كنى وأسماء رديئة
اضطر العبيد إلى إزاحة هلام ضخم ، كان يجثم على خيط الضوء المنبعث من نجم بعيد وينعكس في عيني الرجل النبيل متسللاً إليه عبر نافذته المشرعة، وأقلقه هذا الضوء العابث بعينيه الزرقاوين.
من أصدق العبيد تعبيراً عن ضجر السيد النبيل الذي ارتأى محاربة النجم بنفث أضواع كثيفة من الحقد البشري المهيب ليتغطى وراء هذه الغيوم الحاقدة، فيما تعود بذلك السكينة للرجل النبيل دونما اضطرار لغلق النافذة أو تهييج سكينته في هذا الوقت من الاستراحات العميقة والملهمة التي تجعله يتدبر الكثير من إيتاء العنفوان والطلق لجسده المتناسق والممدد بأريحية، وفي الوقت نفسه يستطيع الاحتفاظ بمشاعره هادئة دوناً عن أي اضطرام مفاجئ لها قد يتسبب به الضوء المتسلل إلى عينيه وهو الذي لا يبارح عقله الفتي قلق من كسل العبيد في سد الثغرات الحاقدة التي تقض مضاجع نبيل مثله، يحيا لأجل الاضطجاع في مراقد رخوة الملمس ، هائلة البداعة ، إذ يجب أن تمنع كل الأغلاط الممكنة لتتوافر الراحة المستحقة له.
الرجل النبيل وهو بدين نوعا ما ، لا يحتسي إلا القليل من الخمر في الخمس دقائق الأخيرة من ساعة محادثته التليفونية الغامضة ، حتى لا ينتبه للشحوب الذي يوجد في تخوفه المشروع من عصيان أحد العبيد لتعاليمه التي توفر لهم المزيد من الابتكار ليقيهم شر العقاب الذي يصدر ممن هم على دراية واسعة بالأخطار المحيطة بتذمرات العبيد مرتفعي الهمة والحساسين تجاه الأخطاء الباهظة.
لم يكن اسم الرجل النبيل صعب النطق، فهو يدعى “س”، رأينا كيف أن اسمه يتكون من حرف مفرد، لذا ليس بوسع أي من العبيد الثمانية التشدق ومن ثم التأتأة في نطق اسم السيد “س”، بينما ثمانيتهم يحملون أسماء وكنى معقدة غير مبررة بتاتا، فهي تشبه مقاطع شعرية سيئة ووقحة، بل ويمكن مقارنتها بأسوأ الأشعار الخابية على الإطلاق، فلا مفر إذن إلا بمناداته بطلاقة فصيحة، وعليهم الصبر حينما يحين الدور على السيد “س” لمناداة أحدهم، عليه أن يدلق من لسانه أسوأ الأوصاف الحمقاء والكريهة، ففي الفور يجب أن يأتي أحد الثمانية، غير مكترث بتاتا لقبح هذه الكنى والأسماء التي يطلقها آباء العبيد على أبنائهم.
يضطجع السيد “س” بلا أي سراويل داخلية، فبحجرته عريٌ مجنون فلا أمل في أن يسبل على جسده أي ستر، فخيط الضوء قد تتسلل من خلال النافذة في اللحظة التي تراخى فيها العبيد الثمانية عن تطبيق خطة أحدهم القاضية بنفث أضواع الحقد الكريه من صدورهم الثمانية، فالغل الهائج الذي كان يملأها لكفيل بحجب مثل هذا الضوء المتسلل من نجمة بعيدة إلى نافذة السيد “س” الأعزب، فلا نساء غانيات يأتين إلى هنا ولا رجال مخنثون كذلك يأتون، لا أحد ممن قد يكون لديه حاجة جنسية يأتي إليه، فلا وجود حقيقة لهذه المتع في حياته الاضطجاعية، إذ يتقلب في مرقده ست عشرة ساعة يوميا، بينما يقضي بقية الساعات كالتالي: ساعتان منها في الاستحمام وساعة أخرى في ارتداء ملابسه وساعة تالية في التنزه بين شجيرات حديقته وأزهاره، بينما يقضي ساعة كاملة في محادثة تليفونية غامضة وساعة إضافية في كنس لسانه من الألفاظ الطيبة فيجتمع إلى عبيده الثمانية نافثا عشرات العبارات الكريهة والمستعبدة، في الساعتين المتبقيتين من اليوم يحدق بعينيه الزرقاوين في السماء متفكرا في خالق هؤلاء العبيد ويقترح لنفسه رصف أرواحهم بالمزيد من الأغلال المثبتة لأرساغهم. يعيد استذكار أسمائهم وكناهم المثيرة للاشمئزاز والتقزز ويقرر بينه وبين نفسه أن خالقهم لا بد أنه غض الطرف عن قرارات آبائهم بتسميتهم بأسمائهم هذه، فالعدل يحتم أن يكونوا بمثل هذه الأسماء والكنى الرديئة.
في الست عشرة ساعة الاضطجاعية يبقى السيد “س” راقدا على ظهره مليئا بالاسترخاء اللذيذ لا يحابي أحدا من عبيده الثمانية على آخر، فحينما يحدق في شمعدان الغرفة للمرة الألف يعتريه غضب عنيف لخفوت همتهم إبان أي غفوة طارئة يمكن أن تطاله في مرقده الرخو هذا، ما يسبب له هلاوس مقتضبة يضطر فيها لثني جسده ومطه مرة أخرى والتحدث بصوت عال غير مرتب، ويقع بذلك في همجية التواصل المقيتة التي لا تليق بسيد يمتلك ثمانية من العبيد غير القلقين ويحملون أسماء وكنى رديئة.
فمن بين الأخطار المحتملة التي تدمي خواطره البهيجة إبان ارتفاع مناسيب روحه الحبيسة، قلقه العابر في هذه اللحظة من همهمات خافتة واحتجاجية قد تعلق بذهن أي واحد من ثمانيتهم تنمو فيها مطالب هلامية بتغيير أسمائهم وكناهم الرديئة، أو إجراء اتصالات غامضة بين أرواحهم يتخاطرون فيها بسب قدرهم بلا مسوغات مقبولة ويجتاح فيها خيالاتهم تمدده الرائع في مرقده المخملي، حيث يستجم من وعثاء سفره الاعتزالي، في حجرته ذات الشمعدانات المترفة، ويتخوف لمدة ساعة كاملة أثناء ست عشرة ساعته الاضطجاعية من دلق أي سوائل كانت في أي شبر من حديقته المكسوة بالشجيرات والنابتة فيها أزهار رائعة، ويعصف به الخوف من كون العبيد الثمانية قد يضطرون لإخراج فضلاتهم بما يتزامن مع تخاطره المستحب مع نبلاء آخرين مضطجعين في هذه اللحظة بهدوء عظيم فوق فرشهم الوثيرة وتحفهم السعادة المكسوة بالجلال المهيب.
أحد العبيد الثمانية الذي كان قد اقترح نفث أضواع الحقد الهائج حدث منه ما تخوف منه السيد “س” لمدة ساعتين، بانسراب ابتسامة حالمة وطفحها في وجهه بعد نفثه وحيدا لحقد أعمى تضوع عطره في الحديقة وعبق فيها لسنوات، حتى وقتما تخلل قلبه وميض عجول بالذهول.
* كاتب من السودان