عرض كتاب (تقشير البصلة) لغونتر غراس
* يُعد غونتر غراس (1927-2015) من الشخصيات الثقافية المرموقة المُتدخلة في الشأن العام، في ألمانيا وخارجها، كاعتراضه على طريقة الوحدة بين الألمانيتين، أو اتهامه المستشارة الألمانية ميركل بالجبن السياسي إبان أزمة التجسس الأمريكي على ألمانيا، وتنديده بإسرائيل وأمريكا في قصيدته “ما ينبغي أن يُقال”، أو رفضه ، حينما زار اليمن ، عرض علي عبدالله صالح منحه وسام، مشترطاً قبوله بالكف عن ملاحقة الكاتب اليمني وجدي الأهدل الذي كان هارباً يومها بسبب روايته ” قوراب جبلية”. لذلك عندما صدرت هذه المذكرات أثارت الكثير من الضجة ، وقوبل إعترافه بأنه كان ضمن إحدى الفرق القتالية الخاصة ، زمن النازية ، بالصدمة ، وعُد إعترافاً متأخراً، لكن هذا الإعتراف يظهر بالمذكرات كنتيجة طبيعية ، في حياة فوارة لصبي ومراهق يضجره المنزل ويهجس بالفرار والمغامرة، وأمامه وحوله آلة دعاية حربية ضخمة تتشدق بقيم الإقدام والبطولة والتضحية من أجل الوطن. والبصلة هنا ذكرياته ينزع قشورها قشرة تلو أخرى، حتى تطن أذنه بسبب ما صمت عنه ، لكنه يريد أن تكون له الكلمة الأخيرة.
* تَتَنَقّل المذكرات أو يدمج مؤلفها، بين ما حدث له وما عالجه من تلك الأحداث في كتب سابقة، كأن يُخبر بمصدر تلك التفصيلة أو غيرها في تلكم الكتب ، كما ينقُل مشاعره المشبوحة بين ما حدث وما يتذكره الأن. مبتدراً مذكراته بطفولته التي انتهت عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية ، واشتراكه في السادسة عشر من عمره ، كرامي دبابة لم يطلق طلقة لكنه أصيب وأُسر، لتشغل الحرب ما يقترب من ثلثي الكتاب، حاكياً عن وداعه لأمه وأبيه وشقيقته الذين دمرت الحرب مدينتهم وطفقوا لاجئين، ليجدهم بعد عامين في مدينة اخرى. ويحكي عن رفيقهم في التدريب الذي منحوه اسم “نحن لانفعل ذلك” بسبب افلاته كل مرة عن قصد للسلاح كلما قُذف إليه، مردداً عبارة “نحن لا نفعل ذلك” ليتم ابعاده دون أن يسأل المؤلف أو الفتى الذي كانه إلى أين أخذوه؟! فتطن أذنه بسبب ذلك الصمت.
* أفرد المؤلف للخوف والجوع للطعام وللنساء وللفن أوراقا كثيرة في مذكراته هذه، الخوف الذي بدأ يعرفه، منذ ركوبه لقطار الشحن/الحرب ورؤيته للمدن المحطمة بفعل القذائف والجموع الزاحفة في الشوارع والجثث المعلقة علي الأشجار، الي أن حدث الاشتباك وتشتت وحدات الألمان العسكرية، فسقطت منذ تلك اللحظة بالنسبة له سلطة الرايخ الثالث، السلطة التي كان ضعضعها من قبل عناد “نحن لانفعل ذلك”، ليهيم وحده في الغابات والقرى الخالية ، بحثا عن نجاة أو رفيق ، إلى أن يجد عريفاً يدله للطريق، فيُمجّده مع جندي آخر عَلّمه إبان فترة الأسر، الطبخ الخيالي ، إذ كان يقدم شروحاً مطولة لوصفات طعام متنوعة دون وجود لتلك الأصناف المشروحة، قائلا إنهما من صار يؤمن بهما، بعد أن أصبح غير متسامح مع أي ايمان، سواء بالفوهرر أو بالله، إذ أنقذ الاول حياته واستطاع الثاني أن يسكت جوعه، حتى ولو خلال فترة درسه التي كانت تستغرق الساعتين.
* ولإشباع جوعه الثالث يرحل، بعد فترة قصيرة من ايجاده لأسرته، ليلحق بأكاديمية الفنون في دوسلدورف ثم في مدرسة برلين للفنون الجميلة، مخبراً عن عمله، أثناء انتظاره بدء دراسته وخلالها، بعدة ورش وشركات تعمل في مجال تصميم الأضرحة وإعادة ترميم واجهات البنايات التي دمرتها الحرب. كما قام بتصميم عدد من المنحوتات ورسم كثيراً من الاسكتشات واشترك في فرقة موسيقية وسافر في رحلات عبر أوربا بواسطة التنقل المتطفل من جهة إلى جهة أخرى. كذلك قدم وصفاً مطولاً لأنواع مختلفة من الحجارة والرخام والأزاميل والمطارق وأساليب نحت. وتحدث عن معلمين له في تلك الورش، وعن معلميه في أكاديميتي دوسلدورف وبرلين، وعن أصدقاء وصديقات له من ممارسي النحت والرسم والموسيقى والرقص والتمثيل، ليفيده كل ذلك في نثره/ رواياته التي ستصنع شهرته في المستقبل.
* وفي المجمل تكشف المذكرات بجانب تلك القدرة الإبداعية العالية على المزج بين الواقع والخيال واللعب بهما، عن شجاعة كبيرة في تناول الكثير من الوقائع الموجعة، لكن لعل كل ذلك سيبدو مفهوما عندما نقرأ ما كتبه عنه فولكر نويهاوس كاتب مذكرات غونترغراس وناشر أعماله الشعرية : ( يتبنى وجهة نظر غير مألوفة، يحاول الجميع أن يأخذها منه، إلا أنهم لا ينجحون. لا يمكن حرمان غراس من مزايا وظيفية أو راتب حكومي، ولا يمكن طرده من مكتب. كل ما لديه عمل هو بنفسه لإحرازه. والآن يقول البعض أن عليه التخلي عن جائزة نوبل، وهو الشيء الوحيد الذي يمكنه عمله. يمكنه أيضاً التخلي عن عضويته الشرفية في نادي القلم الألماني. إن غراس هو نموذج نادر لشخصية شهيرة ومستقلة في نفس الوقت، وهذا إنجاز يعود الفضل فيه له وحده).
المترجم: عدنان حسن
الناشر: دال للنشر والتوزيع – دمشق
تاريخ النشر: 2014
*كاتب من السودان
*نُشرت هذه المادة تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تصدرة جريدة الموقف بجنوب السودان