حقول الدم .. الحرب السودانية وخطايا الآخر الحميم!*
(نابليون صنع ملوكاً، أما إنجلترا فتصنع أمماً)
” وليام بنـتـنك “
ذاكرة الحرب السودانية، ومنذ تكوين دولة ما بعد الاستعمار في هذا البلد ، ستضع المتأمل فيها حيال إشكالية مفهومية لا تتصل ، فقط ، بظاهر الأسباب المعلنة لتلك الحرب بقدر ما تتصل بغموض المبدأ التفسيري للحرب ذاتها ، ومدى علاقة ذلك المبدأ بمشروع الدولة والمواطنة في هذا البلد . وهي إشكالية لا يكاد ينجو منها أحد حين يتأمل الملابسات المعقدة التي شكلت مسار الحرب، لاسيما حرب الجنوب، بمختلف محطاتها المتقطعة.
يمكننا القول ، بداية ، أن الحرب في هذه الذاكرة ليست امتداداً للسياسة بوسيلة أخرى، بحسب مقولة المنظر البروسي (كلاوزفيتز)، ليس فقط ؛ لأن شروط الحرب لدينا منبتة عن إمكانات العقلنة السياسية المتصلة بغاية موضوعية للحرب ، بل لأن شرط الذاكرة الذي ارتهنت إليه تلك الحرب في عقول مجنديها شرط ما قبل حداثي متخلف بامتياز لكنه ، في الوقت ذاته ، تم استخدامه من خلال نظم عسكرية ومدنية بأدوات الدولة ليحفز خطابا ” وطنيا ” مأزوما ؛ وليعيد انتاج تمثُّلات وعي إقصائي ارتهن لمقولات جوهرانية قاتلة.
ذلك أن العنف التي عبأته الحرب في جنوب السودان عكس ، فيما بعد ، وعيا فصاميا لمجندي الحرب، سواء أكانوا مليشيات أم جيشا حكوميا؛ وهو وعي لم يكن في يوم من الأيام منفصلا عن تلك الذاكرة التقليدية في تمثلاتها لعنف الحرب، إذ لم يكن التعويم الرسمي لشعار الحرب والتأطير الوطني المزيف بذاته كافيا لقمع تداعيات خزين متوحش من الحماس والكراهية والعنصرية في تلك الذاكرة.
إن العقلنة السياسية للحرب ؛ إذ تعكس هوية الدولة بمعناها الموضوعي عبر ضبط مسار الحرب ؛ فإنها بالضرورة ستعكس تماهيا مع فكرة الايمان بمشروع الدولة ، بصورة من الصور ، في عقلية مجندي الحرب بما يعنيه ذلك : أن أي تعويم لشعارات الدولة في الحرب ، من خلال تأويلات انقسامية متوهمة لشعارات ” وطنية ” أو ” دينية ” ستفضي بنتائج الحرب في ذاكرة المجندين إلى تحولات خطيرة ومنفلتة من ممارسات عنف عشوائي مدمر ، تحركه إرادات المجندين نحو ثأرات جانبية وهوامش ضارة بفكرة الحرب وخطابها العام .
هكذا إذ تشحذ ذاكرة الحرب في خيال مجنديها مزاجا ينتصر لفكرة القتال ضد الآخر الحميم عبر تصورات مشوشة لا تحصن صاحبها من استدعاء أسباب ذاتية تجيز له فعل القتل بلا أفق ولا ضابط ؛ تصبح لعبة الحرب بذاتها ، بعد ذلك ، خاضعة لمسارات تتوالد من أفعال الحرب المتجددة حتى تتحول في وعي الجماعات السودانية لمشاريع ارتزاق على هامش خراب الدولة الوطنية(كما سنرى ذلك لاحقا)
لقد كشفت الحرب ، عبر محطاتها المختلفة في السودان ، عن أحكام واقع قاسية ظلت باستمرار قناعا مأساويا مزيفا لأحكام القيمة المفترضة في اتصالها بهوية الدولة والمواطنة ، عبر ما جسدته دروس الحرب المجانية من عبث بالشعارات الوطنية ! ذلك أن مسار الحرب الذي رسمته شعارات وطنية مجوفة ، فيما شحذته نزعات شخصية لذاكرة ” المواطنين ” برسم آخر ، ظل هو الانعكاس المتوحش لمختلف محطات الحرب التي تولت إدارتها حكومات سودانية متعاقبة ، مدنية وعسكرية ، كما لو أن اختلاف تلك الحكومات هو مجرد تنويع على هوية واحدة.
وإذا ما بدا لكثيرين أن ثمة حروبا عادلة (كالحرب الأهلية في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر) فإنه من الضرورة بمكان أن تنطوي أي حرب ـ رغم عدالتها ـ على مفردات وهوامش ضارة ، مهما كانت حدود العقلنة السياسية في خطط منظري الحرب. والحال هذه ؛ فإن الخطايا المضللة للدولة السودانية ما بعد الاستعمار ، نحو الاتجاهات الايدلوجية الخاطئة لمحطات الحرب أفضت إلى مسارات عبثية ، كان من نتائجها ؛ اتساع رقعة الحرب بموازاة غموض المبادئ الوطنية المحركة لأسباب الحرب والسلام . فلم يكن كافيا مواجهة أي تمرد بمعزل عن أسبابه الموضوعية من ناحية ، وبمعزل عن وعي الدولة لمسؤوليتها الكبرى التي لا يمكن أن تعكس تكافئا بين طرفي الحرب ، وما يترتب على تلك المسؤولية ـ من جانب الدولة ـ من ناحية ثانية . لذلك كانت محطات السلام القصيرة ــ وإن استمر بعضها لعشر سنوات ــ في تلك الحرب الأهلية السودانية بمثابة انعكاس صاحب تشوشاً في رؤية الدولة الوطنية وما يترتب عليها من حقوق ومرجعيات ، أكثر من كونها محطات نهائية للحرب!
حروب الهوية المنقسمة
بيد أن الحرب التي استمر اشتعالها في الجنوب بعد انقلاب العام 1989م نحت بخزين الاستعداد الشعبوي في حماس المجندين نحو شعار ديني ، لتعمم بذلك استعدادات مضافة للقتل على الهوية ، وبطبيعة الحال كان ذلك التحويل منعطفا خطيرا في خطاب رسم مسارا أبديا في خطوط الصراع ؛ مسار لا يمكن أن تفضي نهاياته إلى أي أفق وطني ؛ لذا كانت النهاية المنطقية لطبيعة الحرب المحوَّلة دينيا هي اتفاقية نيفاشا (2005) التي كان شبح الانفصال واضحا في موادها ، عبر قناعة مصممي تلك الاتفاقية بأيلولة الأحداث والوقائع نحو الانفصال.
ذلك أن كلا من شريكي اتفاقية نيفاشا (حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية) حين اقتسما السلطة والثروة في السودان ، بموجب شروط الاتفاقية ، كان الصراع بينهما على الرؤى والتفسيرات الايدلوجية حيال استحقاقات نيفاشا هو الدافع الحقيقي ، وهو ما أفضى في النهاية إلى الانفصال.
هكذا كانت العوائق الأصلية التي تفرضها طبيعة الايدلوجيا الانسدادية بين الطرفين (وهي ايدلوجيا اسلاموية من جهة ، وعلمانوية من جهة أخرى) هي المانعة من إمكانية تحقيق الوحدة والسلام والديمقراطية في نتائج تلك الحرب. لقد كانت الاستحالة استحالة محكمة في الأفق الاستراتيجي لمآلات نيفاشا . وعلى هذا النحو تم ترحيل الأزمات المتراكمة أصلا ، وبدأت التعثرات تظهر ، هنا وهناك ، في خرق بنود نيفاشا ، لاسيما من طرف حكومة المؤتمر الوطني . وكان ذلك الوضع الغريب تعبيرا ناجزا لحالة أزمة تاريخية معقدة .
وبالجملة ، فقد نشطت حروب الدولة السودانية ما بعد الاستعمار تحت شعار عام تردد بين (الوطني) و(الوحدوي) و(الديني) ، فيما كانت الوقائع المتصلة بأحوال مجندي الحرب تمارس تطبيقات ذاكرة شعبوية تغذت من وهم الاختلاف القبلي والطائفي والديني ، وجسدت بذلك تعبيرا خطيرا و فاعلا لجدوى تطييف الحرب ومن ثم توفير كافة دواعي تسييل غرائز العنف الفوضوي الذي انعكس في اتساع رقعة الحرب مما أدى إلى الانفصال الحتمي للجنوب عن السودان في الحرب الأهلية الأولى ؛ حرب الجنوب ، فيما أدى إلى الفوضى التي لم تحسم بعد حتى اليوم في الحرب الأهلية الجارية بإقليم دارفور.
المواطن بوصفه آخراً حميماً !
ربما كان القاسم المشترك في انحلال ذاكرة مجندي الحروب الحديثة في السودان وعجزها عن وعي تصور وطني موضوعي للحرب يمنع من تداعي الغرائز الأولى، متصلا بما أسماه الكاتب التونسي الراحل صالح بشير بـ(مأزق الآخر الحميم) ذلك أن التمايز عن الآخر بإطلاق ، لا يمكن أن يشكل ضغطا قويا لتأسيس الهوية الخاصة بالأنا على حساب هذا الآخر،إلا إذا كان هذا الآخر يشاطرها جوهرا مشتركا ، يقول صالح بشير : ” الآخر هاجس مقيم أصلي لدى كل كائن إنساني يلابس مختلف أوجه كينونته تلك في أبعادها النفسية والاجتماعية والحضارية ، مشكلة كل (أنا) هو الآخر ، ليس الآخر بإطلاق ، ليس الآخر المطلق ، بل ذلك الذي يشاطرها جوهرا ما . أي ينازعها جوهرا ما ، لا سمات خارجية أو نافلة . الآخر الناجز الغيرية محسوم أمره فهو إلى الحياد أو إلى اللامبالاة أدعى . أما الآخر النسبي ذلك الملتبس في اختلافه والملابس في تماثله ، فهو التحدي والإشكال ، وهو التهديد الماثل دوما بفقدان الذات وفنائها في المثيل أو الشبيه ، لذلك يكون التمايز عنها جهدا دؤوبا وفعلا دراماتيكيا ، أي فعل تأسيس ووجود”
“إن قيام فكرة تأسيس الأنا على نفي آخر يشاركها جوهرا ما ، عبر تميزها عن هذا الآخر، هي بالفعل فكرة تكاد تكون مطردة المعنى والدلالة في تمثلاتها لتلك الشروط ، وهو ما كشفت عنه صيرورة العلاقات التاريخية في التمايزات المتوهمة التي نسبتها المجموعات السودانية المستعربة في السودان إلى نفسها لتأسيس اختلافها عن المجموعات الزنجية فيه.
بيد أننا سنجد دلالة اللون الأسود هنا ليست حاسمة ، وليست العنصر الكافي لتأسيس التمايز الذي قام على الفرز العنصري في بنية الثقافة العربية الشعبوية في السودان .إن السواد هنا ــ ولأنه اللون المشترك بين المجموعات المستعربة في السودان وبين المجموعات الزنجية فيه والذي ــ لكونه شطرا مشتركا بين المجموعتين ــ يقوم عليه تأسيس وجود الهوية الغالبة والقوية ؛ فإن دلالته هنا ستتجاوز محض اللون إلى رمز آخر مضاف يدل عليه العنصر الزنجي (صاحب اللون الأصلي المنتقل إلى المجموعات المستعربة في السودان عبر الهجنة). وهذا يعني بالضرورة فائض ملامح عضوية أخرى متصلة بالزنوجة.
وبالرغم من أن اللون الأفريقي الأسمر الداكن هو الغالب على جميع سكان السودان بدرجات متفاوتة (تبدو غير ذات معنى للآخر الناجز الغيرية من ناحية اللون كالعرب مثلا) إلا أن الأساطير المؤسسة لنقاء العنصر الهجين لدى المجموعات المستعربة في السودان ، عن العنصر الأفريقي الصرف ــ الذي هو جزء أصلي من مكونها البيولوجي ــ كانت توهم تمييز نفسها عنه بتحيزات عنصرية بشعة تأسيسا على مقولات بغيضة، تحولت فيما بعد، إلى ماركة عنصرية تمييزية ، وأخذت شيوعها كأمثال شعبوية لهوية الفرز العنصري مثل مقولة : ( العبد رأس) التي تستند في دلالتها إلى نظام شامل يقوم على الفرز العنصري المستفاد من معناها ؛ فهذه المقولة الشنيعة إذ تمثل تعريفا خاصا لـ(العبد) لدى المجموعات المستعربة في الشمال لا يمكن فهمها إلا عبر طريقة اشتغال تأسيس هوية الأنا المتوهمة على نفي الآخر الحميم الذي ينازعها جوهرا مشتركا . فالآخر ـ الذي هو هنا المجموعات الزنجية الصرفة في السودان ـ ولأنها تشاطر المجموعات المستعربة لونا واحدا ـ وإن بدرجات مختلفة ـ لجأت ذاكرة المجموعات المستعربة إلى اختراع هذا التعريف العنصري : (العبد رأس) أي ذلك الشخص الذي لا يشبهها إلا في اللون ، وبالتالي فإن هوية (العبد) لدى هذه المجموعات المستعربة ليست ناشئة من لونه ، وإنما من رأسه (أي في الشعر الأكرت والأنف الأفطس ، والشفاه الغليظة) ـ وهذه كلها يجمعها الرأس ، على رغم تهافت هذه المقولة بيولوجيا “
” وعلى هذه المقولة ينشأ الفرز العنصري لهذا الآخر الشبيه ، ويظل التمايز عنه باستمرار هو مبرر الصراع الوجودي والقيم والعلاقات البينية القائمة على التعالي والنبذ . وهذه العلاقات هي التي كانت ولا تزال تضمر مفاعيلها في الواقع السياسي والاجتماعي في السودان ، لاسيما في تجلياته الأبرز عنفا : الحرب .
هكذا يشتغل حقل الإجماع السكوتي لتلك العلاقات ، لتظهر طاقاتها التدميرية المستندة على الاستعلاء العنصري المبطن في الحروب والكوارث السياسية . فحرب الجنوب التي تجسدت فيها تلك النزعات ، تحت غطاء التأويل الوطني العام للحرب الانفصالية ، كانت فيها تلك العلاقات من أهم البواعث العنصرية لممارسات القتل على الهوية طوال سنواتها المتقطعة ، حيث تغذت تلك العلاقات من ذلك الفرز العنصري البغيض ، وهو فرز من طبيعة استئصالية تنتج ردود أفعال مثيلة لها عند الآخر . وهذه الطبيعة الاستئصالية تنتفي معها أو تذوب كل الأهداف السياسية المعلنة في الشعار العام للحرب لدى الجانبين ، فبعض رواسب العداء القوية ـ بالإضافة إلى تلك الناشئة عن التهميش السياسي والتباين الديني ، وسياسة الفرز الاستعمارية بين الشمال والجنوب ـ تعود إلى تلك النظرة العنصرية كجزء من ثقافة شعبوية تاريخية لمجموعات السودان المستعربة ، ظلت تفعل فعلها في الممارسات بطريقة تبدو عادية جدا ومبررة حتى في القتال.”
” وربما كانت المفارقة الأقوى تبدو بصورة واضحة في مأساة دارفور التي اندلعت بطريقة كارثية منذ العام 2003 . ففي هذا النزاع ـ المتجدد دائما في الصراعات القبيلة عبر تاريخ منطقة دارفور بين : ” العرب” الرعاة وبين الزنوج ” الزرقة ” المزارعين ـ والذي تم تسييسه من طرف نظام الإنقاذ الإسلاموي بوقوفه ودعمه لمجموعات ” الجنجويد ” ؛ كان من فاعليات التأجيج لهذا الصراع هو: استبطان الميز العنصري لمجموعات الجنجويد تجاه ” الزرقة ” أن وصل إلى صورة تتماهى مع حدود ” عادية الشر” ـ بحسب حنة أرندت ـ إذ ظلت تلك المجموعات المستعربة تمارس قتل ” الزرقة ” بشهوة استعلائية تصل حد التبرير المجاني ، عبر استبطان الميز العنصري المسنود بقوة دعم الحكومة المركزية في الخرطوم . وهكذا حين انفجر هذا الصراع بعد أن تم تسييسه ، وانتقل من حدود الطبيعة إلى حدود السياسة ، كان ـ في وجه من الوجوه ـ تعبيرا نشطا عن طريقة اشتغال هوية الأنا المتمايزة عن الآخر الشبيه في أشد صورها عنفا ، وهي بطبيعتها تلك تبدو مثالا واضحا على قوة الطاقة الاستعلائية والتدميرية لدى المجموعات السودانية المستعربة تجاه مجموعات الزنوج ، بالرغم من الدين الواحد واللون الذي يكاد أن يكون لونا واحدا”.
وإذا ما بدا أن حروب أزمنة الدولة ” الوطنية ” ما بعد الاستعمار إلى العام 1989حروبا تم تأطيرها شكلانيا على ـ الأقل ـ وفق إمكانية إنهائها بتوافقات خارجية وداخلية ، من ناحية ، وإذا كانت حرب الجنوب قد انتهت إلى الانفصال الذي كان نتيجة حتمية لنهاية الانقسام على الهوية الوطنية للدولة من ناحية ثانية ، فإن انعكاسات حرب دارفور التي تناسلت عنها مجموعات قتالية محترفة ، كانت مؤشرا خطيرا على خروج منظومة الحرب عن إطار العقلنة السياسية والأفق الموضوعي لأسبابها ؛ مما أسس لانزياح الحرب على أكثر من جهة في دارفور ، وخارجها ، وأدى في الوقت ذاته إلى انتشار ثقافة الحرب في وعي مجموعات المجندين على نحو أصبح معه خيار الحرب مهنة رابحة ومؤسسة لموازين قوى عسكرية بديلة ومتنامية لتلك المجموعات بفعل التحولات السائبة . أي أن تلك المجموعات المرتزقة مع تطاول أمد الحرب في دارفور وانزياح مفاعليها أسست وجودها المستقل على تقديم خدمات عسكرية لنقل خبرات الحرب عبر تفاهمات خلقتها سلطة الأمر الواقع ولتتحالف لاحقا مع سلطة المركز، كقوات موازية للجيش الوطني (قوات الدعم السريع نموذجا).
وهكذا فيما كان تعويم النزعات العرقية المتوترة كوقود لحرب نسقية منفلتة في دارفور بأمر من المركز في الخرطوم ، كانت المفاعيل الضارة لذلك التعويم تتجسد في تلك الأجسام العسكرية التي أعادت انتاج نفسها من داخل فوضى الحرب في دارفور ، لتقدم خبراتها المتنقلة في خدمات أمنية للنظام من داخل الخرطوم ! ومن خلال هذه النتائج يتجلى بوضوح خطورة لعبة تزييف الأسباب الموضوعية للحرب في الدولة الوطنية ، ومن ثم تفجير التناقضات بين المجموعات الأهلية على نحو تصبح معه الدولة ضحية لتحكم جماعات العنف المسلح.
مأزق الحرب في منظومة المعارضة السودانية
مع انطلاق الموجة التي قادها الدكتور جون قرنق من حرب الجنوب في العام 1983م عبر تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان ، يمكننا القول أن تلك الحركة هي أول مجموعة معارضة مسلحة طرحت موضوعة الحرب ضمن رؤيتها لإطار وطني للتغيير في السودان ، أي لقد كانت موضوعة الحرب في هذه الحركة متصلة بخطاب وطني ورؤية لسودان جديد ، بعيدا عن الخطابات الانفصالية لحركات الجنوب السابقة. وبالرغم من الأسباب الوجيهة لانطلاق الحرب ومعنى ” تحرير السودان ” الذي شرحه د . جون قرنق في حوار شهير له مع إحدى الصحف الأوربية في ثمانينات القرن الماضي ، إلا أن تلك العسكرة الجهوية لم تتمكن من نقل الحرب إلى كافة أطراف السودان والانتظام عبرها في معارضة وطنية تشمل الأحزاب الأخرى. وحين حدث ذلك نسبيا في تجربة التجمع الوطني بداية التسعينات من القرن الماضي تعثرت التجربة نتيجة للخلافات والانقسامات التي ضربت التجمع الوطني.
هكذا لم تؤسس الحركات المعارضة لنظم الحكم في السودان معايير وطنية موضوعية تتحكم بفعل الحرب وتختبر جدواها من خلال منظومة وطنية لإدارة العنف عبر نشاط عمومي لتلك الحركات ، وتوافقات تحدد جدوى الحرب والسلام في الحراك السياسي . لهذا كان لابد من القناعة بأن رجحان الفعل المدني المعارض بـأساليبه المختلفة ــ رغم انسداداته الظاهرة ــ هو الخيار شبه الوحيد ، الآن وهنا ، وأن حمل السلاح ــ على ما تفعل بعض الحركات المعارضة اليوم ــ ما لم يكن ضمن منظومة ذات رؤية استراتيجية وقراءة مركبة للواقع من ناحية ، وإجماع لقوى حزبية متنوعة ومنعكسة على خريطة الوطن كافة من ناحية ثانية ــ سيصبح خيارا عدميا ، وبلا رؤية تقريبا ؛ ما يعني أن الهوامش التي تحدثها مفاعيل القتال ستتمدد وتترك آثارها السلبية القابلة للانشطار(فصائل دارفور نموذجاً) .
لهذا كان على الحركة الشعبية ، بعد أن فكت ارتباطها بالجنوب إثر عملية الانفصال، كان من المقتضيات المنهجية والاستراتيجية لفك ذاك الارتباط : تغيير استراتيجية العمل المسلح واعتماد استراتيجية مدنية للنضال من قلب الخرطوم (رغم صعوبات هذا الخيار وعقباته بالطبع).ذلك أن استئناف العمل المسلح بعد فك الارتباط بالجنوب ، وترتيب ساحاته من جهات طرفية (دارفور والنيل الأزرق) ربما أحال ــ ضمن ما يحيل ــ إلى نتائج ذات طابع محلي (فلنتأمل مثلا ، فيما لو سمح النظام بفوز عبد العزيز الحلو في انتخابات منطقة جنوب كردفان ، والإبقاء على مالك عقار في النيل الأزرق ، ماهي امكانية انعكاس نضال الحركة الشعبية في النشاط المعارض للنظام؟).
التأمل في كل ذلك يعني أن مسار العمل المسلح بحدوده تلك في نشاط بعض قوى المعارضة سيكون بلا أفق استراتيجي ؛ إلا ضمن تسويات ثنايئة مع النظام ، وهي تسويات لن تؤدي إلى حلول حقيقية ، لاسيما بعدما جرب أكثر من فصيل مسلح تلك اللعبة مع نظام المؤتمر الوطني.
إن إعادة تعريف الحرب هي جزء من إعادة الأسئلة المتصلة بمشروع الدولة والمواطنة في الوقت ذاته في السودان. وفي غياب رؤية وطنية جادة لسقف الحرب وجدواها ، كما لسقف العمل الحزبي وجدواه ، سواء في الحكومة والمعارضة لن تبقى جدوى ملحة للانتظام في مشروع الدولة ـ رغم تحدياته القاسية ـ كرهان وحيد وأخير لتمثل حياتنا الفاعلة عبر علاقات المواطنة .
و إذا كان الرهان على الدولة الوطنية ، نظريا ، متماسكا وقادرا على استقطاب تناقضات الجماعات السودانية الفئوية في منظومة المواطنة ؛ فالسؤال هو : كيف يمكن تحويل هذا الرهان إلى وعي نقدي جاد ومؤسس في عقول قيادات الأحزاب السودانية ؟ وإذا ما ثبت عقم الفعل السياسي في منظومات الأحزاب الوطنية وخراب وعيها الشقي بمشروع الدولة المواطنة فسينعكس ذلك على مصير الانتظام المدني وربما أدى إلى الفوضى والحروب المتناسلة إلى يومنا هذا !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر هذا المقال بمجلة (الحداثة) السودانية في عددها الرابع ديسمبر2016
** شاعر وناقد من السودان