مع بوى جون أوانق حول رواية “جنة الخفافيش”

خلال هذه المقابلة ، نحتفى مع بوي جون أوانق بصدور أولى أعماله الأدبية ، رواية (جنة الخفافيش) ، عن دار الساقي ببيروت في إطار منحة آفاق للرواية ، وهي – أي الرواية -تفيض بالحنين إلى عوالم ماضوية مفعمة بالصخب و الحياة بتشكلاتها المختلفة ، لكنها لا تخلو أيضاً من الأسى و تجليات السياسي ، فالكاتب يؤمن بأن إستعادة التاريخ في معناه الأشمل هو واحدة من واجبات المبدع و الفنان الذي هو جزء من متمثلات الحياة وموضوعها في آن واحد ، طرحنا عليه أسئلة وطرح علينا تساؤلات أخرى في عمق الاجابات ، لكنه في خلاصة الأمر لايزال ينظر إلى ما نعيشه من هواجس و أزمات على أنها موضوعية الأدب الرئيسية ، وأن الأدب هو المستفيد منه في المقام الأول و الأخير ، فإلى مضابط الحوار :
جلس إليه: أتيم سايمون
لماذا فكرت في كتابة الرواية ؟
هذا السؤال وإنْ كان يبدو للوهلة الاولى سؤالاً غاية في البساطة ، إلا أنه سؤالٌ يصعب الإجابة عنه من حيث أن الإبداع كعملية إنسانية عصية على التفسير ، وهو حدث يصعب على المرء التكلم عنه وبالتالي سيبرر القوى الدافعة له ، لذلك فالإجابة تكون إذا كان المقصود بالسؤال هو لماذا إخترتُ “الرواية” كجنس أدبي ، فإن الإجابة بكلِّ بساطة هي أنني لا أعرف…وذلك تماماً مثل أشياء كثيرة حدثت لي في حياتي ولا أملك تفسيراً لها، فمثلاً وجدتُ نفسي في مرحلة ما من حياتي مشغوفاً بالمسرح والتمثيل ثم فجاءةً تخليتُ عن ذلك ، لأنخرط في كتابة الشعر والقصة القصيرة دون معرفة السبب وراء تلك النقلة ،وهكذا أنا الآن أجد نفسي في الرواية دون أن أعرف السبب الذي يدفعني إلى كتابتها ، لكن الجميل مع ذلك دائماً أنك تجد نفسك مستمراً في نشر الجمال وجعل الحياة أفضل دون توقف.
جنة الخفافيش ، عمل سردي مليء بالنوستالجى واستعادة المكان و التاريخ ، ألا ترى أنها تكاد تكشف ذات الكاتب وليست الشخوص؟
أنت محقٌّ من ناحية أن الرواية عمل نوستالجي يتدفق حنيناً إلى حقبة الستينيات على وجه الخصوص ، ولا أفشي سراً إذا قلتُ أن الحنين الكثيف الذي يملأ جنبات العمل من البداية حتى النهاية إنما هو أمرٌ مقصود ، والهدف كما قلت أنت في سؤالك هو استعادة التاريخ لكن ليس التاريخ السياسي فقط وإنما التاريخ بمعناه الأشمل ، الذي يشمل حيوات الناس العاديين لا التاريخ الرسمي الذي يمجد الساسة ويتحدث عنهم ، أما بخصوص المكان فالرواية أيضاً اعتمدت على التركيز عليه ، والهدف هو تسليط الضوء على الجانب الآخر من المكان الذي هو بالنسبة لي غاية في الاهمية بحيث لا يمكن للعمل الجيد أن يقوم دون التعمق فيه ، وكل ذلك لا يتم إلا من خلال تلك الذاتية الطاغية طوال النص، ولأن العمل اختار أسلوب “اليوميات المتقطع” و ضمير المتكلم كوسيلة للسرد فمن الطبيعي أن تطغى ذاتية الراوي لا الكاتب على ما سواها من الشخوص ، وتكون بالتالي هواجسه و همومه و عوالمه بكلِّ خيباتها و آمالها هي مركز الفعل في العمل برمته.
روايتك الأولى محاولة للسفر إلى الماضي و إستعادة أمجاده من خلال رحلة أركانجلو مرجان إلى مدينة واو ، و البحث عن سيرة والده ، إلا يستحق الحاضر أي التفاتة منك ، أم أنك لا تعره أدنى إهتمام؟
لا ، بالعكس الحاضر يستحق كلَّ الاهتمام الذي يليق به ، وما الاهتمام بالماضي هنا إلا من باب محاولة فهم الحاضر بشكل أعمق وأشمل ، كما أن الرواية تنطلق في الأساس من الحاضر لتغوص في الماضي الذي هو التاريخ ، أو بكلمة اُخرى من أجل سبر طلاسم الحاضر و لماذا هو هكذا.
ألا ترى أن شخصية الشاعر هي التي تقمصك وكتبت من خلالك الرواية المحتشدة بالوصف الكثيف و جزالة الانتقال بين المشاهد ، الفصول ؟
لستُ أدري إلى أيِّ مدى يصح هذا الكلام لكن قد تكون على حقّ فيما يتعلق باللغة و شاعريتها التي لا تخفى ، لكن في النهاية تظل الرواية ضرب من الكتابة الإبداعية لها أدواتها الخاصة و لكنها في نفس الوقت تُعطي نفسها الحقَّ المطلق في الاستفادة من غيرها من كل الفنون الأخرى الكتابية وغير الكتابية ، والنقطة الأخيرة التي ينبغي أن أتطرق لها في الرد على سؤالك هي أن روح الشعر عندما تسكن أحدهم فإنها ترافقه أينما اتجه.
