ترجمة

“السياسي” لـ(شوقي بدري): آمال وخيبات شيوعي سوداني في براغ (1-2)

المُؤلِف ومُؤلفاته

شوقي بدري كاتب سوداني نشر مجموعتين قصصيتين هما “المشبك” [1] و”حكاوي أم درمان”[2] ويكتب بصورة مستمرة في الصحافة السودانية سواء في المطبوعة منها أو في المواقع الصحفية والأدبية على الشبكة العنكبوتية. ولد شوقي بدري في العام 1945 ونشأ في مدينة أم درمان بالقرب من الخرطوم لكنه يعيش منذ سنوات في السويد. هذان العنصران من سيرته الذاتية هما أساسيان لفهم مؤلفاته وذلك لأن شخصيات قصصه تنمو وتتطور في واحد من هذين العالمين، أم درمان وبدرجة أقل السويد.

إن تعلق بدري بمدينة أم درمان يتجاوز حب رجل لمدينته الأصلية. في الواقع تمثل هذه المدينة بالنسبة للسودانيين وعلى وجه الخصوص لمسلمي شمال السودان أهمية تاريخية من الدرجة الأولى خصوصاً أن المهدي أقام بها بعد أن هزم الفرق البريطانية في الخرطوم في العام 1885. ولا يزال يوجد في أم درمان بعض الصروح التي تشهد على تلك الفترة التاريخية مثل قبة المهدي وبيت الخليفة عبد الله.

 

الهجرة في الأدب السوداني

تشغل موضوعة الهجرة حيزاً مهماً في الأدب السوداني وذلك لثلاثة أسباب. السبب الأول، يحدث بعض الأحيان دون وعي، هو التأثير الكبير لرواية (موسم الهجرة للشمال)[3] لكاتبها الطيب صالح على السودانيين. أثرت هذه الرواية، التي تحكي الحياة الصاخبة لمصطفى سعيد ذلك الطالب السوداني الذي كاثر من مغامراته مع النساء البريطانيات عندما كان مقيماً في لندن كنوع من الانتقام يقوم به المُستَعمَر ضد المُسْتَعمِر، بعمق وباستمرار في النقاد والباحثين في العالم العربي والغربي وخصوصاً في البلدان الأنجلوساكسونية حيث تعتبر هذه الرواية من الروايات البارزة في أدب ما بعد الكولونيالية. لكن للأسف وبصورة ما حجب نجاح هذه الرواية بقية مؤلفات الطيب صالح الذي كتب عدداً من الروايات وبعض المجموعات القصصية وحجبت كذلك مؤلفات لكُتّاب سودانيين آخرين بالرغم من أن عدداً منهم في الغالب من الموهوبين. السبب الثاني أن موضوعة الهجرة أصبحت مشتركة في الأدب العربي سواء في الأدب السوداني أو المصري أو اللبناني أو المغربي وهو أمر منطقي جداً بما أن أغلب البلدان العربية شهدت هجرات، في أقل التقديرات، لأجزاء كبيرة من شعوبها، منذ فترة الاستقلال وحتى قبلها لأسباب اقتصادية وسياسية وأسباب أخرى. من بين الروايات العربية التي تناولت موضوعة الهجرة وأصبح بعضها من الكلاسيكيات تبرز رواية عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم التي يعيش بطلها الشاب المصري في باريس، وتصدر سنوياً روايات جديدة تتحدث عن هذه الموضوعة. السبب الثالث هو أن عدد من الكتاب السودانيين يعيش في الخارج (في بلدان الخليج، في أوروبا وفي أميركا الشمالية) ونتيجة لذلك فإنهم عندما يتناولون في كتبهم إشكالية المنفى فإنهم يصفون أحوال عايشوها مباشرة أو كانوا شاهدين عليها.

البلدان الشيوعية: أرض لجوء أقل شهرة

إذا كان تأثير موسم الهجرة للشمال، كما قلنا سابقاً، كبيراً على الأدب السوداني فإن الطريقة التي يتم بها تناول موضوعة الهجرة قد تطورت بكل تأكيد بشدة خلال أربعين عاماً. أولاً لقد تنوعت أسباب الهجرة ــــ بينما توجه بطل موسم الهجرة إلى الشمال إلى أوروبا للدراسة نجد أن شخصيات أحمد الملك أو أمير تاج السر مثلاً تحاول مغادرة السودان لدوافع سياسية واقتصادية. وتغيرت الوجهات كذلك: توجه مصطفى سعيد تلقائياً إلى لندن عاصمة القوة الاستعمارية بينما تستقر شخصيات القصص والروايات المكتوبة لاحقاً في مناطق أخرى من أوروبا (في هولندا وسويسرا والنمسا) وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية.

 يختار (علي)، الشخصية الرئيسة في قصة شوقي بدري الموسومة ب “السياسي”، وجهةً أكثر نائياً: تشيكوسلوفاكيا. يتحصل (علي)، وهو شاب شيوعي سوداني متحمس، على منحة دراسية في جامعة براغ ثم في جامعة براتيسلافا. لم تذكر القصة أي تواريخ،  لكن نعرف أن (علي) كان في المدرسة الثانوية عندما نالت بلاده الاستقلال في العام 1956 وأنه تابع الأحداث السياسية مثل موت باتريس لوممبا في العام 1961 وبناء السد العالي في أسوان في سنة 1960 وتحالف الجنرال إبراهيم عبود (كان على رأس السلطة بين أعوام 1968 و 1964) مع الأمريكان قبل مغادرته وأن (علي) عاد للسودان عند سقوط الرئيس السوداني جعفر نميري في العام 1985. إذاً توجه (علي) إلي براغ تقريباً في سنوات الستينيات (1960) غالباً قبل العام 1968 ذلك لأنه لا يشير على الإطلاق ل “ربيع براغ” وهو حدث يصعب تجاوزه.

تغطي هذه القصة نقصاً في رقعة مهمة ونادراً ما يتم تناولها في تاريخ الهجرة المؤقتة في العالم العربي وبصورة أشمل في العالم الثالث وهي مسيرة الطلبة العرب والأفارقة وطلبة أميركا الجنوبية الذين يتوجهون للإتحاد السوفيتي والبلدان الشيوعية الأخرى لإكمال دراستهم. فليس من النادر أن تقابل في سوريا أو السودان أو اليمن وفي مناطق أخرى مهندسين وأطباء يتحدثون الروسية أو التشيكية أو لغات سلافية أخرى (وكذلك الرومانية) فقد تلقى هؤلاء منح في شبابهم الباكر للدراسة في جامعات البلدان الشيوعية. كانت السياسة التعليمية التي تهدف إلى تأهيل النخب في الإتحاد السوفيتي وفي بلدان الشرق الأخرى منتشرة في البلدان التي تبنت بصورة مفتوحة الاشتراكية كنظام سياسي ابتداءً من العام 1960 مع موجة الاستقلال ــــ في سوريا ابتداءً من العام 1960 وفي جمهورية اليمن الشعبية ابتداءً من العام 1970 بالنسبة للبلدان العربية، وفي تنزانيا جوليوس نيريري ابتداءً من العام 1967 وفي أنجولا (MPLA) في العام 1975 بالنسبة لإفريقيا…

نال عدد من الكتاب العرب فرصة للدراسة في بلدان الشرق مثل العراقي غائب طعمة فرمان الذي درس في موسكو والليبي إبراهيم الكوني الذي درس الأدب في معهد مكسيم جوركي و مثل السوداني رؤوف مسعد الذي درس في بولونيا و مثل شوقي بدري الذي درس في تشيكوسلوفاكيا وهناك آخرون درسوا كذلك في بلغاريا ومناطق أخرى. إضافة إلى ذلك استلهم بعضهم فترة إقامتهم أثناء الدراسة لكتابة أجزاء من مؤلفاتهم مثل اللبناني نزار دندش. لم يقتصر الدعم الذي قُدّم للبلدان العربية والإفريقية، الذي يدخل في جانب منه في إطار السياسة الدولية التي نَظّر لها  الحزب الشيوعي السوفيتي في العام 1960 في إعلان موسكو، على استقبال الطلاب القادمين من العالم الثالث بل تم إرسال مهندسين ومدرسين وأطباء وتخصصات أخرى من جنسيات روسية وتشيكية وبولونية وجنسيات أخرى إلى الصومال حتى غينيا مروراً بمصر وأثيوبيا. ويبقى السودان حالة خاصة ذلك لأن الطلاب المرشحين والذين وصفهم شوقي بدري في قصته لا يستفيدون من منحة حكومية ولكن اختارهم الحزب الشيوعي السوداني الذي كانت له شعبية كبيرة في ذلك الوقت.

عندما نعود إلى قصة (علي) نجد أن مساره يختلف كثيراً عن مسارات الشخصيات الأخرى في الروايات السودانية التي تناولت ثيمة الهجرة. يصنع الراوي تصورات مثالية للعالم الخارجي. عكسا عن مواطنيه الذين يتصورون أن يجدوا حياة أفضل في لندن وباريس وأمستردام كان هو متيقن أن العشب أكثر خضرة في الاتحاد السوفيتي.

إضافة إلى ذلك، بينما أجبر بطل قصة “صبي من أقصى الجنوب” للكاتب أحمد الملك على مغادرة بلده والتوجه إلى هولندا لأسباب سياسية نجد أن (علي) اختار أن يغادر وطنه لنفس هذه الأسباب لكن ليس لأن معارضته للحكومة القائمة هي التي تدفعه للمغادرة بل تصوراته المثالية لنظام سياسي ما.

عندما نعود لسفر (علي) لتشيكوسلوفاكيا نجد أن الأمر هو اختيار حزبي (يفهم أنه الحزب الشيوعي السوداني) لأن (علي) كان يفضل الذهاب إلى موسكو عاصمة الوطن الشيوعي الحقيقي وليس براغ أو إلى أية مدينة توصف بأنها “ثانوية”.

العنصرية

لكن يحبط (علي) من الواقع الذي يتكشف له. في البدء سريعا ما تواجهه اللامبالاة والعنصرية بعيداً عن العلاقات الإنسانية والأخوية التي يصفها الأدب الرسمي. فمنذ وصوله إلى المطار يبدو أن الناس تسخر منه ومن الطلاب الأفارقة الآخرين. بعد أيام قليلة من وصوله تعرض للضرب من قبل مجموعة من الشباب التشيك كان يرغب في إجراء مناقشة سياسية معهم. لكن الحدث الحاسم كان الرفض بالسماح له ولمجموعة من زملائه الأفارقة بدخول ملهى في مدينة براغ:

( في اجتماع مع رئيس منظمة الثقافة في براغ، وفي مكتبه الفاخر في استوديوهات براندوف. استفسر الأفارقة عن السبب في منعهم من دخول ملهى “الفانوس” والملاهي الأخرى وكان رد المسئول وعضو الحزب الكبير أن السبب أن بعض الطلبة من الكونغو قد سببوا بعض المشاكل. فسأله (علي) لماذا لا يمنعوا الطلبة الذين هم من الكونغو ولماذا يشملوا الجميع بقرارهم. رد المسئول الثقافي قائلاً:” أن الكونغو كبير هناك غانا نيجيريا أفريقيا وكثير من الدول وهم لا يستطيعون أن يفرزوا بين الكنغوليين”).           

إن إدانة العنصرية في هذه القصة التي كتبها بدري هي مسألة مهمة لاعتبارات عديدة. من جانب فان العنصرية غالباً ما تقترن في الأدب العربي بتجارب المهاجرين العرب في أوروبا الغربية أو في الولايات المتحدة الأمريكية لكن في هذه القصة نجد أن البطل يتعرض للعنصرية في عالم لا ينبغي أن تكون فيه عنصرية باعتبار أن النظام السياسي الذي يعلي من قيمة المساواة من المفترض أن يكون مطبقاً فيه.  بالإضافة إلى ذلك سنرى لاحقاً في القصة أن البطل ينفي أو يقلل من هذه الظاهرة. ويذهب المؤلف بعيداً عندما يدين العنصرية التي يتعرض لها السودانيين من قبل العرب الذين يبدو أنهم يعتبرون السودانيين أفارقة وليسوا عرباً بنفس درجة المصريين والسوريين والفلسطينيين. فلنتذكر أن السودان بلد متعدد الثقافات تعيش فيه شعوب عربية وافريقية ومسلمين ومسيحيين ووثنيين لكن يسيطر المكون العربي ــ الإسلامي الحاضر منذ قرون في شمال البلاد على الفضاء الثقافي والسياسي.

يدور الجزء الأول من القصة في القاهرة. كان يتوجب على (علي) المرور بالقاهرة في طريقه لبراغ ليحصل منها على التأشيرة وتذكرة الطيران. يتعرف خلال إقامته بالعاصمة المصرية بمجموعة من الفلسطينيين. يشغل الصراع العربي الفلسطيني مكان رئيسي في الوعي السياسي العربي المعاصر للحد الذي يحجب قضايا أخرى جديرة بالاهتمام في هذا الجزء من العالم.  وهو الأمر الذي يسخر منه الكاتب بلطف من خلال إعجاب (علي) بزملائه الفلسطينيين.  عزم (علي)على تنظيم احتفال على شرف زملائه الفلسطينيين، فخورا بأنه استطاع أن يقابل “مقاتلين” من لحم ودم يدافعون عن القضية الفلسطينية ويجتهد جداً في إكرامهم. بينما يذهب (علي) لإعداد شاياً في المطبخ يلتقط حواراً يدور بين أثنين منهما، يقول أحدهما: “ما هذه المسخرة؟ وما دخل هؤلاء العبيد بهذه القضية؟ لقد صدعوا رأسي!”   ثم يأتي بعد ذلك البوليس، ويبدو أن (علي) ضُرِبَ أكثر من الآخرين من قِبَلِ البوليس. من الواضح أن البطل خاض تجربة مريرة مع العنصرية في العالم العربي بسبب لون بشرته من خلال حديث الطلبة الفلسطينيين وضربات البوليس المصري…

ونفس الشيء سيحدث بعد ذلك في التشيك في جامعة براغ: ” لم تكن علاقة (علي) بالطلبة العرب جيدة وكثير من السودانيين أصيبوا بالدهشة عندما لم يتقبلهم بعض الطلاب العرب كإخوة” . إن مسألة التأرجح بين الهوية العربية كما يحسها السودانيين أنفسهم وبين تصور العرب الذين يعتبرون السودانيين كأفارقة قد قام بتناولها كُتّاب أخر خصوصاً جمال محمد إبراهيم في روايته “نقطة التلاشي” . في الأخر يشير الكاتب بحرفية أن العنصرية هي وللأسف معطى عالمي حاضر في أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى وفي العالم العربي!

هوامش:

(1) شوقي بدري، المشبك، الدار العالمية، القاهرة، 2003، 156 صفحة.

(2) شوقي بدري، حكاوي أم درمان، الدار العالمية، القاهرة، 2008، 269 صفحة.

(3) الطيب صالح، موسم الهجرة للشمال، القاهرة، 1968، 171 صفحة.

* تم نشر هذه المادة تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.

ترجمة : د. عاطف سعيد الحاج

كاتب وناقد من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى