ثمار

تدشين الإصدارة الثانية لمعتصم الإزيرق الثلاثاء الماضي (3 – 3)

1

مساء الثلاثاء 22/11 تم تدشين المجموعة الشعرية الجديدة (معاوية نور على ضفاف التيمز) عن دار المصورات للشاعر معتصم الإزيرق بدار العاملين بديوان الضرائب بود مدني. قدم الأمسية وأدارها الكاتب الأديب علي مؤمن. قرأ الأستاذ المترجم السر خضر قصيدة (إيقاعات) بالإنجليزية للإزيرق سبق أن ترجمها له. الشاعرة إيمان عابدين قرأت قصيدتها (في تحية ود مدني)، ثم قرأ الإزيرق قصيدته المطولة (معاوية نور على ضفاف التيمز)، وكان ختام التدشين ورقة عن الديوان قدمها الأستاذ جابر حسين بعنوان (وجهة أخرى في الشعر، ليس عن معاوية وحده)! خصَّ بها (الممر)، ننشرها على ثلاثة أجزاء، فإلى الجزء الثالث:

نعم، أرجأت الحديث عنها، القصيدة التي، في ظني، هي “جوهرة” هذه المجموعة الشعرية، التي جعلها الشاعر عنواناً للكتاب، إشارة حرة، في المعنى والدلالة لوجه الشعر عنده. (معاوية نور على ضفاف التيمز)، التيمز وليس النيل، برغم أنه قد وقف أمامه مناجياً إليه ومتأملاً فيه ثم محاوراً له، تماماً مثلما لاحظنا تجواله وهو يقف كل مرة، موقف المحاور لتلك الرموز الشاخصة بقوة في تاريخنا المعاصر. أخذ معاوية ليجعله في تلك الضفة من نهر التيمز، وأمامه شَرَع في حواره الجدلي معه، بالأحرى أنطقه أمام النهر، شاهداً على ما سوف يقوله الشعر. كثيرون تناولوا سيرة معاوية وأعماله، وكلها، كما رأيت، تمدح عبقرتيه الفذة وعمق رؤاه وشمول ثقافته، لكن في ظني، لم يستنطقه أحد من قبل مثلما فعل الإزيرق في هذه (الملحمة) الشعرية عنه. فمن هو معاوية، وكيف رآه الشاعر ثم استنطقه وجعله في شعره إشارة وعلامة ذات دلالات شتى وأوجه عديدة تتيح لك أن تراجع لمحض المعرفة، قراءة أخرى وتأملاً في وجهات سيرة الفريدة. كتاب واحد مهم تحدث عن سيرة معاوية (1909/1941م): (تلميذي معاوية محمد نور)، كتبه إدوارد عطية وترجمه عن الإنجليزية للعربية وقدم له محمد وقيع الله. وفي ظني أنه الكتاب الأكثر موضوعية، برغم ما يزعمون أنه قد جعله (غربي) الهوى والفؤاد، وشمولاً وعدلاً في التعريف بمعاوية. ذكر عطية عنه ميله العميق للأدب الانجليزي وتفوقه في الإلمام به من كل وجوهه العديدة، وأثنى عليه كثيراً؛ على عبقريته وموهبته الفريدة النادرة، ومعلوم أن عطية كان أستاذاً لمعاوية في كلية غردون، معلماً للغة والأدب الإنجليزي، وكان معاوية لصيقاً ومقرباً منه فنشأ بينهما طوال فترة دراسته، ذلك الحوار الخصب بين الأستاذ وتلميذه. ثم هنالك الشهادة المهمة في حقه التي قال بها العقاد: (لو عاش معاوية لكان نجماً مفرداً في عالم الفكر العربي)، ثم قصيدته في رثاء معاوية التي أرسلها وقُرِئت في مأتمه. ذلك، علاوة على انغماس معاوية بكلياته العبقرية في المجتمع الفكري والأدبي بمصر ونقده لكبار الكُتّاب والأدباء وقتذاك، مما أعلى من شأن معاوية في العالمين. أما الأعمال الكاملة لمعاوية فقد جمعها وأعدّها للنشر رشيد عثمان خالد وصدرت عن (دار الخرطوم للطباعة والنشر) ط.أ عام 1994م في 438 صفحة من القطع الكبير. وتنوّعت أعماله فيما بين النقد في مجالات القصة والشعر والمسرح وفي السياسة وعلوم المجتمع والتعليم والإدارة وعن الاستعمار وضرورة الكفاح للتخلص منه وتحرير الوطن. معاوية كان أديباً كبيراً ومُثقفاً عميق الفكر، وله آراءٌ ومواقفٌ سياسيةٌ ووطنيةٌ مشهودةٌ فقد نظر إلى الإمبريالية العالمية في وقتها ذاك، بأفق تحليلي عميق شمل مجالات التنمية الاقتصادية والإصلاح الاجتماعي والتطور الثقافي، تلك القضايا جعلها في جوهر المُسيطرة على إدارة أمر البلاد في السودان كما في مصر! من بعد نأى بنفسه عن السياسة بسبب مما أعتقده من فشل النخبة في إدارة الشأن السياسي لأجل الوطن وتحرره، فظل مُعادياً للاستعمار، مُناهضاً بقلمه ومواقفه ضده مما جعل مدير المعارف يحرمه من التدريس في الكلية ثم شرعت المخابرات البريطانية في مُراقبته وحصاره وترصده. ذلك مما عنّ لنا أن نقوله عن معاوية إضافة لما ذكره الإزيرق في هامش القصيدة على صفحة 61 من الكتاب. ولكن ماذا عن القصيدة التي جعل منها الإزيرق وجهاً آخر لمعاوية؟ لكنه من أجمل رؤى الشعر حين سكبها كما الرحيق، على ناصية حلمه ورؤاه؟!

القصيدة تقع في 20 صفحة من الديوان، فهي المطولة بامتياز في هذه المجموعة، ولكن لماذا أجلسه الشاعر هناك في لندن وأمام نهرها بالذات؟ في ظني أنّ الشاعر، لربما كان في خاطره وعمق رؤياه شخصية مصطفى سعيد في رواية الطيب صالح المشهورة (موسم الهجرة إلى الشمال) حيث ذهبت به أقداره إلى ذات المكان وفي ذات الزمان، وتقلّبت به الحياة هناك على عديد وجوهها مما حفلت به أحداثها وتجلياتها فجعلت منه تلك الشخصية التي هزمتها أقدارها جراء تدني فكرها ووعيها. الشاعر هنا كما رأيت، يضع المُقابل الواعي في مقابل الوعي المهزوم، ولماذا لا يكون معاوية؟ بخاصة أن هنالك مقولة للطيب صالح ذكر فيها أن معاوية لو أتى بلاد الإنجليز فرأى وتعرف على النساء الإنجليزيات وجالسهن لكان مثل مصطفى سعيد. لهذا، فيما أرى، تبلور وتجوهر الوعي بالفكرة في تمامها في وعي الشاعر ووجدانه الشعري فجعله يأخذ معاوية إلى هُناك. بل وأجلسه معهن، هنا، في هذا المَحفل المخملي، في هذا الملكوت الشعري والبهاء الذي يزين اللحظة فتبدو نار العشق ملاذاً واحتواءً. التقيا، إذاً، فكان ما سوف يكون، وكانت هذه الرؤية، حال معاوية هناك معهن.

و…. هذه القصيدة! ترى كان اللقاء في رؤية الشاعر وفي القصيدة؟:

التقى (نارجس ميلر)

في قاعة (ليزابيث)

حين كانت مثله

من بين رُوّاد.. وعُشّاق موسيقى (الجاز)،

وهي جوار مقعده

تميل بنشوة الإيقاع أحياناً،

وأحياناً تلامسه

بقصد..أو للا قصد

ويختلسان للبعض النظر،

فرحين يبتسمان في ولع

ويبتدران كلمات التعارف،

هو من (أفريقيا)

عربي أفريقي.. (كعطيل)!

وهي من (إنجلترا)

من أب بريطاني وأم من فرنسا،

وهي خريجة علم (الأنثروبولوجيا)

حيث تعمل في خدمة معهد يتخصص في درس الثقافة (غير الأوروبية)!،

حين تترك كفها في كفه

وتسيل نهر الأغنيات،

تموج خيل الذكريات،

تحيل ليل البهو بعضاً

من ليالي (ألف ليلة)

بين عينيه.. وعينيها، ويصدح باختلاجات اللقاء البوق

 في الوجدان

يدعوها إلى الرقص

على إيقاع (فالس) شاعري.. هادئ،

وتنام في أحضانه.. طيرا أليفا

ساكنا للموج في ضفة نهر النيل

أو ضفة نهر الأبدية!،

حال يختصر الزمان زمانه

في ساعة من بعض ليل

يلتقي فيه غريب بغريبة،

فيصيران صديقين/ عسى من بعد زوجين

يديمان الرحيل على جناح الليل

في القاعات.. والحانات

في بعض المسارح،

حيث تعرض (أوبرا عايدة)

وتعرض غيرها

في قرب نهر التيمز الخالي من السمار

والمسكون بالأسرار

أو في درب (سوهو)،

حيث دنيا علب الليل

ولما آخر الليل

يعيشان احتراق الليل في الأقداح

يقتسمان مملكة الجسد!

حين كانت تناجيه

على نار سرير العشق

كانت تتغني

برؤاه العبقرية

باندفاع النيل في شهوته الحري

وشمس الإستواء العسجدية،

في إهاب من سواد وثني!)…

قصدنا من إيراد هذا المجتزأ الطويل، وهو القليل القليل مما في القصيدة على أية حال، لتبيان هذا الطقس الاحتفالي، هذا الملكوت للحلم الذي غدا وقتاً مأهولاً بالعشق، باللحظة الهاربة من طقس الحلم لتغدو، في المكان وفي الزمان، حقيقة يعيش عليها معاوية ويعايش فيها حلماً عذباً وطعم رحيق لذيذ قد نال من روحه ورؤاه وحقيقته نفسها. أخذته، إذاً، الحياة بأسبابها إليها، بالقدرة الهائلة لكينونة العشق حين يمتلك الجسد والروح ويروح يطوف بالوعي حتي يكون و… يشرق! لكن، أينه ذاك المكان، وأينه الزمان منه، زمانه هو ومكانه هو أيضاً، ذاك الملكوت الرابض، كما النيل والسهل والجبل، في ال هنااااك، في بلده الحدادي مدادي على قول شريف، أين كل ذلك منك يا معاوية وأنت في الفضاء الملغز بجمالياته كلها التي هي، كلها، على غير ما جماليات الوطن؟ القصيدة، وكما أشرنا، تعد ملحمة في تناولها سيرة معاوية، في فكره وإبداعه وفي شأن عبقريته وانتباهاته لما حوله من حيوات وحياة وفكر ووعي بالذات والمجتمع في آن. ولكن، هل حقاً، كانت حلماً حياته هناك، ثم أفاق منه حين عاد إلى الوطن، تلك، ترى، يقظة أم هي حلمه وقد تجدد وتحرر وحلق عالياً في ملكوت أرضه التي يعشقها؟! و… ترى، لماذا جعله الشاعر، والشعر نفسه وهو ابتكار الجواني من وعي الشاعر ووجدانه، مثل (أوفيليا) الجميلة:

 في هدوء.. في هدوء..

 مثل (أوفيليا) الجميلة

غاب في الموج معاوية،

غاب في الموج معاوية،

ثم يصحو فَجأةً من نومه

ويرى الأمر فصولاً في كتاب،

من دراما.. ومرايا

من دراما.. ومرايا

 ومرايا.. ومرايا!

تلك هي خاتمة القصيدة. ترى هل كل ذلك، مما رأيناه، كان حلماً عاشه وعايشه معاوية، أم كان هو نفسه حلماً، حلق به، وبنا عالياً عالياً، ثم ذهب عنا، إلى حيث لا ندري؟! لنقرأ القصيدة كرة أخرى وكرات، ولنقرأ قصائد الشاعر في المكان وفي الزمان، ثم ننتظر جديده، والعام يلملم أطرافه ليولد عاماً آخر وقصائد أُخر. تحية، أيضاً، إليك الشاعر الفنان معتصم الإزيرق.

————————————————-

* ورقة عن ديوان (معاوية نور علي ضفاف التيمز) للشاعر معتصم الإزيرق لتعد في أمسية تدشين الكتاب يوم الثلاثاء 22/11/2016م بدار العاملين بديوان الضرائب بود مدني وبحضور الشاعر.

* شاعر من السودان

 

 

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني

زر الذهاب إلى الأعلى