زهرة الصبّار الخرطوم تكتب وتقرأ وتنشر
(1)
ضمن التطبيقات العمليّة واقعة الحدوث، حول تفاكيرنا بخصوص “السلطة الفرديّة” وتطور أدوات التثوير الفكري -لا السياسي- عبر انفتاح الفضاء الكوني أمام الإنسان؛ فإن الخرطوم استطاعت أن تنهضَ مركزاً ثقافيّاً مُشعّاً رغم جميع القيود واللا دعم وعدم الاكتراث والمُحاربة، الأدهى: إغلاق منافذ النور والمعرفة، منذ اتحاد الكتاب السودانيين المولود حديثاً للمرّة الثالثة، مروراً بمركز الدراسات السودانية، وليس انتهاءً بذكرى وفاة (معرض بيع وتبادل الكتاب المستعمل: مفروش) لجماعة عمل. يمتدّ ذلك إلى حظر الكتب دون مناقشةٍ حتّى، والحظر في عالم اليوم، كما نعلم جميعاً، أصبح فعلاً لا قيمةَ له مع وجود الواقع الافتراضي. رغم ذلك، وغيره من تبجّح كاتبٍ يُشعّ نجوميّةً كنجوميّة “الممثلين السينمائيين” (كما قال في حواره بصحيفتنا (السوداني) مع زميلنا سابقاً خالد أحمد)؛ تبجّحه وفرحه بنجاحاته التي حصرها ونسبها، للأسف، في كونه سافر وغادر الخرطوم القاتلة، ووجد جنّة الكتاب في القاهرة، بل ودعا الكتاب في الداخل للخروج، وحذّرهم من أن الذي سيظلّ في الداخل ستموت أعماله وتختنق.
(2)
رغم أنفِ الرُغم؛ والحرب المكثّفة لعشرات السنوات ضدّ الثقافة، وعكس ما كان يحدث في الدول من حولنا في الثمانينات والتسعينات وحتى بداية الألفية (ما قبل الربيع العربي)؛ أيّام كان ينتظر الكاتب السوداني اعترافاً من تلك المراكز الثقافيّة ذات المؤسسات العريقة، في خضمّ كل هذا ظلّ الفنانون والكتاب في السودان يحملون رايةً ويبذرون بذور المستقبل التي أثمَرت اليوم بأقوى مما تصوّرنا، يعملون مجاناً ويدفعون من جيوبهم لإبقاء جوهر العمل الثقافي مشعّاً، وهو لجوهرٌ فريد. أريد أن أقول، إن الجوهر الذي أشرقت منه الخرطوم، كمركزٍ ثقافيٍّ أهليٍّ حديث، في أصله مُقاوِم، وشهيد. ففي حين استسهل البعض الركضَ خلف المراكز الخارجية، ظل الكثير من الكتاب والفنانين، يعملون بجد ويقدّمون معرفتهم للأجيال بلا مقابلٍ ولا منٍّ ولا صراخ وضجيج! ونرى دائماً بذورهم تُثمر بلا شك، فالقانون طبيعي: إبذر بذرة فستنمو شجرة. بذور تميّزت بجذوةٍ قلبيّةٍ فائرةٍ أبداً.
(3)
رغمَ أنفِ الأنف: تصاعد المدّ الثقافي في كل مناحي الحياة، وأصبحت الكتب والمجلات تصدر من الخرطوم وتطوف معارض العالم القارئ بالعربية؛ فمؤخراً شهدنا أعداداً مذهلة من مجلة (الحداثة السودانية)؛ تصميماً وتحريراً ومواضيع؛ تفكيراً وإنارةً من المفترض أن تُغذّي أذهان النُخب السياسيّة التي لا شاغل لها سوى التطاول على بعضها البعض؛ السخرية والتقليل من الشأن -هداهم الله- ثم دار (المصوّرات) التي أصبحت رافداً مُغايراً للمكتبة السودانية، بأعماقٍ لم تَحدث من قبل، وبانفتاحٍ على كلّ جديدٍ ومُغاير، والمكتبة ذاتها – جنباً إلى جنب مكتبة الوراقين حديثة الولادة أيضاً- تستحق الإشادة بالعناوين المُستجلبة. فقد أصدرت دار المصوّرات ما يفوق الخمسين عنواناً في فترةٍ وجيزة، أغلبها لأسماءٍ جديدةٍ تماماً، تدعو للفخر وأنت تراها تَشدّ الرحال لتَبثَّ الإنتاج والثورة الكتابية السودانية إلى العالم، قادمةً من قلب الخرطوم.
(4)
أصبحنا نطالع أعمالاً لكتابٍ يجايلوننا من دولٍ لم نسمع عنها شيئاً بفضل الاتفاق الذي جرى بين دار (الكتب خان) في القاهرة مع مكتبة الوراقين في الخرطوم، هذا التعاون الذي سيستمر بقوّةٍ يدعمها وجود مُترجمين سودانيين من بين المتعاونين مع الكتب خان. وصلني كذلك نبأ التحضيرات النهائية لولادة جيل جديد من النصوص والأعمال الفنيّة ضمن الكرّاسة الخامسة لمجلة (إكسير)، نهنئ القائمين عليها ونشدّ من حلمهم، وأقول أن ما يقومون به من أهوالٍ ستجدُ قاعدةً مذهلةً لتلقيها واحتضانها.
(5)
والآن نرى أن مهرجان السودان للسينما المستقلّة قد جعل من الخرطوم، فعلاً، مدينةً دوليّة. هل تعلمون ما يعني أن تكون مدينة التقاء النيلين مُضاءةً ثقافيّاً بجهد أبنائها؟ نشدّ من أزر وزارة الثقافة ممثلة في الوزير الأستاذ سيد هارون، للتعاون مع سودان فيلم فاكتوري، منظمة المهرجان، بطريقةٍ إيجابيّة. لقد تشرّفت الخرطوم بمشهد القطارات المُضاءة، واستقبلت زواراً من العالمِ رأوا جمالها، واستمتع أبناؤها، ولا زالوا يستمتعون، من خلال الشاشات، بجمالها وجمال العالم كلّه، من خلال فن السينما. ننظر أيضاً بفرحٍ غامرٍ لما تقوم به جماعة الفيلم السوداني من مشاريع سينمائيّة شعبيّة، وما أصدرته مؤخراً من كتبٍ قيّمةٍ جدّاً، ومجلة سينمائيّة ننتظر أعدادها القادمة. أما إن خضنا فيما تُحدثه الكتابة والفنون السودانية من خلال الوسائط العنكبوتية، فلن نَخلصَ إلى الأبد. عموماً، نحيي مجلة (البعيد) الإلكترونية، الصادرة من السودان، وينشر فيها كتاب العربية كلّ بقاع الأرض.
(6)
إن حركةً ثقافيّةً تنبع في صحراءٍ جرداءٍ تُناصبها العداء لا بدَّ أن تنمو صبّاراً هائلاً ومكتنزاً بكلّ غريبٍ ومُغاير، شكلاً وظلاً ومضموناً، يظهرُ ذلك في (زهرة الصبّار)، والتي ما رأت عيني أجمل منها في الحياة.
* شاعر وكاتب من السودان
* تم نشر هذه المادة تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.