من خلال جنة الخفافيش تطرقت إلى الحادث الرئيس الذى هو حفل العرس الذى قتل فيه والد البطل بصورة طفيفة مع أنها حادثة تستحق فتحها من جديد ومناقشتها بشكل أوسع عن طريق السرد ، هل لأنك لم ترد محاكاة جزء من تفاصيل الواقع ، أم ماذا؟
أنت على حق من ناحية أن الحادثة قد تمت التطرق لها بشكل طفيف في ثنايا الرواية ، وأوافقك الرأي أيضاً في أنها تحتاج إلى المزيد من الغوص والنبش ، لذلك فهذه الرواية من وجهة نظري بمثابة حجر رُمي في بركة هذا الحدث الذي ما يزال الغموض يلف تفاصيله حتى الآن ، ولا أفشي سراً إذا قلت لك أنني بصدد عمل آخر أتتبع فيه هذا الموضوع بصورة أشمل لكن مع ذلك تظل تلك الواقعة مهمة للعمل الذي بين أيدينا ،جنة الخفافيش ، من حيث أنها تشكل القوى الدافعة للسرد فيه ، ويجب هنا أيضاً أن أقول أن محاكة الواقع بطبيعة الحال لا يمكن أن تكون واحدة من مهام العمل الروائي بطبيعة الحال.
ماهي فسلفة الزمن الداخلي عند بوى جون الذى حصر جنة الخفافيش داخل مدى زمنى قصير وزيارة واحدة لاكتشاف كل الماضي الخاص بالوالد العازف و السياسي الخفي ، هل جاء ذلك بغرض التشويق أم لإظهار قوة الحكي و المعالجة؟
بالفعل من الوهلة الأولى يبدو المدى الزمني للرواية قصيرة جداً ، لكنك لو دققت النظر سوف تجد أن الرواية تنفتح على مدى زمن طويل يمتد عبر أكثر من ثلاث عقود أي منذ بداية الستينيات هذا بالإضافة إلى أن المعالجة الفنية هي التي حتمت على أن يكون زمن الرواية بهذا الشكل المركب الذي يتكون من الزمن الحاضر الذي هو يوميات الراوي وذكرياته و غيره من شخوص الرواية التي تقدم سنوات طويلة من الأحداث والتي تمثل زمناً ثان يكمل الزمن الحاضر الذي هو لحظة التدوين.
لقد أعتمد بوي جون في الحوارات الداخلية على الفصحى أكثر من العامية ، هل جاء ذلك لتفادى تعدد اللغات أم أنك أردت أن يكون هناك اتساق في لغة الرواية فقمت بتوحيدها ؟
الشخوص التي بالرواية هي التي حتمت ذلك ، لكن العامية كانت حاضرة على الدوام كلما برر الصياغ السردي وجودها.
بمن تأثر بوى جون في كتابة الرواية ، أو الأرجح بأي مدرسة أو إتجاه أدبى ؟
لم أتأثر بأسماء بعينها لكنني تأثرتُ بجميع الروايات التي وقعت بين يدي ، بالإضافة إلى تأثري بإهتماماتي الأخرى سيما في مجال التاريخ والعلوم الإنسانية الأخرى.
من خلال مطالعة الرواية يستطيع المرء أن يجزم بأنها كانت قمة في (المثالية) مثالية الشخوص ، السرد بمعنى أنها لم تغرق في التفاصيل الجدلية سواء إجتماعياً أو أخلاقياً أو سياسياً ، فمن أين لك بهذا المجتمع الذى قدمت فيه شخوص الرواية؟
أنت محق من حيث أن الرواية لم تغوص في القضايا الجدلية التي تشغل بالمجتمع الجنوبسوداني في هذا المنعطف من تاريخه ، وذلك لأن الرواية إنما انشغلت بهواجس الراوي و أشجانه بالإضافة إلى إستعادة التاريخ والمكان كما أشرت في مكان سابق من هذا الحوار ، ربما لذلك قد يبدو للقارئ ولدرجة الجزم أن الرواية قد سعت لتقديم مجتمع مثالي قد يصعب العثور عليه في الواقع.
بعد صدور (يوم انتحار عزرائيل) لآرثر قبريال ، وصدور روايتك جنة الخفافيش والاثنان تمثلان باكورة الانتاج الروائي لكليكما ، كيف تنظر لمستقبل الكتابة الابداعية وبالأخص الرواية في بلد مثل جنوب السودان؟
إن كان من مستفيد من الأوضاع الكارثية التي انجرفت إليها البلاد نتيجة الحرب ، والتي تظهر تجلياتها في اليأس العارم الذي يكاد يسيطر على الجميع، فإن ذلك المستفيد هو الأدب الذي لا شك عندي أنه سوف يعيش عصر ازدهار و انتشاء ، وغنيٌ عن القول أن الرواية سوف تجد نصيبها الملائم من ذلك التطور والازدهار بكلِّ تأكيد.
* شاعر من جنوب السودان
* تم نشر تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تُصدره جريدة الموقف بجنوب السودان.