لم تَعُد (مُلكاً لمن يملكونَ الثَمَن)
(1)
واتس آب؟ أنا أقول ليك واتس آب: خلاص؛ اختلط الحابل بالنابل وحدثت مفاجأة تكنولوجيَّة أخرى قلَبَت جميع الموازين. لم تعد شبكة العالم السحريَّة [ملكاً لمن يملكونَ الثَمَن ـ أمل دنقل]، لم يعد الانترنت حكراً على حاملي اللابتوبات ومن يملكون، في الماضي الغابر، أجهزة ديسكتوب مغبّرة في دكاكين جالوصيّة صغيرة تتوزع في أقاليم السودان؛ لم يعد حِكراً على من ترتبط وظيفتهم بهذه الأجهزة، لا.
بتسرّب شبكة الانترنت إلى الهواتف المحمولة حَدَثت قفزةٌ تجاوَزَت (الأميَّة الإلكترونية). هذا المصطلح الذي كان يمثّل لنا رعباً وجداراً سميكاً يفصل الناس عن المعلومات، ولكنّه عاد الآن إلى طمئنينته المَدَنيَّة، بحيثُ لن يضطّر بأن يُنشئ مؤسساتٍ ليتعلّم من خلالها بائع الخضار الكمبيوتر ليتحصل على المعلومات، لأن مصدر سحر الهواتف هو ذكاؤها في التعامل مع ذكاء الذهن البشري الفطري، وقربه [الخفيف] إلى جسد الإنسان.
(2)
لقد خَلَق الصراع التجاري التكنولوجي المستعر عراكاً من نوعٍ مُختلف؛ أسلحته الابتكار والزمن، صراع أذهانٍ بأكثر من أنه صراع أموال! ببساطة؛ لقد تسيّد العالم أولادٌ شُفَّعٌ تلتمع أعينهم بالقدرات الخارقة، وتفتنهم السلطة والثروة للأسف، لا لشيءٍ سوى لأن أذهانهم خارقة الذكاء! ذلك لم يكن موجوداً في الماضي، حيث خَضَعَ الذكاء دوماً إلى سلطة السلاح والمال!. تحالفٌ جديدٌ بين بنية الوعي الخلاق مع بنية الوعي البرجوازي يا (د. الشيخ محمد الشيخ) يقوم على قِوَامة (زائفة؟) لبنية الوعي الخلاق على البنية البرجوازيَّة. لقد تغيّرت الموازين والمفاوضات اتخذت مناحٍ جديدة، وعجَّل هذا العراك الجديد إلى رؤية عالمٍ يتلاحمُ بسرعةٍ و(تتدفّق) فيه المعلومات بطريقةٍ أربكت كل العقليّات القديمة التي تحكم عالم اليوم، تلك التي ظنَّت أن الإنسان جاهل، أعمى، إلى الأبد.
(3)
إن اندلاع العراك التكنولوجي الأخير، وامتلاك كل فردٍ القدرة على التعبير عن ذاته، حتّى وإن كان ـ وسيظل إلى أمدٍ ـ فوضويَّاً وعشوائيَّاً وغير موثوق (نسبةً لانتهاج أطراف النزاع لذات أساليب وأدوات العالم القديم)؛ أقول، إن امتلاك الأفراد لهذا العضو الذكي الجديد، وانسياب المعلومات والوثائق؛ هذه العيون الرقميَّة المثبّتة في يدِ كلّ فردٍ في العالم، يَفتح الذهن على إمكانيّات جديدة، وابتداع أدوات ومبادرات مُختلفة، وإن ستظل موقع ريبةٍ وشكٍّ في أذهان جميع أطراف النزاع حول السلطة والثروة، ولكنها ستظل مثيرةً لإعجابهم أيضاً؛ كل ذلك سيُفرز، بالتأكيد، أشكالاً جديدةً من التنظيم والتفكير.
(4)
قرأت ورقةً مثيرةً قدّمتها الحقوقيَّة سوندرا هيل بمركز سالمة لدراسات المرأة، وتقدّم من خلالها أسئلة جديدة وشكوك بدأت تنتابها حول أشياء كثيرة، فهي امرأة منفتحة الذهن، ولا تبالي برمي الأدوات والأسلحة التي أُثبِت انعدام جدواها، وهي، كذلك، لا تصمُّ السَمَع عن الأفكار الجديدة. فهي تقول: (على الرغم من أن العديد من أفكار ما بعد الحداثة تخالف سياساتي الثورية، فأنا على قناعة بأنه يجب على أن أكون منفتحة أمام الأفكار الجديدة التي تقود هذه الانتفاضات الجديدة، لأن النشاط المدني الجديد مفتوح، ومستقل، وسلس، ومقنع) انتهى.
وحول الانتقال إلى عصر حريَّة التعبير، وتملّك الأفراد للأدوات الجديدة وتغيير شكل التنظيم، تحدثت سوندرا هيل عن الأسماء (الإبداعيَّة) المستخدمة والأساليب (الفنيّة) في التعبير التي تحدثنا عنها كثيراً في تنقيباتٍ ظلاميَّة (ابتداع أشكال جديدة للتنظيم، التعبير، ورفض التنظيم والخطاب السياسي بصورته القديمة، والتوجّه إلى الناس)، وهي تتحدث عبر تجربتها وتنقلها بين البلدان، وارتباطها الفعلي مع هذه التنظيمات الجديدة في بلدان العالم، أقتطف منها، وقد انتزعتُ النماذج التي تتحدث عنها من النص وأبقيت على الأفكار والاستنتاجات:
[يمكن وصف العديد من الأفعال السياسية المعاصرة بأن لديها جوانب هزلية، وإبداعية، وفنية- في كثير من الأحيان في شكل الأداء (….) فمن الصعب الانتقال إلى عصر حرية التعبير إذا كان المرء يستخدم لغة قديمة، وإيحاءات البنيات القديمة. (…) وتتلخص قراءتي لهذه المنظمات، التي عززت في المقام الأول بسبب سيادة الشباب والنساء، في عدم وجود حقيقة مركزية تستوجب إلتزام الناس، وليس هناك موضوع وحدوي. وهناك غياب تام للخطاب الأسمى أو القانون المسيطر. هناك أيضاً درجة عالية من عدم اليقين، وبطء في المداولات والعمل (على الرغم من أن أعمال الربيع العربي بدت سريعة وعفوية، قد يكون خادعاً). لا يبدو أن المجموعات في حيرة بشأن عدم اليقين، ولا بشأن عدم وجود اتجاه واضح أو وحدة، بالتأكيد ليس الوحدة الآيديولوجية. من ما تعلمته مباشرة من حركة (احتلوا وول استريت)، يبدو أن المشاركين كانوا يشعرون بالراحة برغم التشتت والغموض الذي يسود بينهم. هذه هي الأفعال المفتوحة، والمستقلة، والمتداخلة، والسلسة].
(5)
أعلم أن بعض الناس، وأنا منهم، قد يرتعب من فكرة أن يكون الكثير من الناس مدنقرين في أجهزتهم طوال اليوم، ولكن ذلك قد حدث وانتهى. طبعاً لم يصل الأمر في الخرطوم بأن يدنقر الناس جميعاً إلى اليوم، ولكن المحيّر أن يكون عددهم من المدنقرين في نهارات الميترو الأوربي!.
مهلاً، فالمشهد في السودان بدأ في التحوّل: من ظاهرةٍ تخصّ “طبقة” معيّنة، إلى مشهدٍ عجيب وجميل؛ مفرحٌ أن ترى في مقعد المواصلات (العامّة)، كما حدث معي، راعي الماشية يُخرج من الكارتونة جهاز سامسونغ جالاكسي شنو كده، وفي حافلة مسخنة سلحفائيَّة وتُكَركِب!. سيظلّ الكتاب الجيّد حليفاً للكتاب الورقي، والمادة العلميّة والتوثيقيّة والأفلام العظيمة حلفاء لبقاء جزءٍ من أشلاء هذه الأجهزة الشجاعة، تظل الحوارات والبرامج التي قدّمها متسرّبون إلى تلك الدوائر شاهدةً على قدرةِ تلك الأجهزة الإعجازيّة في جانب التأثير.
* كاتب وشاعر من السودان
* تم نشر هذه المادة تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني.