ثمار

مُكاء القصائد وتصدية الجمهور استطلاع عن التلقي الشعري (2–3)

 

[في مقال منشور بعدد من المواقع الإلكترونية قبل أعوام بعنوان: (محمُود دَرويش.. آخرُ شعراءِ الإِلقاءِ الشِّعريِّ؟) أثار الكاتب والشاعر والمترجم محمد حلمي الريشة قضية التلقي الشعري وتحولاته، وأجاب في نهاية المقال عن  سؤاله: (أعتقد هذَا؛ لأَنَّهُ – أي درويش – كانَ الأَكثرَ جمهورًا علَى الرَّغمِ منَ افْتراقهِما أَحيانًا كثيرةً، ولأَنَّه الأَعلَى غنائيَّةً بإِيقاعاتِ رنينِ قصائدهِ، والأَهمُّ مِن هذَا وذاكَ؛ لأَنَّ قصائدَهُ الحديثةَ كانتْ كأَثرِ الموسيقَى فِي الإِنسانِ؛ تُقشعِرُ الرُّوحَ بوداعتِها، وتنفضُ القلبَ بحنانٍ، وتفتِّحُ الجسدَ كُوَى أَملٍ/ حريَّةٍ/ حياةٍ!).

أعادت مقولة الريشة الأسئلة حول التلقي الشعري إلى المشهد: هل فقدت القصيدة الحديثة غنائيتها، وبالتالي أصبحت غريبة على منصات الإلقاء، ولربما الكتاب الورقي أيضاً، وانتقلت إلى صفحات الأسافير الإلكترونية وحسب؟ كيف إذن ستؤثر هذه التحولات في طبيعة التلقي الشعري وعلى طبيعة الكتابة الشعرية؟ وماذا أضافت هذه التحولات؟ ماذا يمكن أن تضيف؟  طرحنا الأسئلة السالفة على عدد من الشعراء والكتاب.]      

(الذاكرة والذائقة العربية ظلت لأكثر من ألف عام حبيسة لمفهوم الشعر الموزون المقفى)، لربما اتفق كثيرٌ من المهتمين والمشتغلين بالشعر على هذه المقولة، وكذلك الشاعران محجوب كبلو وعبد الله شابو. وفي معرض ذلك يقول كبلو: “إن سيطرة النبرة الخطابية على القصيدة العربية، والمنسربة من فترة القصيدة الجاهلية الجليلة التي لم تكن تعتمد كوريثاتها عليها فحسب؛ بل كانت تعبيراً كاملاً عن روحية متكاملة، جديرة بأن تدعها على ذرى الإبداع الإنساني”، مضيفاً أن سيطرة هذا الميراث الجزئي – ويقصد به هنا الخطابية – والذي التفَّت حوله القصيدة الوارثة منذ المتنبي إلى الآن جعلها أسيرة لوظيفة: (وللناس بوقات لها وطبول).
ويؤكد كبلو: “إن هذا الاتكاء الأبدي على منسأة النبر العالي الذي هو الجوهر الوحيد الذي تسرَّب من كلاسيكية القصيدة في طزاجتها الأولى وامتدَّ لما يزيد على الألف عام، كأطول عمرٍ لشكلٍ أدبيٍّ في تاريخ آداب العالم، بالمقارنة مع الثقافة الغربية التوأم، حيث لم تستمر هذه الخطابية أكثر من مائة وخمسين عاماً، إنما ذلك يُعزى لجمود استمرّ واستقرّ في العقل العربي، وهذا مجال عريض للبحث”. 
ويستشهد كبلو بتجربة محمود درويش، ويَعدُّه كلاسيكيَّاً، إذا صحت تلك الفرضية، إذ إن الكلاسيكية موقف ووعي من العالم يتجلى من خلال الكتابة.
الشاعر عبد الله شابو الذي بدأ سرداً عن تلقي الشعر قبل أن يبزغ فجر الكتابة، يقول: “بدأ الشعر وكان يلازمه الإنشاد، مما جعل الشعر مُلتحماً بالإيقاع، ولم يكن ذلك الارتباط خاصاً بالشعر العربي، ففي الثقافة الأفريقية لا يوجد ما يُميِِّز الشعر عن النثر سوى الإيقاع، فالشعر في فلسفة الجمال الأفريقية قطعة نثرية موقَّعة”.
ويقول: “ظلَّ الشعر هكذا تسمعه الأذن فتطرب النفس، حتى بدأت التحوُّلات الاجتماعية والثقافية، التي فعلت فعلها بظهور عصر التدوين، وبدأت تظهر آراء هنا وهناك، تُحاول أن تفصل الشعر عن الإيقاع”. واستشهد شابو هنا برأي عبد القاهر الجرجاني الذي يقول إن الوزن والقافية ليسا ضروريَّين للشعر، لكن شابو يشير إلى أن الظرف الموضوعي في ذلك الزمان لم يكن مواتياً لتخلي القصيدة عن غنائيَّتها وإيقاعها.
لكن حظ قصيدة النثر عند شابو مثل حظ القصة في حالة القراءة على المنبر، فقصيدة النثر لديه تكتفي بموسيقاها الداخلية التي لا تُنتج من الكلمات كما في قصيدة التفعيلة أو القصيدة العمودية، لكن موسيقاها تُنتج من التموج الإيقاعي في المعاني. ويستطرد شابو في مسألة القصيدة المقروءة وسابقتها المسموعة، حيث يؤكد أن السماع هو الأقرب للوجدان الإنساني، أما النظر فهو لا يُدرك إلا ما هو متحيز بالزمان والمكان، ويستشهد بدراسات علم النفس الحديث، حين يقول: “اتضح بالدراسات في علم النفس أن الإنسان يستوعب 10% مما يقرأ، كما يستوعب 20% مما يسمع، أما في حالة الجمع بين السمع والقراءة، فإنه فإن ظرف التلقي يكون أفضل، أي أن نسبة الاستيعاب تزيد إلى 30%”.
وعندما سألناه: هل تتوقع أن المستقبل للقصيدة المقروءة على الورق أم الموقع الإلكتروني؟ 
أجاب شابو: “لا يمكن لأحد التنبؤ بما سيحدث للقصيدة، لكن قصيدة النثر بخصائصها البصرية هي السائدة الآن، وهي المُعبِّرة عن جيل وذهنية العصر، لذلك لا أستبعد أن تكون قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل، حتى قصيدة التفعيلة تحركت باتجاه النثر، وخاصة من الكتاب الذين حاولوا تطوير قصيدة التفعيلة مثل محمود درويش، حتى أن البعض في مرحلة من مراحله ظنوه تخلَّى عن قصيدة التفعيلة، وهذا ما اتضح من خلال رده – أي درويش – الذي قال فيه: (إن من اتهموني بكتابة قصيدة النثر لا يعرفون الإيقاع العربي جيداً، ولكنني أكتب قصيدة نثر موزونة).
ويشير شابو إلى أن هناك بحوراً شعريةً هي الأكثر استخداماً من كتاب القصيدة التفعيلية، ويلفت إلى بحر المتدارك، ويفسر انتشاره في القصيدة الحديثة، بأنه طيِّعٌ طواعيةً غير محدودة، بحيث يُقرِّبُ الكلام المكتوب به من النثر، كما إن فيه إيقاعاً منتظماً.

وعن طبيعة التلقي وتأثيرها في الكتابة الشعرية، يقول الشاعر محمد جميل أحمد: “إذا كانت هذه الكينونة الشعرية تمثلت تاريخياً عبر صيرورات متعددة ربما كان أهمها: الصوت الإنساني ــ أقدم آلة موسيقية في التاريخ ــ فإن الحاجة التي تستدعي الصوت الإنساني إلى تمثل الشعر، في كل زمان ومكان، لا تكمن جدواها في التساؤلات المتقابلة بين جدوى الكتابة / والخطابة، بل في مدى التماهي الخلاق والحساسية العالية (التي كان يجيدها درويش) في خلق تمثلات جاذبة بين الكلمة والجمهور عبر فعالية الشاعر. فدرويش هو الذي قال: (ستسقط نجمة بين الكتابة والكلام)، ذلك السقوط الحر للشعر كحالة من التلقي، ففي كلمة (تلقي) بذاتها ما يُحيل إلى أكثر من وسيط في عملية التفاعل بين الشاعر والجمهور”.
ويشير محمد جميل إلى أن محمود درويش حالة مثالية للجمع بين الحسنيَيْن في الكتابة والكلام الشعريَّيْن، ويقول: “ثمة حاجة ضرورية للكتابة والكلام في نشاط الشعر، وإن ما يجعل ذلك ممتعاً في الحالَيْن هو نص الشاعر وإبداعه الأصلي، معطوفاً على امتلاكه مهاراتٍ أدائية في حالة الكلام لتحسين جودة الإلقاء”.

فالصوت البشري لدى محمد جميل قيمة مضافة للشعر، ففي طبقاته، وإيحاءاته، وتموجاته، ومعانيه ما يشير إلى أكثر من دلالة، وما يحيل إلى ما هو أعمق من الكتابة، ويقول إنه في كلا طريقي التلقي، سواء عبر الكتابة أوالكلام (حيَّاً ومسجلاً ومصوراً)، ما يميِّزُ بعضهما عن بعض؛ ففي الكلام (الإلقاء الشعري) ستكون دلالات الصوت وحضور الجماعة أشبه بحالة طقسية لأداء الشعر؛ ذلك أن الصوت هنا لا يؤدي وظيفة هتافية ـ كما قد يظن البعض ـ بل يعكس ضرباً من التحديد المُفعم بالتطريب والإيحاء والمؤثرات التي تقابلها استجابة موحدة من الجمهور ومشاركة ظاهرة لأثر الشعر على البشر. ويلفت جميل إلى أن فعل الكتابة والتلقي الفردي أكثر ارتباطاً بعزلة الإنسان في الأزمنة الحديثة، لكنَّهما – يقول – في كلا الحالين لا تكون الأرجحية كما لو أنها حيازة متوهمة لضرب دون ضرب. فالأمر بالنسبة لجميل أشبه بالنقاش العقيم حول الأرجحية الشعرية، فيما إذا كانت لقصيدة النثر، أم لقصيدة التفعيلة والعمود. ويقول: “الشعر شعر قبل الأشكال التي تحمل معانيه، وإذا كان ثمة عطب يمنع من وصول الاهتزاز للمتلقي ـ مستمعاً أو قارئاً ـ فلا يُمكننا رد العطب إلا إلى عجز الشاعر وقصور الشعرية في نصه عن إيصال إيحاء الشعر إليهما”. ويردف جميل قائلاً: “إذا كان الشعر ظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية ـ وهو بالطبع كذلك ـ وأن حاجة البشر إليه جزءٌ من سعيهم المشروع نحو تأكيد انسانيتهم بالجماليات؛ فإن أشكال التلقي بعد إقرار هذه الحقيقة ستُصبح تفصيلاً. كان الشعر وكان الإنسان، وهذا هو المهم”.

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني .

زر الذهاب إلى الأعلى