ثمار

الطريق الآبِق

محمد حمد

أعتصرُ ذاكرتي كقميصي المُبتلّ في محاولةٍ للتذكُّر: سهام.. سناء.. ربما سهى. الذّاكرة تمور كحفل صاخب الملامح، تتحقّق بصعوبة، أنت نفسك، من وجودك فيه. أمدّ يدي ونصِفَ ضحكة لتمرير حرف السّين مضغوطاً مع حروفٍ مبهمَة مُراعياً متوسّط المخارج الثلاثة لإيهامها؛ لكِنها ضبطت أوراق الغِشّ في صوتي. تهزُّ رأسها لتطلي وجهي بنظرة لَومٍ مرح وتنتظر اسمَها كأنه وديعة. مضى نصف زمن صمتي على أسئلتها الإجبارية، برغم استدراجها لذاكرتي بزمان وأحداث مواربة تتعمّد إخفاء عنصر المكان إلى أن يئس وقوفي، وأخيراً نصَبَت مفردة (كسَلا) بصوتٍ خفيض كخيام (الرّشايدة) وبأحرفٍ متباعدة الأوتاد. مقلتاها تبرقان، ونيوترونات دماغي تُضاء خلية إثر أخرى. نعم؛ هي من قطعت اتِّكاءتي على صخرة رحيمة تعلو جبل التّاكا، حيث أرمق شفقاً ذهبيّاً متدرّج الألوان خلف دوائر بخور (الجَاوْلِي) الُمعَدّ مع طقوسِ القهوة، عندما كانت الشّمسُ الفاترة؛ تفّاحةُ السّماء، تغوي بها أديم الأرض، يدي بها سيجارة رخيصة يعانق دخانها كثافة دخان البخور في رقصةٍ بذيئة ويذهبان جفاءاً ؛ لتبقى نكهة البنّ العتيقة تتسكّع بداخلي.

– لو سمحت ممكن تصوِّرنا؟.

– جداً، نطقتُها بتكاسُل احتجاجاً على اقتحامها هدوئي. كانت برفقة عريس وعروس متواضعة الجمال، تراصّوا ثلاثتهم بابتسامات مؤقّتة تخصّ التّصوير. بعد أن أخذت لقطتين لصورة خلفيّتها سلسلة الجبال والأخرى مقهى، أعدتُ الكاميرا. ذهب العروسان لأمرٍ ما ووقفنا نفتعل الأحاديث كما يحدث في حلبة الرّقص بين أغنية وأخرى للوقوف بدون مهام، أو لتبرير عدم إجادة الرّقص.

– أنت من هنا ولا ضيف؟.

– أنا ضيف.

– وين نازل؟.

– نازل هنا في الجبل دا .

– ضَحِكَت بشفاهٍ مرحة: طيّب جاي كسَلا هنا عشان شنو؟.

ذهَبَت بالحوار حيث لا أرغب، فقلت على الفور: (لستُ أدري)، وأضفتُ: (أنا هكذا، كعادة الطّريق والنّفس الأمّارة بالسّفر، أمضي. ما يوقفني هو ثمن تذكرة إلى مكان لم أزُره مسبقاً).

– قالت باندهاش: أين تقضي اللّيل؟.

– قلت: (لا أدري ولا أفكر في ذلك؛ لأن أيّ خطط مسبقة في سفر كهذا تُفقده روح المغامرة).

دعتني إلى المبيت في منزلهم على استحياء، أو كمقترح لا يُرجى تنفيذه. اعتذرتُ بأن لي هنا أصدقاء كثر ولكني لا أقصدهم ؛ أنا هنا متبتّل لوجه السفر، وأحبّ اكتشاف الأمكنة لوحدي. اتّهمَتني بالجنون، وردَدْتُ التّهمة بأنّ عينيها نهران من القهوة. تبادلنا التّهم وأرقام الهواتف، ذهبَت جهة العروسين وغابوا في هاوية اللّيل. رجعتُ إلى صخرتي محاولاً استعادة هدوئي الدّاخلي. أشعلتُ سيجارةً أخرى وطلبتُ قهوة. بدأ الناس ينزلون عبر المدرج الصخريّ إلى كلّ فجٍّ عميق، مكثتُ حتى توحّدتُ مع اللّيل والصّمت والجبال، داعبتُ نفسي أحياناً لأحسّ بشموخي فوق الجبل وأحياناً لأجد ضآلتي بين الصّخور!، نَويتُ المبيت في الأعلى لولا أنّ فراغ معدتي أجبرني على النزول درجاً عن درج. انتظرت في المحطّة قليلاً وركبتُ دون سؤال فالحافلات لا مصبّ لها غير السوق، وإن كان لها خيار آخر فليس لديّ ما أخسره. جلستُ بقهوه (الريّاضيّين) التي سمعتُ بها من قبل عند أصدقائي فغادرتُها إلى قهوه (باكاش) خوفاً من ملاقاة أحدهم ثمّ إلى (أم الحفر) للأسباب ذاتها. فكّرت بالرّجوع إلى الجبل وعدّلتها بالذّهاب للنوم في منتصف طريق نهر القاش الموسميّ أسفل الكوبري تماما ؛ اتقاءاً لسياط شمس الغد. وضعتُ حقيبتي الزّاهدة تحت رأسي، حقيبة بها قميص وبنطال نصف نظيف، ونصف زجاجة من الفلكلور الحبشي، وديوان (غرفة بملايين الجدران) لمحمد الماغوط. ثملتُ حتى غصتُ داخل الرّمل وتلاشيت. فتحتُ عيني بما تبقى فيهما من كوابيس مزعجة وشخوص متداخلة. ما زلتُ مستلقياً والكحول كرواسب كربونيّة تلتصق بجدار معدتي. أعدتُ ترتيب حقيبتي وغادرت ماشياً. صادفتني حدائق اكتشفت في ما بعد أنها السّواقي الجنوبية. دلفت وقمت بما يشبه الاستحمام في خرطوم بلاستيكي عريض مربوط في مضخّة البئر. قطفت برتقالة أملاً في إذابة ذلك الجدار قليلاً. تجوّلتُ بحثاً عن قدَّاحة لم أجدها، وفي الشّارع الموازي للحدائق، وقفَت بجانبي عربة بوكس مكتظّة بالبشر، تبيّنت من صمتهم وعدم تجانسهم أنّها للرّكاب فركبتها لتُوزِّع ارتجاجَها عبر طرق ترابية إلى خارج كسلا تلقاء قرى (اللفّة) و(آدم بشارة) و(تاجُوج)، وعلمتُ أن مدينة (تَسَني) الإرتيرية أقرب من كسلا!، تحسّست جُزْلاني وطفقت بالحسرة!. رجعتُ إلى السّوق في الثالثة عصراً متزامناً مع وقت وجبة السَّلَات، وأثناء الأكل أخذ هاتفي في الاهتزاز لمرّتين، لم أكترث حتى لرؤية رقم المتصل حرصاً على طقوس الرحلة، فأنا لا أريد (أيادٍ خارجيّة) تفسد نشوة عالمي المنسوج وفق هوى اللّحظة. أخرجتُه كي أغلقه، فاهتز مرة ثالثة!؛ إنّها (نحلة الجبال) كما دوّنها سجلّ هاتفي، تسأل لتُرضي فضولها فأرضيت غموضي. ولتحديد لقاء مع النساء يمكنك مقايضة شهر كامل بساعة غموص!. صعدتُ المدرج متجاهلاً تأخُّرها، فالانتظار رهان النساء، من أجل تكثيف قلق الترقّب بداخلك. تسكّعت بين صخور نُقِشت عليها تذكارات من فلان وعلان في يوم كذا وكذا. اخترتُ صخرةً بعيدة لكتابة تذكاري، أحسستُ بالسّذاجة واكتفيتُ بالتبوّل خلفها. أشَّرت بيدي لتنبيهها إلى مكاني ولتنظيف الفراغ لابتسامتها. انتقت جلسةَ من يريد مشاهدة فيلم معقد الإخراج، طلبت عصير مانجو متبوعاً بقهوة كاملة الطقوس، بادرَت بتعريف نفسها بأنها… ـ لا أذكر ـ تسكن بحي الختميّة القديمة، وأضافت بقليل من الزّهو إنها تدرس بكليه الآداب بجامعه الخرطوم، فاكتفيت بزهوها، ولم أقل أنا أدرس بكلية مجاورة لتجنّب كثرة الأسئلة.

– إنتَ أصلاً من وين؟.

– أنا أصلاً أجزاء موزّعة على مدن وقرى بعيدة!.

 ردّت بسخرية:

– حتكتمل متين؟.

– عندما تذبل شهوة السّفر المتّقدة في نفسي حينها سأكتمل.

– إنتَ فيلسوف ولا شنو؟.

– أنا لم أكتمل بعد لأكون فيلسوفاً!.

يُوغِل الحوار عميقاً ونبرات الصّوت تنخفض مع نزول الشّمس لآخر خيط ضوء هامس اختلط بأنفاسٍ حامية. أصرّت على أن أشرب من عين ماء توتيل لأرجع مرة أخرى كما تقول أسطورتهم، فشربت وفي بالي الحقيقة، فأغاني البجا عميقة الشّجو تُذيب الصّخور لتتجمّع تحت توتيل ؛ لذا سأرتوي بالمكان لا بالماء. ارتدتُ السّوق لمقايضة هاتفي بثمن تذكرة الرّجوع إلى الخرطوم، سَهرتُ حتى هفهفات الصّبح أسفل إنارة عمود كهرباء بحي الميرغنية، ولم يبخل أعدائي وحلفائي في لعبة الورق بكاسات حبشيّة. دوخة خمر ونعاس يتسرّب إلى ذهني، كأنّ أجفاني مرتعٌ تتمرّغ فيه أفيال مسترخية، ولكن؛ لا خيار لي، سأقاوم للحاق ببصّ السّادسة، فمواعيد وصولي ومغادرتي لا أتدخّل فيها بل يحدّدها مؤقّت خاصّ كالذي يتحكّم في مزاج الطّيور. ترجّلتُ بخطوات مغنطيسيّة أجترّ ساقَيّ كخراف عنيدة إلى السّوق الشعبي، حيث صيحات دَلَّالي البصّات تتساوى في مضمونها برغم اختلاف البصّات. وفي الشبّاك المزدحم حصلتُ بصعوبة بالغة على تذكرة ، بحثتُ عن رقم البصّ المدوّن على التذكرة، وبتثاقل بالغ بحثت عن المقعد 32 وأغمضتُ عينيّ قبل أتوسّده. أحسّ بتحرّك البص أثناء نومي، وأحياناً أفتح عينَيّ بتكاسل شديد، تحديداً في فترات التعرّجات الحادة للطّريق. ضغَط السائق على الكابح بقوه في تخطٍّ فاشل، أزحت ستارة النّافذة، تراءت لي الاتجاهات معكوسة، ردَدْت ذلك إلى إرهاقي، فأخرجت التّذكرة لأعرف زمن الوصول. التذكرة مدوّنة كالتالي: (سفريات التيه). (كسلا ـ بورتسودان). بورتسودان!!!، هكذا إذن الاتجاه صحيح، ولكن عكس توقعاتي. انفلتت مني ضحكة هازئة يبلّلها فرح دافق، أزحت المقعد إلى الخلف ونمت.

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى