مُكاء القصائد وتصدية الجمهور عن التلقي الشعري وملحميته، هل ما زالا بخير؟(1-2)
كان الشاعر والقاص المغيرة حربية يعدل من هيئة قميصه المزركش، ويضع كوباً من الشاي الحار، وهو يُعلِّق على ضمور التلقي الشعري واضمحلال التفاعل مع القصيدة الملحمية، يقول حربية إن الشعر يظل كما هو؛ قديماً والآن، وربما في الغد، بدئياً، غرائبياً، ويحرث في المجهول، ويظل الشعراء يبحثون عن علاقات سرية غير مرئية بين الأشياء، ويقطعون أرضاً جديدة كلياً، ويضيئون عتمات الكون التي لا تنتهي. في مقاله بعنوان: (محمُود دَرويش.. آخرُ شعراءِ الإِلقاءِ الشِّعريِّ؟) يثير الشاعر والمترجم محمد حلمي الريشة قضية التلقي الشعري وتحولاته، ويجيب على السؤال: بأن درويش الأَكثرَ جمهوراً علَى الرّغمِ منَ افْتراقهِما أَحياناً كثيرةً، ولأَنَّه الأَعلَى غنائيّةً بإِيقاعاتِ رنينِ قصائدهِ، والأَهمُّ مِن هذَا وذاكَ؛ لأَنَّ قصادَ درويش الحديثةَ كانتْ كأَثرِ الموسيقَى فِي الإِنسانِ؛ تُقشعِرُ الرُّوحَ بوداعتِها، وتنفضُ القلبَ بحنانٍ، وتفتِّحُ الجسدَ كُوَى أَملٍ/ حريَّةٍ/ حياةٍ!..
كانت هذه إجابة حلمي الريشة قد أعادت سؤال التلقي الشعري إلى المشهد. إذن، هل فقدت القصيدة الحديثة غنائيتها، وبالتالي أصبحت غريبة على منصات الإلقاء، وانتقلت إلى صفحات الأسافير الإلكترونية؟… هذا غير أنّ التلقي الشعري أصبح مأزوماً بثلاثية (المنبر – الكتاب الورقي – المواقع الإلكترونية)… كيف إذن ستُؤثِّر هذه التحولات في طبيعة التلقي الشعري وعلى طبيعة الكتابة الشعرية؟.. وماذا أضافت هذه التحولات للشعر؟.. وماذا يمكن أن تضيف للكتابة الشعرية؟
يقول حربية: “لم يتغيّر شيء سوى مدخل التلقي الشعري في ما أظن، عنيت الأذن تحديداً، فالقصيدة الملحمية الغنائية حارة الإيقاع تلج من مدخل السمع ثم تغزو بانفعالها الحميم إحساسنا وتخاطب وجداننا، إنها تريد منا أن نرى الكون بسمعنا وأذننا”.
لكنه أيضاً يشير إلى انقضاء زمن القصيدة الملحمية، ببطولاتها وطبولها وحميميَّتها الصاخبة أمام ما تقدمه القصيدة الحداثية لقارئ اليوم، مما يخلق حساسية جديدة لدى متلقي الشعر الآن.
وعن التلقي يقول حربية: “إنّ التلقي نفسه ليس بريئاً، طالما أنه ينخرط في صلب اختيارات المتلقي الواعية والمقصودة”. ويردف: “لم يعد التلقي سلبياً أو فجاً، إنه عملية معقدة تدخل إيجابياً ضمن مسألة إنتاج الإبداع، فالمتلقي كما يقال منتج للنص الإبداعي من زاوية رؤيته وثقافته ومعرفته الشاملة، إنه كاتب من حيث أنه قارئ واع وعارف ببواطن الأمور لأن النص الحداثي كَثيفٌ ومركّبٌ ويتطلّب معارف شاملة ووعياً بصرياً عميقاً”.
يقول الناقد د. إبراهيم ميرغني في وقتٍ سابقٍ إنّ فترة الثمانينيات كانت تمتاز فيها القصيدة بتقييم فوري عبر أكف جمهورٍ مُتحمسٍ، كان ذلك في ثنايا تقديمه للشاعر مُحمّد عبد القادر سبيل، صاحب (عالياً عالياً مثل شهيق الحسرة)، باعتباره آخر جيل الشعراء الذي تربى في هذا الكنف. لكن فضاء المتلقي أخذ في التقلص وانسحب العالم للرفاهية والدراما الجاهزة ذات القصص المكرورة: تركية أم هندية أم مصرية، كما يقول الشاعر والكاتب ياسر زمراوي، ويضيف إنّ هذه العوالم الجاهزة وألعاب الإنترنت؛ والإنترنت نفسه لم يترك مكاناً للشعر المباشر والذهاب إلى أماكن إلقائه، ويبدي زمراوي أسفه على أن من يرتادون عالم الإلقاء الشعري الآن يسيرون بغير تجربة سابقة، فبعد أن أخذت المنافي أصحاب الشعر ذي الأبعاد المشتملة على الفكر و(الطعامة) وإشباع الذائقة الشعرية بالتصاوير والأفكار، وانبعاث الشعر نفسه من أصالة شاعر غير ملتبس الرؤية كما يرى زمراوي في كثير من الشعراء الشباب في المنابر، والتي يُساعد الإلقاء الذي أصبح مدرسياً في أن يجتمع بعض الغاوين من المسايرين للشعر غير الطموح.
خارج الفضاء الشعري السوداني ثمة من قاد محاولة للمواءمة بين الشعر كحالة ملحمية وأدوات العصر ومواعينه الحديثة للتلقي. فقد أنشأ الشاعر البحريني قاسم حداد مشروعه الضخم المسمى (جهة الشعر) على الإنترنت. يقول حداد في أحد الحوارات الصحفية: “ليس هناك تعارضٌ بين المنجزات التقنية والكتابة؛ إن ذلك أحد الأوهام الشائعة التي كنا ضحية لها، بمعنى أن أي شيء إلكتروني أو تقني هو نقيض للكتابة، كثيرون يستبعدون أن يكتبوا نصوصهم على الكمبيوتر مُباشرةً لأنهم يصدرون من تراث كثيف عن حميمية الكتابة بالقلم التي ما زالت الكتابة تمتلكها بالتأكيد، لكن لا ينبغي أن ينفي هذا أنّ المبدع حين يكتشف أو يتعرّف على وسيلة جديدة للتعبير عن نفسه يكتشف في الوقت ذاته الجماليات التي يتيحها الكمبيوتر للنص. أعتقد أنّ الكمبيوتر والإنترنت يعطيان جماليات إضافية للكتابة، وهي عَادةً يُمكن اكتسابها، إلا أن الكاتب العربي معذور بأن يتردّد في ذلك لكن حين يتعرّف ما يتيحه هذا الجهاز يجد أنه أمام نص جديد، نص بصري، مشكلتنا أيضاً أن تراثنا سمعي، والعربي محروم أساساً من الثقافة البصرية مما يؤثر على علاقته بالفنون البصرية الأخرى ومن ضمنها شاشة الكمبيوتر”. ويشير قاسم حداد إلى أن هناك نصوصاً تُكتب للإنترنت، هذه الشبكة التي تضيف وسائل آلية وجديدة للكتابة.
أما الشاعر أسامة تاج السر فيشير إلى أن مشكلة الشعر الآن مشكلة ثقافة. فكل شيء أصبح مختلفاً عن سابقه، فما عاد الوقت كافياً للعمل والإطلاع والدخول إلى مواقع التواصل الاجتماعي والاستماع إلى الموسيقى. أرى أن دولة القصيدة قد ولّت، وتداخلت الفنون تداخلاً مُخلاًّ، فطغت الموسيقى ـ لسرعتها وعدم الحاجة إلى فهمها إن جاز التعبير ـ على كل الفنون. على الشاعر أن يكتب لنفسه في المقام الأول بغض النظر عن هل سيستجيب الناس إلى مكتوبه أم لا، فإن كان ما يكتبه أمراً ذا قيمة فحتماً سيصل دون الحاجة إلى منابر آنية. وهذا قَدَر الشعراء – في السودان على الأقل – أن يحتفي بهم الناس بعد موتهم. هل كان يجيد صلاح أحمد إبراهيم إلقاء الشعر؟. ومع ذلك فقد خلد خلود الشعر نفسه لعظمة ما كتب.
الشاعر الحسن عبد العزيز يرفض الجنوح والاستكانة إلى فكرة فقدان الشعر جماهيريته وملحميته، ويقول إن الشعر هو متعة الحقيقة بل هو حقيقة المتعة، وتظل جذوته مُتّقدة ما دام هنالك شعورٌ وتماسٌ مع التراكم المعرفي. ويشير الحسن إلى أنّ الموسيقى والأدب الرخيص قد تطغيان على مساحات الشعر، لأنّهما لا يرهقان ذهن المُتلقي ووجدانه؛ لكن يظل الشعر صانعاً لمنابره، ويجذب روّادها إليها بنفس الطريقة التي ينسلُّ بها من براثن اليومي إلى كونه الخاص به. الشعر بدأ سماعياً بالطبع وما في ذلك شك، واكتسب أراضٍ جديدة في حقل التشكيل بعد ظهور الطباعة؛ إذن هو يضيف ولا يحذف على رأي الحسن، ومع تطور الوسائط الأثيرية يصطدم بالمجانية، لكن نصه لا يفتقد القدرة على إيجاد قارئه الأجدر بسحره. ثما ما يلبث الحسن أن يتكئ على مقولة آرنست هيمنجواي الذهبية: (المتعة الحقيقية ليست بظهور التأثير العصبي).
التلقي الشعري أحد هموم الشاعر عاصف مأمون الإبداعية، ويقول إن رهان القصيدة والمتلقي الآن هو جودة الكتابة نفسها، فالمتلقي يطلب (دهشة – صوراً – غنائية -إلخ) بحسابات القصيدة الحديثة، واتفاقيتها المبرمة بين الشاعر كطرف أول، المتلقي كطرف ثانٍ، حيث لا شاهد سوى ديمومة النص وخلوده، وإن ثلاثية (المنبر – الكتاب الورقي – المواقع الإلكترونية) تؤكد ذلك الرهان، المنبر/المشافهة، الكتاب الورقي/القراءة. أما الأسافير الإلكترونية فهي من أحدثت نفسها – أولاً – ثم أحدثت هذه التحولات، وأضافت للحدث الشعري – خاصة – وللكتابة – عامة – هذا الوهج الفضائي، بحيث أصبحت النصوص كائنات سريعة الحركة جيدة ورديئة معاً. ويقول مأمون إن التلقي الشعري بعافية، مع تنوع أشكاله، ويستدل على ذلك بتولد السؤال نفسه كل مرة (هل فقدت القصيدة ملحميتها)؟.
* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.