حوار وآراء ساخنة حول بيت الشعر السوداني *
في شهر نوفمبر من العام الماضي تمّ الإعلان عن تكوين بيتٍ للشعر السوداني، بتمويلٍ كريمٍ من دائرة الثقافة والإعلام بإمارة الشارقة، وعبر جامعة الخرطومِ تبنّى معهد البروفيسور عبد الله الطيب أمر التأسيس وكوّن إدارةً لبيت الشعر. وفي الأسبوعين الماضيين أثار الشاعر محجوب كبلو أمر بيت الشعر في صفحته بموقع (فيسبوك)، ودار نقاش حول المؤسسة والكيفيّة التي تكونت بها الإدارة، وحول الشعر السوداني بشكلٍ عام، وهل يمكن لـ(بيت الشعر) أن يحتويه؟ (الممر) نشر استبياناً إسفيريّاً شارك فيه عدد من الشعراء والشاعرات بعد أن تلقّى إفاداتٍ من الشعراء: المغيرة حسين حربية، ومحجوب كبلو. واختلفت الآراء في الاستبيان حول الأمر. نتابع ما جرى في المساحة التالية.
بَريِّة الشعر السوداني:
يقول مبتدر النقاش الشاعر محجوب كبلو في إفادته للممر: (يقيني أن الشعر السوداني من كائنات الحياة البرية Wild life، وهو طرف الجدلية الجمالي مع بَحْرِيَّة الشعر الإغريقي في مراتبه الكلاسيكية العليا، وإذا تجاوزنا ذاتية المركز الأوروبي لرأينا الحردلو العظيم وأضرابه من شعراء البريَّة السودانية لا يقلِّون عظمة عن شعراء الإنسانية الكبار من هوميروس إلى سليمان فامرؤ القيس.
لقد ورثت إفريقيا جنوب الصحراء، ما يعرف بالحزام السوداني الكبير، فحولة الشعر العربي بعد أن تخنَّث في الحواضر العربية، وقد أورد السودان فحولة أفراس الشعر العربي مناهل عاميّته البالغة العذوبة. إن مجد الشعر السوداني في بريته كجوهر أساسي في كينونته وهويته. ولا يوجد مرادف مفاهيمي لهذه البرية أكثر انطباقاً من مفهوم الحرية.
للوهلة الأولى، عندما سمعت عن قيام بيت الشعر السوداني استَحْمَقت محاولة من يريد إدخال هذا الوادي القاري الجليل إلى بيت، ولكن لا غرابة؛ فقد أعدّوا قبل ذلك بيتاً للثقافة، بل سموا بيتاً للحرية، وحددوا إقامتها داخل الأسوار). مضيفاً في تعليقه على تكوين الإدارة: (إذا تجاوزنا كل هذا مما لا يمكن تجاوزه إلا بدرجة كبيرة من الانمساخ وفقدان الهوية، وقبلنا افتراضاً بقيام بيت للشعر السوداني، فلا أقل من أن نحتفظ بتذكار من تلك البرية التي جُبلنا من رياح حريتها وأن يختار الشعراء وحدهم من يدير خانهم وينشد دوبيت حانهم).
حوار مثير في الاستبيان الإسفيري:
الكاتبة والإعلامية نعمات حمود، والتي تعمل موظفةً بدائرة الثقافة في الشارقة، موضّحةً الكثير من النقاط ومجيبة على الكثير من الأسئلة في الاستبيان الإسفيري الذي طرحه (الممر): (أعلمكم جميعاً أن صاحب السمو حاكم الشارقة عندما قرر المنحة لبيوت الشعر في جميع الدول العربية لم يضع أيَّ شروط غير أنها منحة لله وللشعراء جميعاً. وقام بتفويض الدائرة للإشراف على هذه البيوت، وقد أسس ثمانية بيوت حتى الآن حيث يزور وفدٌ من الدائرة البلد المعني رسمياً، ويقوم بإيجار مكان مناسب وترتيبه ليكون بيتاً للشعر. في السودان اختلف الأمر، فقد كان المدخل لذلك د.الصديق عمر الصديق الذي كان ضيفاً عند قرار المنحة.. وعبر التنسيق معه حضر الوفد إلى السودان وقامت إدارة جامعة الخرطوم بمنحهم المكان وقاموا بترتيبه وتم تعيين .د.الصديق ليكون مديراً ووسيطاً بينهم، وأن يرعى البيت جيداً لإعلاء الشعر والشعراء جميعاً كما هو الهدف.. وتم تعيين ابتهال محمد مصطفى لتكون سكرتارياً لإعلام البيت، ولكن ليس للشارقة تدخل في النشاطات. هم يعتقدون أن البيت مفتوح لكل الناس الحلوة دون صراع ودون مشاكل وللجميع. أتمنى ألا تثيروا المشاكل وأبسط ما يمكن أن يحدث هو إغلاق أبواب تنفيذ بقية البيوت..) وتضيف: (أتمنى ألا تغلقوا نوافذ الضوء أمام الشعراء فهي كوة لكم جميعا ولآفاقٍ أخرى، والبيت للجميع وليس هناك إدارة وانتخاب وقصص فقط تعيين بترتيب من الدائرة وهذا من حقها). وحول حق التعيين تضيف نعمات في مداخلةٍ أخرى: (البيت منحة، والمنحة لا تتطلب التشاورات والانتخاب، وكل ما يخصه من منصرفات من الشارقة، لذلك مثل هذه الأمور -استبيان وانتخاب وتشاور في امور دولتنا ومن حقوقنا- أما أن تمنح دولة منحة ما فلا يحق لأحدهم التدخل إذ لهم كامل الحرية في تعيين من هو أهل للثقة لديهم، وقد ارتأوا في ابتهال وصديق ذلك، وهم أحرار، ولكن ما أؤكده لكم البيت للجميع دون شروط ما لم يتعدَ أحدهم على المساس بمعتقدات دينية أو سلطة أو غيرها. وقد أُنشئت جميع البيوت للشعراء ولتعميرها بهم دون إقصاء لأحدهم وفي حدود المعقول..). وتضيف أن الخطة تتضمن تأسيس 1000 بيتٍ للشعر في مختلف الدول العربية.
اتحاد الكتاب:
الشاعر بله الفاضل فقد تمنى إن كان هنالك تنسيق مع اتحاد الكتاب بوصفه جسماً يضمّ العدد الأكبر من الشعراء بمختلف أجيالهم وتوجهاتهم، ويضيف: (الشعر، الكائن المسكين، الكائن الذي نحاول كثيراً مصادقته، الإمساك بيده الضبابية وأخذه في نزهة عسى أن يروح عن نفسه قليلاً، يتلاشى ولو مؤقتاً تجهمه، نُلبسه بدلة وكرفتة وندخله عبر أبواب ضخمة إلى قصور وشقق ضائعة ملامحها بسبب الدخان والوجوه العابثة المتجهمة…الخ. ولكنا، حين ننتبه، نجده قد ولى الدبر بهيئته التي لم يصفها أحد، خرج من خلالنا إلى جهات ليست على الخريطة… الشعر الكائن المسكين، الباحث الدؤوب عن أرواحٍ منعزلة ليحضّر شعوذاته غير البريئة بها، إن الشعر هناك، حيث لن يعرف الطريق إلى الذي به أحد…)
الواقع الثقافي والسياسي:
تقول الشاعرة نجاة عثمان التي أدخلت الواقع السياسي والثقافي في الأمر: (بؤس الواقع السياسي يؤدي إلى حالة تشبه التعلق بقشة.. واحتفاء زائد بأشياء لا تمثل تلك الأهمية بحسن نية أو غيرها. في أوان الواقع السياسي والثقافي الحاضر أصبحت المِنَح والمنظمات والمبادرات الخارجية هي محج للكثير من الدول والتيارات. ما يظهر للعلن هو الاحتفاء بالمثقف السوداني الذي لا يمتلك القدرة على الاحتفاء بنفسه لبؤسه وواقعه المرير، لو كان لنا مؤسسات تهتم بنا لما أصبحت المنح مفرحة للبعض. ولكن كل الأنشطة السياسية والثقافية في السودان تسيّرها الهبات والمنح والمنظمات؛ حيث لا جسد لنا ليحمل أحمالنا وهمومنا وأشياءنا، ولعل الاستغراب عندي يكبر لأجد الكثير من المثقفين يحاول إسباغ حالة نبل كبيرة على بعض التوجهات. من يمنح من المؤكد له أجندته أياً كان، مهما فرزنا الكيمان، والعمل الخيري يأتي لدرء كوارث أو بناء مدارس وإلا لما استثنت المنظمات الأجنبية في أغلب الأحوال الصحة والتعليم. الكُتَّاب المسئولون التزاماً بنوا منابرهم بأنفسهم بحجم إمكانياتهم حتى وصلوا للعالمية، والمثال لذلك الشاعر المناضل محجوب شريف. يمكننا ويجب علينا المشاركة في أنشطة الشعوب تضامناً أو تمثيلاً كشعب حتى نتجاوز النظام غير الديمقراطي).. وتضيف: (اسألوا أنفسكم: هل ذهب وفد شعبي ليطلب المساعدة في إنشاء بيت الشعر؟ وإن حدث فمن هم؟ وبعد كل هذا من يريد المشاركة فهو حر، وهذا بقدر التزامه وفهمه للمشاركة. والجميع أحرار في الرفض أيضاً، لكن لو لا الشعراء فلا وجود لبيت الشعر. ومازلت أحتفي ببيت للشعر من خلال اتحاد الكتاب السودانيين. على ألا يقبل الاتحاد المنح المشبوهة)!
