ثمرةٌ
تديرُ أجزاء وحدتها
شمساً تُديرُ أضواءها التالفة
لوجوه القمر.
تسقط الشجرةُ،
ثمرةٌ في الهواء معلّقةً تتبقّى
يقف طائرٌ يشيخُ باستمرار أجنحته على سطحها؛
تخرّبين الرياح بوجهكِ
بتحوّلاته الثاقبة
كأمطارٍ واهيةٍ تُخرّب الندى، وتمحوه من المنظر.
أليست الشوارع هكذا، بلا ناسٍ يغترفون جمالها بوجودهم
ويلقونه على سطح قلبك قططاً تبادل بعضها ألوان فراءٍ مشرّدةٍ؟
أنت التي ترين مستقبل الفضاء،
راكباً دراجةً هوائيّةً، متنقلاً من زقاقٍ إلى زقاق
يُخضعُ مدارات أحلامِ النائمين لتوحشّات نجومه؟.
الثمرةُ تدور في الهواء
عاكسةً أسطح تَلَفِهَا على قمرٍ فَقَد أوجُهَ جَمَالِه
الشجرةُ بدأت، فعلاً، في حَفر قبرها
دون أن تنسى مكانة فروعها أسفل التّربة،
دون أن انتزاعٍ لحقّ الجذور، تُدفَنُ على سطح التّربة؛
الفائدة، من تغيّر مكانِ الحيّ بعد موته، تنشرُ وَحشتها،
الجذور صورةُ الموت يحيا بخدمة ظلامٍ مُكتّفٍ بتحوّلات اليابسة.
تُرى دوّامات:
أمواجٌ من بنايات المُدن ترتفع بانيةً أفقاً، خاسفةً بمصيرِ آخر،
الحقولُ، تربطها سلاسل أحداقٍ، تتقافز على سطح الأمواج؛
عدّةُ أحراشٍ تتشابك حاميةً غليل الحيواناتِ،
عدّةُ جماعاتٍ سريّةٍ حائرةٍ في اختيار زيٍّ موحّدٍ من النّار والسّهو والكوابيس،
عدّةُ أقمشةٍ تؤلّف موسيقى اهترائها لمن كانت لجسده أمراً منسيّاً.
تُرى الدوّامات على أوجه الثمرة الدّائرة.
اقذفي بها،
إنها لقلبكِ بغرض تَشكِيلِه، أيّتها الصغيرة،
التفرّعات مَذاقُهَا،
التفرّعات خرجت من عينيك،
حتّى وإن لم تكن مخالبها ناضجةً،
فإن فرائس خيالكِ تُرعدُ البريّة بركضها الغجريّ،
أنت التي صيّادةُ بِقَاعٍ تُرى سراباً من جميع الاتجاهات؛
الانسياب مع الرياح يُفقِدُ الاتجاهات معناها،
يمنحها سحر عبثها المتجمّر تحت رماد أسمائها.
ليلٌ صوتيٌّ بشروخِه يتقدَّم
عارضاً أسواقه على جلودها المتشقّقة
مُستَحضراً بما لا يُشقُّ له غبارٌ؛
ثعابين ترتق إيقاع أنفاسه.
هذا الليل ليس من أحراشكِ،
أيّتها الثّامرةُ بنبضِ قلبها.
ومن بين كلّ اللغات
تستخدمين جراحك لتكوّني شجرةً عند المفترق؛
حيث لا وجود لمُتكلِّمٍ سوى الريح،
الرمل يعبثُ بأشلائه مُحاولاً إيقاعه ليبعث بهجةً على كلّ هذه الستائر المظلمةِ،
التي تعكس حقيقة الوجه؛
وجهُ النافذةِ يطلُّ من فخذيكِ
وجه الكائن المتوهّج يطلّ من أخمص صرختك
وجه البحر يطلّ من عبوس أنحاءِ ما تُكنّين من نايات.
أين اللغات؟.
العربةُ جاهزة
لتمطتي فصولَك أيتها الثمرة،
اضربي الهواء بأنقاضِ تبرعمك لتركض الأحصنة،
لأجل تكوينِ شعاعٍ تبرقع على جلد أيّامك خائناً أحلام الطريق:
اقلعي عن الدّنوّ
كُوْني دانية العرش في الشجرة،
كُوْني مجموعَ أرقامٍ جذريّةٍ مستحيلةِ العدّ،
قولي ما ينال منك،
واستخدمي الأحراش التي امتَلَكَتْ اسمها من اسمك.
الثمرةُ شاشةٌ تعكسُ افتراس غزالٍ جبلاً
تنهضم الحجارة:
تتفتّتُ فتاةُ الباكي بين يديه؛
لا الشارع يدركُ وجه الباكي حينَ تمسَّح بأرضه،
لا ديوك الصباح شاهدته وعَوَتْ لتنبيه الحياة بولادته العبثيّة،
جمالُ الثمرة شاشةٌ تعكسه وتعكسه وتعكسه ولا من مُشَاهد.
يُسَيِّلُ يده على الوجوه
مُحاولاً حفظَ ملمحٍ واحدٍ لأجل تسليمه، مغدوراً، لألم المعنى.
يُليِّن كُرههُ ليبذله بابتسامةٍ، وتلافيف جوعٍ يستدرُّ العطف.
بيديه ألف باب
من سلسلته الفقرية تتدلّى المفاتيح،
ومن خلفه البحر، واليابسة، والكلمات.
اسمه اللكمة الطائشة
جولته التفتيشيّةُ بوماتٌ عمياوات،
وسلامة كهولته شاشة الثمرة.
إلى متّى سيظلّ منتصباً ببصره على الشاشة؟
نُطفٌ لم تتكلّم بعد تُجالس خياله طوال الليل،
سرقاتٌ فتَّاناتٌ ينكببن على خصل شعره المتبخّرة، ويضفرنها سراباً سراباً،
من له بمُحيٍ؟؛
بعاكفٍ على تنبيهه بأن الوقتَ يمضي،
بأنه وقتٌ ماضٍ،
بأن الوقت موجود؟.
من له، مُسرفُ اللحظات في سوق الحسّ والجلادين؟.
(له الإشارة، وحيدةً، بجلده تلتصق
برغوثاً حُرَّاً يكتبُ الدّم
ويُترجم النبضات).
ثمرةٌ وسطَ الليل
غيرةٌ تستقلّ القطار الذاهب من الجُبِّ الخياليّ الذي دُفنَ فيه يوسف
إلى مائيّة الصفاء والشرِّ.
من أين ينبعُ الماء؟
من هلع أمٍّ،
نبوءةِ أبٍ،
من جوع الأرض لخوفها؛
خوفها البئر؟.
ناي غابات الليل، حيث تتوسّط الثمرة،مُخَلَّلُ الثقوب بأنيابٍ ميّتة،
تعزف عليه أنهارٌ غنيّةٌ بأطفالٍ تأرجحوا فوقها؛
أنهارٌ تنهار إثر صوته:
أفاعٍ هُجرت لسمومٍ لم تخترها يوماً،
جوعٍ لم تعترف به جثّة أسدٍ إنسانيٍّ،
كلامٍ مبهمٍ يمشي على أصابع أسلافه فوق ناب الفيل.
ثمرةٌ وسط الغابةِ تُقاتل في صفوف لحن النّاي،
تجتثّ أثقال ليلها من أعداءٍ يواجهونها بجمالها،
وتكوّمها حطباً سنويّاً لا تدري كيف سيلوّن ناره جلدها،
كيف تسمّي الدفء الهارب من قشورها المحترقةِ؟
شمسٌ واحدةٌ، تطلّ على الكوكب،
لم تكن كافيةً لتُسمي نفسها الخارجة على صفوف المقاتلين.
لن يتوقّف الجسد عن كونه جسداً، مهما اتّفقت الأنوارُ الصادرةُ من أعماقه على تكوين اسمٍ آخرٍ له، مهما اختارت الحيوات من حريّاتٍ محجبّاتٍ بالقيود؛ إنه سيّد الجميع بشموسه الغاضبة من نسيان قوّته؛هذه الحرارة التي تغمر كلّ منحىً ونظرةٍ، وتمنح الوحش قيمةَ حياته وتنتزع منه أشجاراً وجذوراً تغمر دموعه حين يودّع حقيقته في الأعين المدنيّةِ. أيتها المغلّفةُ بالسكّر ومغمورة الجوف باللبّ المعرَّف، كيف تنسين الشجرة التي لم تلدك إلا صدفةً، أيتها الثمرة المتأثرة بالفصول، أنظري لفصول الوحش؛فصول أنياب وحدته وهو ينظر إليك مقضومةَ الطّرف وتعانين من الكمال. أين جسدك؟. أين جسد الثمرة إن لم يكن في الرائحة الصلبة التي تَنتقي أنفاسها من ذهنية القِطَاف، مواعيد الحبّ التي لا تخطئ أهدافها لأنها خالدة الجشع. دائماً اسمٌ آخرٌ للجسد ليكون مُستبعداً؛ دائماً اسمٌ آخرٌ لجلد الثمرة لننسبها للشجرة. أيّها الجوف اصرخ، أيها الجوف توقّف عن السريان إلى الخارج بروائحك ولونك لإغراء العين.
ها صيّادة الهواء عادت،
إنها تختبر سيلان رائحتها عبر ذاكرات الجمال وقبيح القول والفعل،
إنها تنبني لأجل ذلك،
مُغيّرةً رقصة خِصرها، فهي منفصلة عن شجرتها،
وفي الهواء تُقاتل.
لأن رياح العالم انفردت بمغنيّةٍ واحدةٍ،
داخل كهفٍ كوَّنته الصرخات،
هناك
أعلى مدينةٍ لم تتواجد إلا قريةً في خيال الله.
قل كيف يطلون الجدران دون استعانةٍ برؤوس عيون الأطفال،
فهي تسير بصوتٍ منخفضٍ لتثير حساسيّة ألوانٍ لم تُسمّى،
وهي تجتاح بلَعِبِها صرامة الهَوَسِ العائليّ لكلّ سلامةٍ من خطر.
اقذف بها،
الْحَق بما وهبته السماء للبشرية،
وسوّره بما حَاقَ بها؛
سترى سفاهة البحث عن نهايةٍ لكلّ حياةٍ وموت،
وتستحق لقب الثمرة.
اقذف بالثمرة.
الصبيّ يسرقها،
الفتاة تسرق ماضي الصبيّ،
تذكّره ببيتهما على ضفّة نايٍ،
وعلى ثقوبه تعزف أيادٍ مشعرةٍ شكّلتها طوفاناتٌ أغفلها التّاريخ،
ولم تتواتر في كتبٍ سماويةٍ ولا أرضيّةٍ.
إنها قمّةُ الخوف تتفاقم على شفتيها وهي تذكر أسماء أسماكٍ تقافزت على الألحان،
إنه بئرٌ جَمَّع ثاكلات وجهه المتحوّل عبر الزمان.
قل للسباق العادل بين روحيهما: توقّف عن الهذيان،
ليدرك الكون وجود واحدٍ منهما، على الأقلّ، مصغياً لوجوده.
كيف ينساب الزمان أيتها الثمرة
وأنت نتيجة ولست مُساهمةً، بمذاقك وانتظارك لفصلك، في التكوين؟
ربما تختارين أن تكوني مبهمةً أمام العين الساذجة،
وأن تكوني قاتلةً أمام الجسد المتكامل برؤاه.
ولكنّ أسوداً تلاحق غزلاناً تلاحق أعشاباً تلاحق أمطاراً تلاحق ليلاً يخفيها عن أعين خفافيشٍ تمتصّ ظلامه وتُعين أطفالاً على الاختباء الشقيّ عن أمهاتٍ يسلقن أعمارهنّ أمام مواقدٍ تزيدها عوائلهنّ حطباً ينقش عليه الهائم على وجهه في الغابات أكواناً بإزميله المجلوب من أعماق صحارٍ لم ينتبه لمعادنها سوى نسور مستغرقة في حبّها مع الجثث التي لا تدري من أين ألقمتها النار نهايةً تبحث عن بدايةٍ لا وجود لها.
….
إنها الثمرة.
الخرطوم – القاهرة
مارس – يونيو 2009م
* شاعر من السودان