كشف الغواية
سِماتْ التناظر في البنيان السردي
موسم الهجرة إلى الشمال
في ظني أن عملية التلقي تظل عملية مُعقدة وتختلف من شخص لآخر، وإن كانت تبدو لي في شكلها البسيط عبارة عن :الذهاب مع قصدية النص كما تتمظهر في وعينا ومن ثم يمكننا البدء بإنتاج الدلالات والمعاني. كل ذلك مفهوم تقريباً وبالتالي فإنني لا أسعي هنا لتوضيح أي معنى ولا لاستكشاف أي دلالة للنص، وقد يصاب القارئ بخيبة أمل إن كان يبحث عن معنى جديد، أو تأويل حديث في هذه المقالة عن رواية موسم الهجرة إلى الشمال، ولذا وجب أن أوضح ذلك، فلا أظنني أفعل هنا أكثر من إبراز بعض الملاحظات والاستكشافات حول الشكل فقط، وليس بحثاً حول المعنى. فمالذي تستطيع هذه المقالة أن تقوله ؟ .
أكثر من مرة، وأنا أطالع رواية الطيب صالح –موسم الهجرة للشمال- ينتابني ذلك النوع من الشعور باللذة الغامضة، لذة تأتي من مكانٍ ما، لا أدري أين يقع بالتحديد، وكنتُ أترك نفسي مأخوذاً بمتعة القراءة والانسياق خلف ما تثيره فيَّ من إدهاشات ومتع متتالية، وبات بالتالي من الصعب جداً الخروج من هذه الحالة والنظر الموضوعي لفهم ما يحدث، ولماذا وكيف؟ منذ أيام الدراسة المتوسطة في مدرسة مدني الأميرية، في بدايات التسعينات، وأنا مجرد درويش أتمرغ في أضواء تلك الحضرة الأدبية صاغراً أمام هالتها البديعة، فاغراً فمي والعينين على اتساعهما لعلِّى أرى شيئاً، ولكن البريق كان يُعمي وكثافة الجمال تبهرني حد العجز عن النطق وطرح الأسئلة.
انتبهتُ في قراءتي الأخيرة لشيء ما يتحرك داخلي وأنا أتجول بين السطور، وللمرة الأولى أجد نفسي أتجاوز لعبة المعاني والإشارات وقصدية المؤلف وأجواء الرواية وجماليات الوصف وشاعرية المسرود وما تطرحه من رؤى وتأويلات ممكنة الخ…، ملقياً خلف ظهري تلك النتف الصحفية أو الدراسات الأكاديمية المتكلفة التي تناولت الرواية، فوجدتني أتنبَّه إلى أمرٍ وحيد وهو الكتابة نفسها، أي شكلها، وبدأتُ أسائل نفسي بينما كنتُ أقرأ، وأضع تركيزي وأحاول العثور على الإجابات من داخل النص ، كيف كُتبت ؟ ليس فيما يتعلق بالأسلوب واللغة وغيره، وإنما من ناحية البنيان السردي. ورويداً رويداً تكشفت أمامي الصيغة الهيكلية التي تمثل شكلاً واضحاً ومُلحاً ليس من السهولة تجاوزه، ألا وهو ( التناظر السردي) البديع الذي يؤسس لمجمل الأحداث والحكايات الفرعية الأخرى.
هل من المُمكن أن لا نقف عند تلك المُقابلة ما بين (تأثيث)غرفة مصطفي سعيد في لندن وغرفته في القرية؟ في كلا الحالتين نحن أمام غرفة، ولكن كل غرفة تأخذ خصوصيتها حسب وعيه بحالته وبالمكان. يقول مصطفي سعيد : ( غرفة نومي مقبرة تطلُ على حديقة، ستائرها وردية منتقاة بعناية، والسرير رحب، مخداته من ريش النعام… ) ثم يمضي في وصفه ليقول : ( تعبقُ في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند …)، هنا نلمح حضور أشياء تم اختيارها بعناية وتمثل رموزاً لمناخات ثقافية حضارية– غير أوربية. ولكننا حينما نعود معه إلى غرفته الأخرى في القرية، سنرى، على لسان الراوي : ( غرفة مستطيلة من الطوب الأحمر، لا كالمقبرة، ولكن كسفينة ألقت مراسيها في عرض البحر)، ثم يصف الراوي تلك الغرفة بقوله : ( تصوروا ، مدخنة إنجليزية بكامل هيئتها وعدتها، فوقها مظلة من النحاس، وأمامها مربع مُبلط بالرخام الأخضر، ورف المدفأة بالرخام الأزرق، وعلى جانبي المدفأة كرسيان فكتوريان مكسوان بالحرير المُشجر، بينهما منضدة عليها كُتب ودفاتر)، ألا تأخذنا هذه الأشياء إلى لندن؟ وطريقة تأثيث البيوت فيها؟ . ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام رموز ثقافية –حضارية من خارج المكان، إذن يمكننا أن نقرأ الكثير مما تدلُ عليه هذه الأشياء أو تلك، ولكن في كل الأحوال تبقى طريقة (تأثيث الغرفتين) مجالاً واسعاً لاستخراج العديد من المعاني والدِلالات.
وبإمكاننا أن نسأل ايضاً، لماذا هذا التشابه بين الراوي، ومصطفي سعيد؟ كلاهما درسا في لندن، وكلاهما عاد إلى القرية، وأن اختلافهما في (التجربة) أمر لا يمكن الجزم به، وهو أمرٌ لا يمكن القفز عليه، ولكن تلك التشابهات البسيطة، التي يمكن أن لا تتجاوز حد المصادفات العادية، حسب المعلومات التي يوفرها المسرود طبعاً، يمكن أن تحمل الكثير، وتجعلنا نرى الأشياء بصورة مختلفة. ها هو الراوي يدخلُ الآن غرفة مصطفي سعيد المٌستطيلة الحمراء، ويقول : ( ووجدتني أقفُ أمام نفسي، هذا ليس مصطفي سعيد، إنها صورتي تعبسُ في وجهي من المرآة) ، إذن، هل كانت وصية الميت المخصوص بها الراوي والتي كانت في شكل رسالة مغلفة تطلب منه أن يهتم لأمر أولاده، ويجنبهم السفر، بل بالإذن لنشر حكايته ودخول غرفته السرية. ألا تعني شيئاً؟ أو عدة أشياء؟ . ومن ناحية أخرى، يحضرُ التناظر أيضاً بشكلٍ ما في المشهد الختامي للرواية، بينما الراوي يستغيث من الغرق، النجدة ، النجدة ! ، ووفاة مصطفي سعيد نفسه غرقاً في النهر.
ما هو وجه الشبه بين جين موريس وحسنة بت محمود؟ وإلى إين يمضي بنا النص إذا اقترحنا هذا المسار؟ .ولكنني افضِّلُ أن نرى الأمر بكليته، تحت عنوان مشهد (الجنس/ القتل). عندها سيكون الفضاء التأويلي أوسع وأرحب حالاً، لنأتي بكل الاحتمالات المُمكنة إذن. ولكن سأذكِّرُ هنا فقط باستحضار المشهدين الكارثيين على التوالي، لنقرأ المشهد الأول، ثم المشهد الثاني، ماذا سنكتشف؟.
هل هو رفض السلطة والسيطرة الذكورية مهما كلف الثمن؟
لا دخل لي بالكيفية التي ينظر بها القراء لهذه التناظرات التي أشرت إليها، بل ربما بإمكان أي قارئ آخر أن يستكشف تناظرات أخرى، طالما كانت هنالك إمكانية للشوف. وليس بالضرورة أن نتشارك بعد ذلك في تأويل النص وإشاراته، ما يهمنا في الأساس هو تحديد هذه ( الإشارات) وإماطة اللثام عن البنية الهيكلية للتناظر التي تقود السرد، وتحركه إلى فضاءات ما. فالنص كما هو معروف غير أمين على قصدية المؤلف، حتى نظن أنه بإمكاننا أن نعثر بداخله على (حقيقة موضوعية) أو ( فكرة جاهزة خرجت من رأس المؤلف –الكاتب)، كما أنه أيضاً ليس وفياً لقارئ وحيد، مهما اجتهد وأعمل (وعيه النقدي)، وبالتالي، كل ما يمكننا فعله هو أن نتجنب تقويل النص مالم يقله فعلاً، أي أن نتبع إشاراته بحرية. لأننا لن ننسي بأنه دائماً هنالك (قراءة خاطئة)، وليس هناك ( قراءة وحيدة حقيقية)، كما يقول إمبرتو إيكو.
مالذي نقرأه هنا؟ ما هو الشيء المُحدد الذي نركز عليه جهودنا ونقوم بتأويله وتفسيره؟
وهو سؤال بديهي لابد منه، فإن كنا أمام عمل روائي مثلاً، فإننا قد نجد العديد من الأشياء الجاهزة التي يمكن أن نفتش عنها في داخل النص، العنوان، الفضاء السردي الزمكاني، التاريخي الاجتماعي أو السياسي الخ…وبالتالي يمكننا سحب النظريات النقدية التي تستهوينا ونسقطها على النص. هذا ما يحدث دائماً في معظم المجلات والصحف. كما بإمكاننا أن نقوم بإنتاج نصوص موازية تحوم حول الأراضي الدلالية التي يملكها النص. وفي كل تلك الحالات، وهو الشيء المؤكد، تكون هنالك مناطق وأقاليم لم تطأها أرض البحث والاستكشاف حتى الآن وستظل غائبة ومقيَّدة بأصفاد المجهول، فمالعمل إذن؟
يلزمني أن أوضح الآتي بخصوص مصطلح – التناظر- ، وهو أنه أُستخدم للمرة الأولي على يد (كريماس) في الستينات من القرن الماضي، وكان يعني به الحضور المتواتر لقاعدة دلالية، أو لمعنى أساسي في النص، وهو في الاساس مصطلح علمي تم إستلافه من الكيمياء، ويعني : (تشابه ذرات العناصر في النوع واختلافها في نفس الوقت فيما يخص عدد الذرات أو الرقم الكتلي)_ وبالتالي فإن استعماله في النقد الأدبي يأتي محملاً بمعنى ( التشابه المُختلف) أو( التشابه الجوهري والاختلاف الكمي).هذا من ناحية، ولقد وجدت نفسي مضطراً لاستخدامه هنا في هذا المقال بطريقة مختلفة عن كريماس، الذي كان يستعمله في سياق البحث عن المعني الكلي للنصوص، المتكون من أجزاء متماثلة ومتشابهة صغيره أو فرعية موزعة في جسد النص، تكوِّن المعنى العام. وإنما قصدت باستعماله في هذا المقال بأن أشير إلى ( سمات التشابه الشكلي) فقط وليس ( اصطياد المعني)، لأنني لا أعتقد أنه من اللائق أن أفرض على القارئ أي تفسير أو تأويل.
لا يمكننا أن نكتفي بالنظر إلى رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) من زاوية وحيدة، كما لا يمكننا تحنيطها داخل قراءات أكاديمية محددة، وليس من الحكمة أن نكتفي منها بالحصول على معنى سياسي أو ثقافي أو حضاري الخ…، فهي شأنها كما الروايات الخالدة التي تظل تحفز الأسئلة، وتثير الأذهان باتجاه التفكير معها إلى مالا نهاية. فلكل رواية أو عمل فني جمالياته الخاصة، وإمكانياته الذاتية، واقتراحاته العديدة، وهنا تكمن إبداعية الطيب صالح و ثراء عالمه الروائي.
هذه الإشارات السريعة يمكنها أن تؤسس لقراءة تستند للخصوصية الجمالية للنص، ليس بعيداً عن الذاكرة النقدية والمنهجيات المتعارف عليها في عملية التعيين الدلالي، وإن كانت تأتي من موقع مختلف لا يهتم كثيراً بقوانين الضبط الأكاديمي المعروفة، بل تسعي إلي أمرين :-
أولهما : إدراك خصوصية النص الذي نتعامل معه دائماً، تلك الخصوصية الشاملة التي لا تكتفي بسياقه الثقافي والاجتماعي والتاريخي، وإنما تمتد لكل ما يحيط بالنص في بنائه، في شكله المورفولوجي وهيكلته ومكوناته الأخرى.( كيف كُتب؟ ومالجديد في شكله؟ وما أوجه تشابهه مع نصوص أخرى؟ )
ثانياً : تحرير القراءة من الهيمنة الأكاديمية، التي تسعي لتحويل العملية النقدية إلى تأسيس قوانين افتراضية شبيهة بقوانين العلوم الطبيعية، (ما يصلح هناك، سيصلح هنا)، هذا التعميم المُجحف، من خلال التصنيف المتعسف للنصوص وحجزها داخل رفوف مقسَّمة مُسبقاً وعلب جاهزة، وبالتالي : تفقد النصوص حيويتها ونشاطها اللامحدود، لصالح نجاح النظرية النقدية.( استعمال رواية موسم الهجرة إلى الشمال لتبرير نظرية ما بعد الكولينيالية مثلاً ).
حينما نتعامل مع (نص إبداعي)، يكون من الأفضل أن نتحرر من أي منهجية نقدية أو معرفة مسبقة، كما نعرف في ذلك النوع من القراءة الذي أكدته الظاهراتية، بأن نصغي فقط بإخلاص لما يقوله النص، وما يشير إليه، ولابأس بعد ذلك، أو لاحقاً من الاستخدام الإجرائي للمصطلحات، أياً كانت، أي أنها تصادفنا في منتصف الطريق، وقتها سنكتشف ما حرمتنا من رؤيته الحدود والفواصل التي سجنتنا بداخلها عادات القراءة الفقيرة، وسيمنحنا النص نفسه من جديد، على أساس هذه الحرية الماهلة. ولا يعني هذا بالتأكيد أن عملية القراءة تتم خارج الذاكرة والتجربة والوعي النقدي للمتلقي، ولكنها فقط مسألة أولويات واختيار.
* كاتب من السودان