غوايات

تنقيبات طينيَّة: بوي جون في الخرطوم!

(1)

قبل أسبوعٍ في ساحة أتنيه هَبَط علينا الكاتب الجنوب سوداني بوي جون. وخلال الأسبوعين الماضيين حرت وزميلي الصديق الشاعر حاتم الكناني تقريراً مشتركاً عن العلاقات الثقافيّة بين السودان وجنوب السودان، ذكرنا فيه خبر وصول بوي إلى مدينته الخرطوم في رحلة عودته من بيروت حيث احتفلت الأوساط الثقافيّة هناك بصدور كتابه الأول (جنة الخفافيش). أمتَعَنا العمل على ذلك التقرير، ونشرناه في الأعداد السابقة من (الممر)، ثمَّ عقَّب عليه الكاتب الجنوب سوداني أتيم سايمون بإفادةٍ نشرناها الأسبوع الماضي بعنوان (جنوب السودان والسودان، قـَـدَران في مجـــرى الحياة الثقافية)، ثمّ نُشرت المواد بملف صحيفة (الموقف) الثقافي التي تصدر في جوبا عن صحيفة (الموقف)، كل هذه المواد المشتركة توجد إلكترونياً بمجلة (البعيد) الإلكترونية التي ظلَّت حاضنةً للتواصل الثقافي بين البلدين.

كُتِبَت هذه المواد بالتزامنِ مع فعالياتٍ ثقافيّةٍ متبادلةٍ بين البلدين، وخلَطَ شتاء هذا العام الأشجان والأحلام والتواصل بين الجهتين الواقعتين، تماماً، في الدرك الأسفل من الجحيم. قطعتان من جحيمٍ تنبضُ بداخلهما جنانٌ تتواصل. هكذا رأيتُ الأمر، وهكذا بكيت داخليّاً وأنا أحتضن صديقي العزيز بوي قبل أيام في أتنيه بعد فراقٍ دام لسنوات طوال، لقد تخرَّج وأصبح طبيباً! نَبَت بعض الشيب على شعره، لا بأس، لقد انشَغَلَت نيران شعري بالشيب منذ أمدٍ ليس بالقصير كذلك. أخذنا صورةً تذكارية ومعنا راشد عبد الوهاب (الصورة مرفقة).

(2)

في أواخر العشرينات من عمري زرتُ الجنوب لأوّل مرةٍ في حياتي، كانت السنة الأولى بعد استقلاله، وفي مدينة جوبا كان بوي هو مُرشدي. إرشاد بوي يختلف عن أيّ إرشادٍ آخر نسبةً لشعريَّته المُستَمَدّة من تفرّد بوي نفسه. إشاراته ومعلوماته عن الأماكن يتبعها سردٌ لقصصٍ وتفاصيل، وبأسلوبٍ لن تنساه، ومتعةٍ وضحكٍ وقفشاتٍ ساخرة. لن أرى وأسمع مرةً أخرى كما حدث في تلك الأيام الثلاثة.

 زرنا صحيفة (المصير) التي كان يرأس تحريرها، وقتها، أتيم سايمون، والتقيتُ بزملاء الأمس (إحصاؤهم صعبٌ جداً) في مدينةٍ هي عاصمة دولةٍ أخرى غير التي كنّا ننتمي إليها جميعاً؛ أتيم سايمون كان يقود سيّارة جميلة، التقيناهُ صدفةً في الشارع! تماماً كما كنّا نلتقي جميعنا صدفةً في شوارع وسط الخرطوم؛ حِلَّتنا، مقرّات الصحف والمكاتب المتجاورة في شوارع الجمهورية والمك نمر والبلدية وغيرها، قضينا فيها أكثر من عشر سنواتٍ جلّ ساعاتِ أيّامنا. السنوات ما بين 2005م-2011م، سنوات ازدهارٍ في كلّ المجالات، والحزين أنها تبدو لي من نافذة اليوم كأجمل أيامٍ عشتها في الخرطوم. عندما تلتقي أتيم اليوم في شوارع الخرطوم، فهو يأتي كـ”زائرٍ” للتي كانت مدينته، تحتضنه دائماً بقوّة لقاء صديقٍ قادمٍ من بلادٍ أخرى.

(3)

قضيتُ ثلاثة أيامٍ لا تُنسى في جوبا، وكان لبوي، وبقية الأصدقاء القدامى، فضل الخلود هذا. كنت قد وصلتها برَّاً من أوغندا، ضمن رحلةٍ بريّةٍ غير مخطّطٍ لها بتاتاً (يمكنُ تسميتها بـ”خطَّة مُتَوَكِّلة”)، دامت ثلاثة أشهر انطلاقاً من نيروبي، مروراً بكمبالا، وصولاً لجوبا، ثمَّ بالطائرة إلى الخرطوم. وكنت في ترحالي وحيداً تماماً. أقول جازماً أنها أشدّ أيام حياتي – حتى الآن – خصوبةً وذات معنى.  رأيتُ جبل الرجّاف! الذي كان بالنسبة لي، حتى تلك اللحظة، “أغنية” عظيمةً للموسيقي والفنان الهائل النور الجيلاني، تصوَّر أن ترى إحدى أغنياتك المفضّلة، لفنانك المحبوب شديد، مُتجسِّدةً أمامك؟! لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل أن جوبا تظهر من خلفه في المدى البعيد، كانت تلك المدينة سودانيّة، تخلّي الخرطوم عشانها وترميها من نافذة حياتك مثلما يقول النور: “وَدِّع، سِيبَ الخرطوم، قُوم، قُوم بَارِحَا، يا مسافر جوبا”.

وفي هذه الأيام أقرأ رواية (جنّة الخفافيش) الصادر عن دار الساقي ببيروت، والفائز بمنحة (آفاق) ضمن برنامج (آفاق لكتابة الرواية) في دورتها الثانية، جنباً إلى جنب ستة كتابٍ وكاتباتٍ من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تكتب باللغة العربيّة.

(4)

نتعرّف في الكتاب على مدينة كاملة بحيواتها ومصائرها الهادئة، السبر الصبور والعناية الكاملة بكلّ كلمةٍ تُكتَب، وكلّ إشارةٍ تحدث، في مغامرة الطبيب أركانجلو مَرجان للبحث عن حلمه الذي لم يكف عن مراودته طوال حياته التي عاشها بعيداً عن المدينة التي غادرها مع أسرته، مخلّفين أباً مَقتولاً بغموضٍ تُفكّكه يوميّات الطبيب التي يكتبها، والمكوّن الرئيس لمادّة كتابٍ وقع ضمن أقدار قراءاتي الفاتنة.

(5)

سنتشارك قراءة هذه السريحة من صور حاضرٍ وطفولةٍ نيليّةٍ لبطل الرواية، أركانجلو مَرجان، وفي زمن الرواية يكون ذلك بعد الحرب واستقلال دولة جنوب السودان، وتحديداً في العام 2015م، حيث يلتقي بصديقه القديم في المدينة التي يقطنُ في أحد فنادقها كـ”غريب” من الممكن أن يموت بصاعقة الأمطار كما تقول معتقدات المدينة حيث [يقولون إنها سلاح السحرة المفضّل، يرسلونها فتَفتِكُ أسرع من أيّ تعوذيةٍ أخرى، ولسببٍ غير معروف لأحد فإنها تصيب الغرباء]، يقول أركانجلو:

[لديَّ ما أخافه إذاً، فأنا في النهاية غريب أو قُل نصفه، إذ إنه رغم أن مشيمتي مدفونة في مكانٍ ما هنا: تحت جذع شجرة، أو عند حافة صخرةٍ غارقةٍ في الوحدة، أو في حديقة المنزل ربما. وتنعكس غربتي في وجوه من ألتقيهم، فلهجتي عندما أتحدث تجعل الناس يلتفتون إليَّ وكأنهم يقولون: إذاً أنتَ غريب. أمّا وقد ظَهَرت الشمس أخيراً فالحمد لله أن واحدةً من تلك الصواعق لم تسقط عليَّ، ونجوتُ لأرى الصباح جميلاً كأنه قطعة من الجنة، كما كنا نكتب في مادة التعبير، ولأنفض الخوف عنّي وأترك قدميّ تتسكعان قليلاً.

وما إن نزلت إلى الشارع حتى تبيّن لي أنّ المطر لم يمنع أحداً عن الخروج باستثنائي ربما. كانت الشوارع تعجّ بالنمل البشريّ الذاهب في كلّ اتجاه. أناسٌ يلقون التحية على بعضهم البعض، يتوقّفون لفتراتٍ قصيرةٍ ثمّ يواصلون، بعضهم يكتفي بالتلويح من الجانب الآخر، ويصرّ آخرون على أن يعبروا الطريق ليسلّموا كفّاً بكف.

كان القليل منهم فقط يحملون مظلّات المطر، لكنهم كانوا جميعاً يتصرّفون كأن المطر عيد، وسريعاً عرفتُ العيد الذي به يحتفلون، وتحت المطر الذي عادةً ما يعطّل لدينا أي حركةٍ ونشاط: إنهم سعداء لأن المرتبات قد أتت بعد غيبةِ أكثر من ثلاثة أشهر، ظلّوا يعملون خلالها لدى الحكومة مجّاناً.

وسمعتُ أيضاً أن السوق سوف ينتعش لبضعة أيامٍ، قبل أن يعود الركودُ إليه مرةً أخرى، وهذه هي الحال منذ أن اندلعت الحرب، فإنّ الجميع يخرجون فور سماعهم، ولو محض شائعة، عن وصول المرتّبات، مهما يكن الطقس، سواءً أكانت تمطر أم لا.

علمتُ تلك الأمور من بائع الصحف في الكشك القريب من الفندق، وقد ثرثر لي كثيراً عن الشائعات الرائجة بأن الرئيس ربّما لا يزور المدينة كما كان يتوقّع، وذلك خوفاً على حياته من المتمرّدين الذين يُقال إنّ بعضهم قد تسلّل إلى الداخل من الغابات القريبة.

ربما ثرثر لي بتلك الإلفة لأني أُعطيه مبلغاً جيّداً من النقود، حتّى يحتفظ لي يومياً بنسخٍ من الصحف إن لم أجد فرصة المرور به في حال انشغالي. وقد أصبحت عادة مراكمة الصحف من أجل قراءتها دفعةً واحدةً في أوقات الفراغ، لا تفارقني أينما ذهبت، ورغم أنني تعلّمتها تحت ضغط العمل، أصبحتُ أجدُ فيها لذةً تفوق الاطلاع على الصحف يوم صدورها.

عدتُ متأخِّراً بعدَ أن حَصَلتُ على مفاجأة لم أكن أتوقّعها، ومعاً، أنا وهو، تسكَّعنا حتى ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل، حيث حدث الأمر كلّه بسرعة: في طريقي إلى الفندق سمعتُ شخصاً يُنادي باسمي، تجاهلتُ الأمر لاعتقادٍ راسخٍ لديَّ بأن اسمي سهلٌ، ويمكنه بالتالي أن يتشابه مع أيِّ اسمٍ آخر، وتماديتُ في “الطَنَاش” لأنه منتشرٌ هنا مثل الوباء، حيث وجدتُ في المطار وحده أكثر من ثلاثةِ أشخاصٍ يَحملونه، لكنَّ النداء استمرَّ، واقترَبَ الصوت أكثر وأكثر دون أن ألتَفِت حتَّى صَمَتَ أخيراً، لأسمع بدلاً منه هَمساً طفوليّاً ينقرُ في أذني:

–     هل سَرَقتَ السُّكر من مطبخِ أمك؟

ما هذا يا إلهي؟ هل أنا أهلوس؟ فتلك الجملة قد قفَزت من أعماق طفولتي البعيدة؛ إنها شيفرةٌ كنّا نستخدمها في المدرسة نحن ثلّة الأولاد الستّة كما كان يُطلَق علينا، وجدنا أنفسنا معاً لا يُفارقُ بعضُنا بعضاً، حيث كان يجمعنا سكن الحيّ وسلوك الطريق ذاته إلى المدرسة، والهرب من الحصص الأخيرة من أجل اللعب بالدراجات المُستأجرة، والتسلّل إلى النهر الذي لم أُخاطر قطّ بالنزول إلى مائه، خوف أن أكون ضحيّةً من ضحايا حوادث الغرق التي تكثُر مع اقتراب عطلة الصيف لدينا.

كنّا نكتب الشيفرة في قصاصات ورقيّة نتبادلها أثناء الحصص، نُخبر عبرها أحدنا الآخر أن وقت الهروب قد أتى، وقد بقيت طيَّ الاستخدام طوال دراستنا في المرحلة الابتدائيّة رغم أن الثلّة لم تستمر كما هي، انكَمشت وتقلّصت.

هاجر أحدنا مع أسرته فانقطع خبره بعد مدّةٍ من الوقت ظللنا نسمع خلالها عنه، وتحوّل آخر إلى مدرسةٍ أخرى لأن ذويه قد رحلوا إلى حيٍّ بعيد، القدوم منه والعودة إليه يتكلّفان أكثر من باص ونقوداً لا يستطيعون تدبيرها يوميّاً. أما ثالثنا فغاب عن المدرسة ذات يومٍ ولم يأتِ ثانيةً أبداً، لم نعرف سبباً وراء ذلك ولو حتّى شائعة نستطيع قولها لمرشد الصف الذي أخذَ يسألنا لأكثر من شهر، حتّى كفَّ وحده عن ذلك، كان اسم الغائب “تعبان”، وها هو يظهر بغتةً وبنفس الطريقة.

لم يضيّع وقتاً بإرهاق ذاكرتي في محاولةٍ يائسة في التذكّر، مثلما يفعل الكثيرون عندما يجدونك بعد سنواتٍ طويلة، فيطرحون عليك سؤالاً يطفح بالغباء مثل: هل نسيتني؟ وذلك قصد الإحراج لا التذكير رغم أن مناسبة عابرة، كمقاسمة مقعد يتيم ساعة الذروة في باص مكتظّ، قد تكون هي كل ما جَمَع بينكما ولا شيء أكثر.

–     أنا تعبان.

عَرَّفَ بنفسهِ مباشرةً.

–     تعبان التعبان؟!

هَتَفتُ غير مُصدِّق.

–     تعبان الجعان.

هَتَفَ ضاحكاً.

الهتافات التي تلفظنا بها كالأطفال، عادت بنا إلى الوراء بعيداً وفرحاً، وكانت في ما مضى تجعله شعلةً من العشب المُلتهب، فيشرع في مطاردتنا ورمينا بالحجارة وكلّ ما يجده أمامه، أغلب تلك المطاردات كانت تنتهي بإصابةِ أحدنا، لكن سرعان ما يزول الألم فنعيد الكرة من جديد، وقد نسينا كم هو خطرٌ العبث معه.

كان فائق المهارة في رمي الحجارة، لذلك كنّا نستعين به في صيد الطيور، مقابل أن يكون له نصيب الأسد، لكنه كان لا يكف عن التذمّر بأنه يستحق أكثر، قبل أن يعود فيتنازل في النهاية لأنه يحتاج إلى مساعدتنا له في مشاجراته الكثيرة، التي جَعَلته يكتسب بعض العلامات الفارقة على وجهه، والجَلْد أمام الطابور الصباحي في الأوقات التي يكون فيها تعيس الحظ، وما أكثرها من أوقات]. (انتهى).

(6)

صديقي بوي جون، مرحباً بك في بلدك الأول، في الماضي، والثاني، حالياً، فكما قلت، لي مستنكراً، عندما أخبرتك بنيّتي كتابة مقالٍ عن “زيارتك” للخرطوم: (يا زول أنا ما جايي زيارة، أنا جيت بيتنا في الحاج يوسف). وزي ما بتقول: “الحاج يوسف حقتنا بنلِف بي راحتنا”.

* شاعر من السودان

 

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تصدره جريدة السوداني.

حاتم الكناني

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى