تحت إشراف محترف نجوف لكتابة الرواية حيث كانت الروائية اللبنانية نجوى بركات هي المشرفة المباشرة لتلك الورش.

الورش كانت عبارة عن نقاش مفتوح تتم بيننا ونجوى بركات في مشروع كل فردٍ منا. بعد ذلك تكون هنالك جلسات ثنائية بين كل واحدٍ منا والأستاذة نجـوى. في تلك جلسات كانت تتم مناقشة الفصول بالتفاصيل: الشخوص، المكان، أسلوب السرد، وإلى آخره من عناصر الرواية المختلفة. أما الكتابة فكانت تتم عندما يعود كل منا إلى دولته ومن ثم إرسال الفصول، التي اكتملت في الوقت المحدد المتفق عليه، عبر البريد الإلكتروني إلى الأستاذة نجـوى للمراجعة والتدقيق اللغوي ومناقشة الخط الروائي إن كان في الأمر شيء يحتاج مناقشته. أكثر شيء أستفدت منه هو التوقيت المحدد في تسليم الفصول، وقد كان لصرامة وعدم مجاملة الأستاذة نجوى في التأخير والتسويف فضل كبير لتعلمي الإلتزام في الكتابة اليومية بدلاً من الخضوع لمزاج الكتابة الذي كنت أعتمد عليه إعتماداً كلياً. أي أنني تعلـمت الكتابـة على طريقـة الكـُتّاب المحترفين.

– لماذا حددت الفضاء الزماني للرواية في إطار الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد في 2013 ، وحصرهم في شخوص عسكريين رئيسيين ؟

ربما لأهمية تلك الأزمة السياسية التي أدت بحياة آلاف من مواطني هذا البلد، وما زالت أسبابها قائمة. فالرواية التاريخية رغم أنها رواية عن ماضي فالهدف الأساسي من كتابتها هو مخاطبة الراهن ذات العلاقة بالماضي.  تلك الأزمة السياسية، للآسف الشديد، لم تعط الفرصة للدولة التي خرجت لتوها من ويلات الحروب لأكثر من عقدين، أن تلتقط أنفاسها  ولو لحينها. كأن هذا الشعـب المسكين لم تُطحن أو تُقتل أو تُشرد بما فيها الكفاية! أو كأنه قد أُصيب بلـعنة  تجعلـه لا ينفك من حربٍ لـيدخل في  أخرى، أو ربما كتب له المـوت عذاباً، فمن يعـلم!

– ألا ترى بأن رواية يوم إنتحار عزرائيل قد نحت كثيراً منحى القصة القصيرة الواحدة المطولة بالحشد اللغوي و الوصفي ، بمعنى أنك لاتزال محكوماً بشخصية القاص ؟

تعرف الرواية اصطلاحاً بأنه قصة مطولة… أي لا يمكن أبداً لعمل إبداعي تعج بالشخوص والأحداث وتتبع حياة بطلها لأكثر من أربعين عاماً أن تنحى منحى القصة القصيرة. فأبسط تعريف عن القصة القصيرة هي أنها تتم قرأتها في جلسـة واحدة ، اما الحشد اللغوي والوصفي على حسب قولك لا يمكن ان يكون معيار للقصة القصيرة. الوصف نشاط فني يمثّل باللغة والأمكنة والأشياء، وكلما كان الوصف في العمل الروائي محكماً ومتقناً يجد القارئ نفسـه كأنه يرى تلك المشـاهد أمام عينيه. إذن الوصف عنصر مهم جداً لتشويق القارئ لمعرفة ما سيحدث في الرواية أو في القصة القصيرة إلا انها في الأخيرة يعتمد على التكثيف والاختزال الشديد في اللغة وضمور الزمان والمكان وتقليص الشخـوص بقدر الإمكان.

– على الرغم من المزاوجة بين ما هو سياسي و تاريخي في الرواية إلا أن الجانب الانساني لشخصية الكولونيل فرانكو أستحوذ على متن الرواية ، لكنها لم تغرق في التعريف بتلك التفاصيل التي انتهت بموت البطل بذلك الشكل السينمائي ، هل كانت شخصية البطل عبئاً كبيراً لتتخلص منه بتلك النمطية ؟

(يوم انتحار عزرائيل)  هي بلا شك رواية تاريخية ، لذا فان  إظهار الجانب الإنساني للكولونيل فرانكو مهم هنا طالما هو إنسان أولاً قبل أن يكون عسكري ويُستغل لتحقيق أغراض سياسية. وكل ما هو سياسي وتاريخي في الحياة نجده مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما هو إنساني. وانه من الأفضل أن يكون للشخصية الروائية بعد إنساني\نفسي وبُعد جسماني، وبُعد اجتماعي.. أما التفاصيل التي تقول بأنها أدت إلى موت البطل “بهذا الشكل السينمائي” فأعتقد أنها موجودة في متن الروايـة حين تتبعت حياته لأكثر من أربعة عقود من الزمـن. الكاتب لا يسـرد كل التفاصيل عن بطله وإلا صارت الروايـة رواية سيـرة تاريخيـة عن الكولونيل فرانكو، وحينها ستغيب دور بعض الشخصيات الثانوية في الروايـة، تلك الشخصيات التي لولاها لأصبحت الرواية  خالٍ من البُهارات التي تـضفي عليها مذاقهـا الخاص.

ليس بالضرورة أن تكون  النهايات في الفن السابع نهايات مأساوية! فقد تكون مأساوية أو سعيدة وكل تلك لا يهم، إنما الأهم ان تكون  النهاية منطقية.. وهكذا  في الرواية، ايضا. فإن كنت تقصد أن الانتحار شكل سينمائي، فبالنسبة لي، إن الانتحار وخاصة عند العسكر، دائماً ما يكون باستخدام السلاح لم فيه من دلالات مثل الشجاعة والموت عسكرياً وليس كشخص لا علاقة له بالعسكرية.

هل كان فرانكو عبئاً على نفسه أم على مجتمعـه أم عبء على الرواية! ربما كان كذلك، وهذا يعتمد على القارئ طالما النص السردي المغلق يخضع لكثير من التأويلات كما يقول أُمبرتو إيكـو! أو ربما أن مجتمعه المدني المتمثل في أسرته، أو قياداتـه العسكـرية، أو حيـاته النفسـية كانت عبئـاً ثقـيلاً عليـه.. لكن انتحاره، لا يعـني التخـلص منه بل ربما نتيجـة للعـواصف التي كانت تهُـب عليه من كل الاتجاهات!

– أدوات الكاتب لمحاكمة التاريخ ، وإعادة تشخيصه من جديد ، وهل قامت رواية يوم إنتحار عزرائيل في بنائها الداخلي على تلك الوقائع ، أم أنها جاءت لتحاكي الأحداث وفق شخصيات من وحي خيالك ككاتب ؟

في الحقيقة، أعتمدت بدرجة أكبر على الوقائع التي حدثت في كل من المدن الثلاث الرئيسية في الرواية بعد أن اجريت بحثاً مكثفاً ولقاءات مع بعض الأشخاص الذين كانوا شهوداً على تلك الوقائع التي شكلت الأعمدة التاريخية الأساسية لروايتي. أما كل الشخوص الروائية فقـد ولـدوا من رحم مخيّلتـي وأصبـحوا بشـراً حقيقـيين لهم حيـاة وعالـم يصولون فيـه وهو صفحـات “يوم إنتـحار عزرائيل”

هل يستطيع الكاتب الذي لا يملك سوى قلم وورق ابيض، أو كيبورد وشاشة بيضاء إجراء محاكمة تاريخية ضد من هم يكتبون  بأفاعيهم السياسية على صفحات التاريخ. ما فعلته هو روايـة تاريخ ما كان يمكن أن يكـون، كما يقول الاخوان غونكـور. أي قمت بتوثيق  وقائع واحداث بأسلوب روائي كي لا تنفلـت تلك الأحداث من الذاكرة الجمعية المثقوبة بفعل الجوع والمرض والعوز.  ربما اعتبرت الأجيـال القادمـة، من تلك الدروس القاسية، ومن ثم تفادي تكراراها في المسـتقبل الذي يبـدو ضبـابيـاً. ا

–  بعد أن راى مشروعك الروائي الأول النور ، هل ستمضي في نفس الطريق أم ستعود لكتابة القصة القصيرة ، وما هو مشروعك المقبل ؟

ثمت فكرة ما أو حـدث ما لا تصلـح إلا أن تُطرح في قالب قصة قصيرة، وأخرى لا يمكن إلا أن يوضع في قالب روائي خاصة إن كانت حاشدة بالشخوص والأحداث واتساع الفضاء.. إذن الفكرة أو الحدث أو الموضوع هو الذي يحدد نوعية القالب الإبداعي الذي يكون مناسباً لصبه فيـه! كتابة القصة القصيرة أصعب بكثير من الرواية، رغم أن الكثيرون  يظنون أن القصة قصيرة  أسهل كتابةً لأنها قصيرة. الرواية تحتاج تخطيط ووقت اكبر لكتابتها. أما القصة القصيرة فتحتاج إلى بلورة الفكرة في الذهن أولاً ومعرفة نهايتها، غير ذلك، فأنا لا أستطيع كتابتها! إن الأمر في القصة القصيرة  أشبه بلعبة الروليت إما أن تُصيب أو تُخيب، لا خيار ثالث لذلك. اعتقد بأنني سـأمضي في ذات الطريقين كلٍ على حدة حسب الفكرة أو الحدث أو الموضوع أو حجم الزمان والمكان أو عدد الشخصيات.

* شاعر من جنوب السودان

* تم نشر هذا الحوار تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تُصدره جريدة الموقف بجنوب السودان.

زر الذهاب إلى الأعلى