وفي ذات الاتجاه، تداخلت الروائية والشاعرة كلتوم فضل الله قائلةً: (كثير من الدول الصديقة تقوم برعاية أنشطة اجتماعية فلا عيب في ذلك. أما المشكلة الحقيقية في مثل هذا التوجه -والذي تتبناه مؤسسة تابعة للدولة- فإنه يصب في نفس الإشكاليات الجمة التي تميَّزت بها حكومتنا ولا أتوقع من هذا المشروع في الأيام المقبلة سوى فَلقة في رأسنا جديدة فحواها أن الدولة اهتمت بالشعر والشعراء، ووفرت لهم ما لم توفره عصاية موسى ويكون هناك نمط من المطبلين حول المسألة فلا يكون سوى تكرار لما يحدث من تبنيات فارغة. أما للمؤسسة التي تتبنى هذا الفعل فقد أتت في وقتٍ غير مناسب لتفعل هذا الفعل في بلادنا ذات التوجه الأحادي في هذه المرحلة).
آراء مضادّة:
لتوضيحٍ أكثر تداخل الشاعر محمد آدم بركة موضحاً جوانب غائبة: (في رأيي فكرة الاستبيان منطقية جداً، وحق مكفول لمن يريد، ولكن -وهذا قبل إطلاعي على إفادة الأستاذين محجوب كبلو، والمغيرة حسن حربية- دائماً يأتي الاستبيان عندما يكون هنالك خرق لأسس، أو قوانين أو ضوابط عامة، وجب الاستبيان لأخذ رأي أهل الشأن من الشعراء، وهذا ما لم يحدث في بيت الشعر الخرطوم المنشأ في 12/11/2016م الماضي، وفق مبادرة سمو الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة التي تحكمها لوائح وقوانين وأفكار وتطلعات تخص الشارقة وحدها، وهي من تتحكم في شؤون الاختيار والإنشاء، بيت الشعر الخرطوم لا علاقة له بمعهد العلامة عبد الله الطيب الذي يديره الدكتور صديق عمر الصديق، فقط تستضيف جامعة الخرطوم وفق بروتوكول مسبق لوفد الشارقة وإدارة الجامعة ووزارة الثقافة، وأهل الشارقة من اختاروا موقع البيت، لا أود الحديث عن معايير أهل الشارقة في اختيار من يدير لأن الأمر سيقودنا لمنحى آخر، لكنني أشير إلى أنه لم يوجد حتى الآن بيت من بيوت الشعر أُنشئ بالتفاوض مع الشعراء وانتخاب إدارته، هذا لأن الشارقة لديها طريقتها في المتابعة الدقيقة لتحديد من تأتمنه على البيوت، فاختاروا لبيت السودان د. صديق مديراً، وابتهال محمد الصطفى منسقاً للنشاط ونائباً للمدير، وحتى الآن لم أَرَ أي مظهر من مظاهر الإقصاء أو التحيز لأفكار أو شخوص، أتى من أتى من الشعراء ولا تزال الوفادة مستمرة، فمن رأى أن يكون الاستبيان مباشراً مع إدارة البيت للتبيين إن كان هنالك غموض).
ويقول الكاتب الصحفي حسين ملاسي: (ليكون بتفويض من الشعراء لابد أن يكون للشعراء جسم معترف به ينتمون إليه، ثم ينالوا من بعد ذلك عضويته.. لذا وحتى ذلك الحين، من هم الشعراء!؟).
في حين قال الشاعر حسن عثمان: (اختلاف الكيانات الشعرية لا يفسد للود قصيدة، علينا أن نتقبل الآخرين وأن نطرح ما لدينا بسعة صدر وسعة أفق، مثلما تقبلنا في يوم من الأيام كيانات متعددة لغرض واحد، أعني اتحاد الكتاب السودانيين/ رابطة الكتاب السودانيين/ الاتحاد العام للأدباء والكتاب السودانيين، بجانب كثير من الكيانات التي يلتئم تحت مظلاتها الصحافيون).
