ثمار

أنقذوا الشعر من هؤلاء!

(1)

قالت روضة الحاج، بطريقةٍ تنمّ عن سذاجةٍ واسعة المجال، أن شكلاً من أشكال الشعر من الممكن أن يفتحَ الباب لـ”عاطلي الموهبة”. وكأن الباب أُغلق عن بقية الأشكال! تذكّرت هذه القصة الطريفة التي حدثت مع الشاعر الكبير خالد حسن عثمان، قبل إصداره لديوانه الأول (تماثيل). استأجر ركشة وبدأ السائق بالثرثرة. خالد صامت والرجل يُثرثر، بعد مدةٍ من الزمن سأله: وانت يا أستاذ شغال شنو؟ فردَّ خالد: شغال شاعر. ودون أن يلتفتَ إليه أعقب سؤاله: عندك كم ديوان؟ فردّ: لم أطبع بعد. فأوقف السائق ركشته وأجال سبابته على جميع الماشين في الشارع وقال: “شايف الماشين ديل؟ ديل كلهم شعرا”.

أخبرني خالد بعدها أن هذا الاستفزاز بالذات هو الذي دفعه لإصدار ديوانه الأول. وما أريد أن أقوله هو أن كُلَّ سودانيٍّ، في لحظةٍ من لحظات حياته الطويلة، كَتَبَ الشعر، ويمكنك التأكد بسؤال أيّ شخصٍ بجانبك. أغلبهم يتركونه لمعرفتهم بالتشابه الشعري وعدم تفرّده، أما العاطل الحقيقي عن الموهبة، فمن المستحيل أن يُقنعه أحدٌ بأن شعره رديء، وروضة الحاج هنا تنتصبُ مثالاً رائعاً لا يُجارى.

(2)

من المستحيل أن يحكم “شكل” الشعر على جوهره، فروضة التي تكتب بأشكالٍ ترى أنها مقدّسة، من أردأ من كتب الشعر بهذه الأشكال؛ فهو سطحي لدرجة تفوق الخيال (هنا فقط تكمن شعريّتها) يعتمد على اللعب اللغوي، أما عن الصور فحدث ولا حرج. لم تجد روضة، خلال مسيرتها، من يُنقذها من الشعر، أو يُنقذ الشعر منها، وعندما فازت في ما يُسمّى بأمير الشعراء (من أسوء الجوائز الشعرية العربية بالمناسبة) نالتها بالمدح الذي يُشبه الذم؛ التباكي على “العروبة” بتبطينٍ مَدحيٍّ دفع باللجنة إلى انتخابها. حسنٌ، تعتبر روضة أن الاشتراك في المسابقات الشعرية والأدبية هو البوابة المناسبة لكلّ الشعراء لكي يُصبحوا أماجد، والمجد الشعري عندها مرتبطٌ بالشهرة للأسف.

(3)

الشكل الشعري الذي فتح الباب لعاطلي الموهبة – حسبها – هو ما سمّاه النقاد بـ(قصيدة النثر)! وكأن قصائد التفعيلة والشعر العمودي لم تمتلئ بعاطلي موهبة مُعجزين في “عَطَلتهم”، ألم تكن روضة نفسها بوابةً كبيرة لعاطلي الموهبة؟ فبدل أن تتحدَّث عن شعراء بعينهم قامت بتعميمٍ لا يصدر إلا مِمَّن ظنَّ في نفسه التفوق وعلو الكعب، وهذه هي المصيبة. كمتذوّق للشعر لم يلفتني بيت شعرٍ واحدٍ لها، ولا أستطيع تذكر اسم كتابٍ أصدرته. بالنسبة لي تمثّل روضة التعطل الحقيقي عن الموهبة. هكذا: (ذوقي وأنا حرّ فيه) كما يتغنّى المصريون.

إن الذي يحدث ببساطة هو ثورة في الكتابة، وجدت روضة نفسها خارج حدائقها وقد تجاوزها الشعراء ولم يعودوا يأخذونها على محمل الجد. اليوم، بتصريحاتها الأخيرة، تدعونا، نحن مُحبّي الشعر، إلى عدم أخذها بمحمل الجد فعلاً، هذا الشعور الذي أحاطني تماماً وأنا أقرأ تصريحاتها للزميلة (الرأي العام) في حوارٍ مع الشاعر محمد نجيب محمد علي:لقد ضحكت بصوتٍ عالٍ جداً.

 (4)

مثال روضة الحاج يُذكِّرني بما خطّه الروائي ديستوفيسكي في كتابه (الأبله) عن ما يُسمّى بالإنسان العادي، وقد قسّمه إلى فئتين، يقول: [فأما الأولى فهي فئة الأفراد المحدودين وأما الفئة الثانية فأفرادها (أكثر ذكاء). إن أفراد الفئة الأولى أسعد من أفراد الفئة الثانية. إن الإنسان (العادي) المحدود الذكاء يستطيع بسهولة أن يظنّ أنه فذٌّ وأصيل، ويمكن أن يطمئن إلى هذا الظن ويسعد به. (….) هذه حالة مُدهشة يُمكن أن نصفها بأنها وقاحة السذاجة إن صحَّ التعبير. ونحن نُصادفها دائماً رغم ما قد يبدو من أنه لا يُصَدَّق وجودها في الواقع. إن هذا النوع من الإيمان الساذج المتكبِّر الذي يُلاحظ لدى رجلٍ أحمق لا يساوره شك في نفسه ولا في موهبته، قد وصفه جوجول وصفاً رائعاً في النموذج المُدهش؛ نموذج الليوتنان بيروجوف. إن بيروجوف لا يُراوده الشك في أنه عبقري؛ بل أكثر من عبقري. وهو يبلغ من قلّة شكّه في هذا أن السؤال كلّه لا يطرحه على نفسه أصلاً؛ عدا أنه لا شكّ لديه البتّة.وقد رأى الكاتب الكبير نفسه مضطراً، آخر الأمر، أن يؤدّبه بعقوبة الجلد، إرضاءً للشعور الأخلاقي لدى القارئ. لكنه لاحظ أن بطله لم تؤثّر فيه العقوبة كبير التأثير، ولم يَزد بعدها على أن نَفَضَ جسمه، وأخذ يأكل فطيرة صغيرة استرداداً لقواه، لذلك لم يملك الكاتب إلا أن يهزّ كتفيه ويترك قراءه حيث هُم. لطالما أسفت على أن جوجول جعل رتبة بطله بيروجوف رتبةً منخفضة، ذلك أن هذا الشخص يبلغ من امتلائه بنفسه أنه لا شيء يمنعه من أن يظنّ نفسه قائداً عظيماً على قدر ما تضخّم الشارات على كتفيه بحكم القِدَم في الخدمة والارتقاء في الوظيفة.

ماذا قُلت؟ أَقُلت يظنّ نفسه؟ أَلاَ إنه كان سيؤمن بذلك إيماناً لا يراوده فيه أي شكّ: فما الذي ينقصه، إذا هو سُمّي جنرالاً، من أن يكون قائداً عظيماً؟ وما أكثر الذين يخفقون بعد ذلك إخفاقاً رهيباً في ساحات المعركة؟ وما أكثر أمثال بيروجوف الذين وُجدوا بين الأدباء والعلماء وأصحاب الدعوات منّا؟ وُجدوا؟ بل وما زالوا يُوجدون حتماً).

* كاتب وشاعر من السودان 

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تصدره جريدة السوداني

مأمون التلب

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى