مطاردةُ الانهيار وصَيدُ الأشبح (2-2)
عطبرة: السينما الوطنية
ننشر في (الممر) من خلال هذه المساحة، تحقيقاً ميدانيّاً حول السينمات السودانية في مدينتي (عطبرة والأبيض)، وهو لم يُنشر من قبل، وأُنجز في العام 2013م بالتعاون مع معهد جوته – الخرطوم، و(سودان فيلم فاكتوري)، قبل أن تستقل الأخيرة عن المعهد وتصبح مؤسسةً مستقلّة. ضمّتني الرحلة مع المصور مُحمّد توم، والذي كانت تصاويره تُشكِّل المادة الرئيسيّة لكتاب قصة مصوّرة حول هذه الرحلات، وكان قد أخذ من نص التحقيق أدناه بعض الاقتباسات ونُشرت مرفقةً مع الصور. بدأنا الجمعة الماضية بمدينة (الأبيض)، ونختم هذا الأسبوع بجولة (عطبرة).
الأبيض: مأمون التلب – تصوير: محمد التوم
تأسست السينما الوطنية بعطبرة في ثلاثينيات القرن الماضي، على يدِ عائلةٍ قبطيّةٍ من أقدم العوائل في المدينة، والذين كانوا يملكون، إلى جانب اهتمامهم الأصيل والصادق بالسينما، مصانع صابون ويعملون في الاستيراد. قدَّمت هذه لوسي أمين للسينما الكثير؛ فهم أسسوا ويملكون عدداً منها، آلَت جميعها، واحدةً تلو الأخرى، إلى انهيارٍ متدرّجٍ أحياناً، حاسمٍ ومقصودٍ في حالة سينما شندي التي هُدّت هدّاً وأُخليت بأمرٍ من الدولة. تُصرّ السيدة الأستاذة لوسي أمين على استمرار آخر سينما تَقع على الطرف الآخر من شارع بيتها وسط المدينة، وإن لم تَعد سينما كما عُرِفَت في الماضي. لقد انشرَّت شاشات الـ(LCD) الضخمة أمام مقاعدٍ قديمةٍ كانت في الماضي مُخصّصة لطبقات اجتماعية تستطيع أن تتكفّل بثمن تذكرتها، تتناثر حول الشاشة مجموعة من الأجساد المتعبة من يومٍ مرهقٍ وطويل، بعضُ هؤلاء يعيشون في السوق أو في الشوارع، وبعضهم يعمل طوال النهار ليتمتّع بقليلٍ من الأفلام والمسلسلات وربما بعض البرامج أيضاً.
عطبرة: مأمون التلب
عندما وقفنا أمام بوّابة السينما وواجهتها التي لا تزال (تَشَرِّف) ـ بتعبير السيدة لوسي ـ شعرنا أن هذا المكان (مُغلَق) تماماً؛ أبواب الحديد المزخرفة الجميلة والقديمة مُغلقة بجديّة وصرامة، ولا أحد في الجوار. في الداخل توزّعت بوسترات قديمة وأخرى حديثة، بوردات عتيقة لما يُعرض هذا المساء وما سيُعرض (قريباً)، أبطال وبطلات أفلام هنديّة تتمزّق أجسادهم مع تمزّق بعض البوسترات، وتبدوا وجوههم كأنها تُحدّق في الكثير من الأشباح التي لم تعد تعبر بكثافةٍ عبر البوابة. بحثنا، مع سائق تاكسي لطيف أقلّنا من المحطة، عن من نسأل لنصل إلى مُلاك السينما، عاد معنا ميكانيكي كبير في السن فَتَح تلك البوابة الصارمة ببساطة وسلاسة! دخل ونادى على العم يوسف عبد الفضيل، والملقّب بـ(سحري) (72 عاماً)، خَرَج علينا من الداخل رجل ستيني نحيل بفانيلة حمّالات تُبرز نحوله، وبابتسامةٍ مُرحّبة، ووجهٍ غيرَ حليقٍ البتّة، استَقبَلَنا بواب السينما وغفيرها سحري والذي أصبح، فيما بعد، دليلنا الذي قادنا في رحلتنا القصيرة هذه. لهُ الشكر.
اكتشفنا أن السينما تعمل، تكمن المفارقة في قِدَم المكان الفائح، اهتراء الكراسي وتحطّم بعضها وتكدّس عدد منها فوق بعضها البعض، كيفما اتفق، في المساحة الشاسعة التي تشغل ساحة العرض الحالية، على شاشة كبيرة، مساحة تقل عن الربع بكثير. في المكان الذي خُصّص للتذكرة الشعبيّة، خُصّص مكان ليكون زريبة صغيرة لخرفان قليلة (ربما كان هذا مؤقتاً بسبب العيد) وصالة صغيرة بالداخل يعيش فيها العم سحري ومعه الشاشات المتطوّرة والمزيد من البوسترات القديمة. أمام واجهة السينما المهيبة تكوّنت بركة من المياه القذرة وعلى جانبها تراكم سيخ حديد جُهِّزَ ليُكوِّنَ مبنىً سكنيّاً جديداً. حدّثني العم سحري، والذي يعمل في السينما منذ 11 عاماً الآن، ولكنه ارتبط بها منذ الخمسينات؛ حدّثني عن واجهة السينما ـ وما تبقّى من مساحةٍ صغيرةٍ أمامها عبارة عن شارع تُرابي ـ ومواقف السيارات الشاسعة أمامها، كان يحكي بانفعالٍ عن حيويّة والمواقف والناس أمام ساحة الواجهة، عن صفوف في الجانب الآخر للسينما للمقاعد الشعبيّة تمتد إلى أن تصل شوارع السوق الداخليّة! عن شغفٍ سينمائيٍّ في أزمنةٍ لم تدخلها أجهزة الراديو والتلفزيون.
لقاء لوسي:
تركنا التصوير لأهله (محمد التوم وخالد …) وذهبت رفقة العم سحري إلى منزل السيّدة لوسي: باب صغير جميل ومبنى قديم. دخلنا فإذا بنا نجلس في صالةٍ طويلةٍ ضيّقة، مرتّبة بأناقة، نظيفة، وأثاثها قديم. آيات المحبّة والغفران تُزيّن الجدران: صورة للسيّد المسيح في بداية الصالة مكتوب عليها (عندما أغفر فإنني أنسى)، والأخرى لوحة العشاء الأخير الشهيرة. كنت أفحص المكان عندما دخلت علينا بهدوء سيّدة ستينيّة أنيقة بفستان أسود ونظرة هادئة حكيمة متسائلة عن سبب الزيارة المفاجئة. سلّمت وعرّفت بنفسي ككاتب وصحفي وجلسنا. بدأت هي الأسئلة، وليس العكس: [ما الذي تُريد أن تكتب عنه؟ (كانت تنظرُ مباشرةً في عيني) هل من الممكن أن يُكتَبَ شيءٌ بعد هذا الخراب؟ ما الذي ستستفيد منه السينما إن أنا تحدثت إليك؟ الصحف تأتي وتكتب وما من جديد؟ هل تعتقد أن هنالك مستقبل للسينما في السودان؟] كانت تعبيرها وهي تطرح هذه الأسئلة تقطر مرارةً! شرحتُ لها الجهة التي أمثّلها (معهد جوتة – الخرطوم)، وعن مشروع سودان فيلم فاكتوري. وبينما كنت أحدثها لَمَع بريقُ اهتمامٍ في عينيها: سينما سودانية جديدة؟ قدّموا أفلام جديدة؟ من هم؟ كيف يعرضون الأفلام؟..إلخ. شرحت وأسهبت، حتّى أنها سألتني عن نوعية الأفلام وهل من الممكن أن أقدّم لها نماذج؟ حدثتها عن نماذج ومواضيع بعض الأفلام فبدَى عليها الارتياح. حديثها من بَعدِ كان مُشبّعاً بالمرارة إلى أقصى حد!
لا تتدخل طائفة الأقباط في الشأن السياسي في أغلب الأحوال، وأسرة الأستاذة لوسي كانت متعاونة مع الحكومات المتتالية في ما يلي السينمات التي يملكونها، ولوسي لم تَخرج عن القاعدة: احترام القانون والاستمرار في النضال لأجل بقاء السينما. حدّثتني لوسي عن المراحل التي يتغيّر فيها الولاة والحكّام، وأن بعضهم يُساعد بعد أن يكون الذي سَبَقه قد ألحق أضرار بليغة بالسينما. جادلت لوسي المسؤولين واتبعت الطرق القانونية في انتزاع حقوقها، لوسي، وهي آخر من تبقَّى أسرة من ملاك السينما، قدّمت الحجج للولاة الذين يتحدثون عن إفساد السينما للمجتمع بالثقافات الوافدة بأنهم لا يقدّمون في السينما إلا تلك الأفلام التي أجازتها الدولة، وبعد أن تتم مراجعتها وتتقطيع ما يُنافي ثقافة وتقاليد المجتمع! قال لها الوالي مرةً أنه زار السينما بملابس عادية، فلم يجد إلا “حثالة المجتمع”، وأنها أصبحت مأوىً لهم. ردّت لوسي: وما الشرّ في ذلك؟ إن وجدت ما تسميهم “حثالة” مكان للاستفادة وقضاء وقت مفيد؟ أليس أفضل من أن يتسكعوا ويتسببوا في جرائم؟.
كانت تطرق جميع الأبواب، إلا أنها لم تستطع أن تمنع كارثة هَدم سينما شندي المُشيَّدة بمتانة طوب الماضي الأصيل، رغم صمود الجدار الصلب أمام ضربات المُهدِّمات لدرجةٍ صدَّت به الآلات الضخمة فتعود إلى الخلف كصدى! (تقول لوسي) بعد أن أثبتت قانونياً حقّها في إيقاف التهديم من عبر مصلحة الأراضي، نُفِّذ القرار القادم من أعلى، لتذهب إلى السينما في ذلك اليوم، وتجد حسب تعبيرها: (خليّة نحل)! عدد كبير من أفراد الشرطة ينتزعون الكراسي والأثاثات، عدد من المشردين الذين انقضّوا على الكنب والكراسي فهربوا به، والطوب، المتبقّي من التكسير، سُحِقَ إمعاناً في ماذا؟ وما الذي كان يعنيه أن يُنتزع السيخ القديم الذي يُوازي (8) سيخات اليوم، وأن يُلفّ ويُرحّل إلى المحليّة؟. لم تستلم السيدة لوسي فقررت أن تحتفظ، على الأقل، بما تستطيع الاحتفاظ به: ماكينات السينما القديمة، هناك في الأعلى، فطلبت أن تُمهَل بعض الأيام لتفكيكها فهي تحتاج لخبير، فضياع أي قطعةٍ يعني نهاية الماكينة. مُنحت ثلاثة أيام، هَرَع من بدايتها الأستاذ عبد الرحمن بخيت (86 عاماً) الذي التقيناه أيضاً في رحلتنا هذه، والذي أكّد لنا تفاصيل الحادثة، وأنه استطاع أن يفكّك الماكينات في الوقت المناسب.
عملت الأستاذة لوسي في مجال التعليم، وكانت، إلى وقتٍ قريب، تشغل منصب مديرة مدرسة. تحظى لوسي بإعجاب واحترام من جميع من التقيناهم، وقد اقترح بعضهم أن تُكرّم الأستاذة على المجهودات التي بذلتها لتشغيل السينمات والإبقاء على استماراريّتها.
السينما والتعليم في عطبرة:
التقينا بالأستاذ حسن أحمد الشيخ، من أبناء عطبرة، عملَ محاسباً في السكة حديد، وتبوّأ منصب الأمين العام لنقابة موظفي السكة حديد 1982-1986م، ومنصب الأمين العام للجنة القومية تطوير مدينة عطبرة 1985م و2003م، وسكرتير عام كرة القدم بمدينة عطبرة 1995، و1998، و2002م و2003م. ناشط اجتماعي في مجالات متعددة. قدّم لنا هذه الإفادة الغنيّة عن السينما في المدينة، يقول:
تُعتبر سينما (النجم الأحمر) بعطبرة، والتي تأسست في العام 1930م، هي الأقدم في السودان حسب السجلات التي لدينا، وكانت بجانب كليّة الطب. أيّاً كان، عرِفَت عطبرة السينما منذ دخول الإنجليز وتحويلها لعاصمة للسكة حديد بعد أن كانت وادي حلفا هي العاصمة، وكانت عبارة عن صالة عرض. لكن السينما كمبنى وثقافة مدنية بدأت مع سينما عطبرة الوطنية ثم السينما الجديدة ثم سينما الجمهورية. لم تكن هنالك في ذلك الوقت أداة تواصل وتثقيف وتعليم حقيقيّة، وتحديداً بالنسبة للمدارس، مثل السينما؛ كذلك كان الموظفين والمثقفين من قادة العمل السياسي يتلقون معلوماتهم من خلال الصحف والمجلات المصرية، في منافذ البيع الشحيحة وقتها، ثم دور السينما.
يقولون أن أهميّة السينما بالنسبة للمستعمر كانت في أهميّة المؤسسات الرفيعة والمهمّة، فعندما بدأ التأميم بعد الحرب العالمية الثانية، نصبت القوات البريطانية مدفعاً أمام السينما لحمايتها، ومدفعان منصوبان أمام النادي السوداني المُتاخم للنيل، والذي يُعتبر نقطة لقاء طبقة المثقفين والموظفين السودانيين.
إبّان دراستي في المراحل الأوليّة والوسطى، لعبت سينما عطبرة الوطنية دوراً كبيراً ورائداً في التعليم؛ كانت مقررات اللغة الانجليزية والأدب الانجليزي تُعكس من خلال السينما، وكانت المدرسة تُنظِّم هذه الزيارات، بحيث نُشاهد ما نقرأ من كُتب عبر أفلام مثل روايات هيمونغواي وشكسبير وغيرها، وقمنا بتمثيلها، لاحقاً، في مسارح المدرسة، وكانت السينما تمنحنا فرصة أن نرى الفرق لتطوير القدرات.
كان معظّم ملاك دور السينما في السودان من الأقباط، وهي طائفة من الطوائف السودانية التي تحظى باحترام كبير ومحبة للاستنارة وتطويرها، كان المُلاك يسمحون لنا، كطلاب، بدخول السينما بنصف القيمة (كانت التذكرة بخمسة قروش، وكنا ندخل بقرشين ونصف)، وكان الأساتذة ينصحوننا بعدم الاعتماد على ترجمة الفيلم واللجوء إلى الذاكرة والاستماع لأصوات الممثلين وسؤال الأستاذ، الأمر الذي عاد بالنفع الكبير على تعليم اللغة الانجليزية. تعرفنا من خلال السينما على أشياء جميلة وراقية، وحتّى قبل بدايتها فإن عروض (وحدة أفلام السودان) التي درجت على التنقل بين المدن لعرض أفلام انجازات الحكومة والأخبار. كانت الأفلام هادفة وغنيَّة؛ والأفلام الهندية كانت قيّمة كفيلم (جانوار) الذي دخلناه عشرات المرات! أفلام كـ(رُدّ قلبي)، و(جميلة أبوحريد)، أفلام خالدة في الذهن! جميلٌ كان تخصيص أفلام دينية في أيام رمضان حول بدايات فجر الإسلام وانتشاره.
أدت السينما دور كبير، وكان من الممكن أن تستمر، حتّى بالمجهودات التي تقدّمها الأخت لوسي ـ كتّر خيرها ـ فهي تلعب دوراً. ولكن نهايتها التي نراها في السودان لا يعني أنها ستنتهي إلى الأبد؛ لأنها لم تندثر في العالم بل تطوّرت بأساليب عرضها وإمكانياتها، وهي، على العكس، مزدهرة جداً وواعدة، وفي كلّ يومٍ نسمع عن السعفات الذهبيّات ومهرجان كان والقاهرة السينمائي.
أعتقد أن الذي يُمكن أن نقدّمه هو مبادرة للحفاظ على دور السينما المتبقيّة في السودان، الحفاظ عليها من التهديم والإزالة، فمن الممكن أن تُستَغل في المستقبل كمسارح. فإن كانت هنالك مدينة كبورتسودان، والتي تُعتَبر (ثَغر من ثغور السودان السياحيّة المهمة)، فإن السينمتان الموجودتان هنالك قد هُدّمتا! علينا أن ننقذ ما تبقى من خلال مبادرة، وإعادة تشغيلها وتأهيلها لتواكب التطور التكونولوجي الموجود اليوم. ليس بقليلٍ ولا مبالغة أن تكون الحملة مُشابهة لما تمّ إبّان التهجير النوبي الكبير من وادي حلفا). انتهى
حسن أحمد الشيخ الآن عضو بمنتدى ابناء عطبرة، والذي يهتم بالفنون والثقافة ومن ضمنها السينما، آخر مشاركةٍ كانت مع جماعة الفيلم السوداني (SFG) للاحتفال بالذكرى المئوية للسينما في السودان. ونسعى الآن في مبادرة مع الأخت لوسي لتأهيل السينما الوطنية، إذ يقول بأنهم يرون ويشعرون بالطمع والمخاطر المحيطة بالسينما الوطنية، والرغبة في هزيمتها. يختم حديثه بالإثناء على عائلة السيدة لوسي أمين، ويقول أنهم كانوا من الأثرياء بمصانع الصابون والشعيريّة والمنظفات ودور السينما والصادرات، إذ كانوا أوّل من أدخلها إلى المدينة؛ هؤلاء خدموا هذه المدينة بإخلاص وبتأثير كبير لا يُنسى، حتّى تدهورت الأحوال. وسينما شندي التي هُدِمت لم يُعوضوا عنها إطلاقاً، ولا زالت المراوغات تتم من طرف الحكومة في هذا الشأن. ظلّت لوسي، لسنوات طويلة، تصر على تشغيل السينما بقناعة أنه الإرث الذي ورثته، رغم تسجيلها لخسارات يوميّة، لكن إصرارها وتفانيها يضعها كشخصيّة نموذج، وتُكرّم وتُسهَّل لها الإجراءات بدلاً عن المضايقة المستمرة.
* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.