يقول الصحفي حافظ أنقابو: (أنا ما عارف ليه الناس بتحاول تقتل المبادرات في مهدها.. خصوصاً المثقفين..! حكومة الشارقة مهتمة بالثقافة والفنون، وتولي السودانيين اهتماماً كبيراً جداً، وما تقوم به وزارة الثقافة السودانية لم تقم ولو بجزءٍ يسير منه. يجب أن نشكر إمارة الشارقة على جهودها واهتمامها بالمثقف والفنان السوداني أولاً). ويضيف: (مبادرة بيت الشعر بالتأكيد ستكون في مصلحة الشعر والشعراء السودانيين.. ويجب دعمها والالتفاق حولها، والاستفادة منها ومن البرامج التي ستطرحها. وهنا أطرح سؤال: هل خطت إدارة بيت الشعر أي خطوة من شأنها إقصاء أو الانتقاص من أهل الشعر؟ الإجابة على هذا السؤال تقودنا إلى نتائج أخرى مطلوبة. أما فيما يتعلق بتكوين الإدارة فهو أمر متروك للجهة الممولة وتقديراتها، لأن التجارب مع “السودان” -هكذا يقول الذين عملوا أو مولوا مشاريع- غير مشرفة، قد تكون معاملات مع الحكومة أو منظمات مجتمع مدني)!
الشعر نقيض المؤسسات:
فيما يرى الشاعر المغيرة أن الشعر نقيض للمؤسسات، إذ يقول في إفادته التي نختم بها هذا الحوار: (الشعر، أبداً، ضال. نقيض البيت والمؤسسات السلطوية المتكلسة، بري بالضرورة وبطبيعة الحال، نقيض النواميس إذ أنه يضع قوانينه البرية الفالتة هدى لمسيرته في الآفاق المجهولة والغامضة.
تعلَّم الشعر، ليخلد، الفَلَتَان من كل أسر. تعلم أن يقفز فوق الجدران ليعيش، حراً، في برية موحشة، شاتية وبعيدة لا تطاله تدفئة الدجنة.
الشعر، الذي نعرفه ونفهم حركته الفجائية الملتبسة، لا يرضى أن يعيش تحت سقف موصد وخفيض، لن يرضى أن يحكمه مجال محدود، ولا جماعة مهنية ترهنه لعراب وحيد بمقولة واحدة، إذ لا أنبياء للشعر، لا عرابين ولا نهاية للشعر أبداً، فما بالك أن يدّعي البعض أن يسوّرونه بدَانْقيل السلطة ومشايعة المناصب.
الشعراء لا أسريون، تلفظهم البيوت باكراً وتطردهم لبريات هم اختاروها بمخض إرادتهم. جائلون في الضلالة مارقون عن كل عرفٍ سائد، الشعراء أبناء الخلاء، ليسوا خديج الأمكنة ولا يطلبون وشائج دمٍ مكررٍ وبارد لأنهم أحرار النسب، مقطوعين، وأولاد الأمل المنبوذ.
الشعراء، حيوات كاملة، غريبة وشاذة وطائشة ولا معقولة حتى. لا أخفي عليك، أن بيتاً للشعر السوداني كان واحداً من أحلامي الكبيرة، ناديت بذلك منذ وقت طويل وسط أصدقائي من الشعراء، ولكن كنت أتصوره بيتاً غرائبياً مختلفاً، لا تحدّه جدران ولا يسقفه قانون أو لائحة، تخيلته حديقة للشعر والشعراء والجمال، حديقة غير مهذبة، تطل، كل زهرة فيها، من أفقٍ مغاير، برائحة جديدة ولون مختلف. هكذا تصورته: فضاء بلا نهاية، على النيل ربما، وغرفة من خشب مضمخة، مسرح عشبي وصبيات ، كجنيات من سنار الأولى يحملن القصائد، على أوان مُذهَّبة، يطفن بها بين الناس. تخيلته حشداً للشعر والحرية والحب، للموسيقى وللتشكيل، لكل ما هو سري ومجهول وبديع.
الشعر السوداني، بطبيعته فالت ولا بيتي، منذ مهاجري البطانة وإلى استشهاد بهنس في صقيع القاهرة، وإلى شهداء كثيرون غيره لم يجدوا ما يسدون به رمق الحال، ذهبوا راضين عن شعريتهم ولا يسألون أحداً إلحافاً، يفهمون أنهم شَيَّدوا بيوتاً، مهلهلة، في خلاء بعيد وموحش، لكن خالدة في ضمير الناس والعالم).
_______________________________________________
* استبيانٍ إسفيريّ طَرَحه (الممر).
** شاعر وكاتب من السودان
*** تم النشر تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تصدره جريدة السوداني