ثمار

تحليل الاستدلال في نص “أنا ، الأخرى وأمي” لروائي عبد العزيز بركة ساكن

I- مقدمة

يقوم علم الدلالة فرعاً من اللسانيات بدراسة المعنى اللغوي. ويقوم تحليل الاستدلال بدراسة المعنى النصي. فما هو التمييز بينهما؟ بكلمات أخر، التمييز بين معنى التصور اللغوي، ومعنى تصور استدلال النص تمييزٌ أساسي.

الأساس المشترك بين استدلال النص ودلالة اللغة هو الكشف عن المعنى؛ ولكن السؤال المائز لهذا الكشف يتبع خصائص خاصة تقود نحو الاستدلال وتلك التي تقود نحو الدلالة. ما يقود نحو الاستدلال كشفاً للمعنى هو التراكم الثقافي للعلامة اللغوية في النص، وما يقود نحو الدلالة كشفاً للمعنى هو التحديد المرجعي للعلامة اللغوية في اللغة. ما قلناه حتى الآن يمثل المائزة بين الاستدلال والدلالة كأولى اللبنات التي سوف تتعاقب تباعاً في هذه المقدمة. هذا المثال التالي يوضح ما نقصده باللبنة المائزة:

1– الجبن الذي وضعته في الخارج أكله الغراب.

2- زَعَمَ الغُرَابُ مُنْبِئُ الأنباءِ       أنَ الأحبَّــةَ آذَنُوا بِتَناءِ[1]

في التلفظ اللغوي في 1 استعمل المتكلم ثلاثة معيَّـنات هي: الجبن، الخارج، الغراب؛ بالإضافة إلى الضميرين المتصلين الدَّالين على الإحالة الأنافورية في وضعته وأكله. فهنا اللفظ اللغوي المتلفَّـظ به ’الغراب‘ يريد أن يُعَيِّن مُعَيَّناً بالملامح الدلالية التالية التي تدل على نوعية الكائن (+ طائر/ – بشر/ – جماد)، وعلى لون الكائن (+ أسود/ – أبيض)، وعلى حجم الكائن (+ متوسط/ – صغير، – ضخم). نلاحظ أن هذه الملامح الدلالية تتراوح فيما بين الموجب والسالب؛ لذلك دخلنا على الكشف عن المعنى اللغوي من طريقين: طريقٍ من مبدأ نظر البنية البسيطة للتلفظ اللغوي التي تتكون من المعين: الجبن، الخارج، الغراب، ومن الـمُضَمَّن: وضع، أكل. والطريق الثاني إما عن طريق شكلي فئوي يعتمد تحليل التفريع التركيبي للجملة مثل (الغراب أكل الجبن) يجري تحليلها ((عبارة فعلية محدد /الـ/، اسم /غراب/، فعل /أ ك ل/،  ( عبارة اسمية محدد /الـ/، اسم /غراب/)))؛ أو عن طريق معنى التصوُّر اللغوي الذي يجري من خلال التعيين للملامح المعنوية الصغرى (+ طائر، + أسود، + متوسط) في نفي (- صغير، – أبيض – ضخم). وهي الملامح المعنوية الصغرى المتقابلة في الإثبات والنفي.

خلاصة ذلك أن معنى التصوُّر اللغوي يُـجـْرِي إجراءً من خلال التعيين في جملة مثل:

3- الغراب أكل الجبن.

كالآتي:

أ‌- تعيين البنية البسيطة: الغراب، الجبن: مُعَيَّن : له مرجع مركوز.

ب‌- تعيين الملامح الدلالية الصغرى: نوعية الكائن (+ طائر/ – بشر/ – جماد)، وعلى لون الكائن (+ أسود/ – أبيض)، وعلى حجم الكائن (+ متوسط/ – صغير/ – ضخم.

ت‌- تعيين الفئات التركيبية: عبارة فعلية، عبارة اسمية.

معنى التصوُّر اللغوي يجري من خلال التعيين الدلالي أو المعنوي في صدر الملامح الدلالية المميزة، كما في ب هنا أعلاه. وهذا التعيين هو تعيين أصغر وحدة دلالية مميزة في المعنى، وهو الذي يُشكِّل التصوُّر المعنوي في اللغة عند المتكلمين. هذا التصوَّر اللغوي في تحليله هنا لوحداته الصغرى دلالياً أصبح متأثراً بتحليل النظام الصوتي الذي جاء قبله في علم اللسانيات قبل عِدَّة عقود. نجد التحليل الصوتي للملامح الصغرى للصوت /ب/ كالآتي: (+ احتباسي، – مهموس، + شفوي، – مفخم). فهنا النطق – في اللغات البشرية – يقوم على هذه الفروق التي هي مُزَوَّدة جينياً ويتطوَّر اجتماعياً حسب كل لغة لترفد تصوَّر تلك الـمَلـَـكَـة اللغوية الجمعية. حينما يقال معنى التصوَّر اللغوي، إنما نعني أن هذا التصوُّر المعنوي اللغوي مُزَوَّد سلفاً جينياً ويتطور اجتماعياً. وهذا التصوُّر تصوُّر جمعي في تطوُّره بتطوُّر العالم المحيط بمجموعة لغوية محددة.

يجب أن أُنَبِّـه أن هذا التصـوُّر هو الاصطلاح الدال على التصوُّر الجمعي في الـمَـلـَـكَـة اللغوية، وليس تصوُّراً فردياً يضفي أشياء أو ملامح أو خواص زائدة عن تعيين ذلكم التصوُّر كما في أ – ت أعلاه. فهذا التصـوُّر هو تصوُّر المتكلمين نحو عالمهم المحيط به في إنتاجهم وتفسيرهم للغةِ التواصل بعضهم ببعض.

ولهذا لا ينسجم هذا التنبيـه مع قولهم الذي ينفي أنَّ “هناك من يرى أن التعبير اللغوي هو في حقيقة فعله لا يؤسس أية معانٍ، وهي رؤية ساذجة. وفي الجهة المتطرفة لهذه الرؤية النظرية التي لم تقارب رؤيتها مقاربة جادة كما أعلم ترى أن الكلمات لا تقف نيابةً عن أي شيء على الإطلاق، كما لا توجد جملة نستطيع أن نطلق عليها صادقة أو كاذبة. إن هذه الرؤية من الصعوبة أن نـقُرَّهـا: وذلك لأن من البعيد أن من يفهم كلمة ’كلب‘ يستطيع أن يساوره شكٌّ في كونه عاجزاً أن يحدده من بين سائر الأشياء. وأنَّ مَنْ يفهم جملة ’الكلاب تنبح‘ يعجز عن التعبير عن حقيقتها في كونها الكلاب تنبح. وهكذا دواليك”.   هنا الأمر يتعلق بمحض معنى التصوُّر اللغوي دون اقترانه بتجربة نفسية، أو حالة إبداعية، أو لأمر الترجمة من لغة للغة؛ حيث المقولة الشائعة ’حالة يعجز عنها التعبير‘؛ أو الحالة الصوفية التي عبَّر عنها النِّـفَّرِي ’كلما وسعت الرؤية ضاقت العبارة‘. فمعنى التصوُّر اللغوي غير مقترن بأيةِ حالة من هذه الحالات التي ذكرناها.

أما في نص البيت 2 يقع الحدث كاملاً حيث الأحبة (أي: حبيبان) في كامل مشهد أُنس العشق، وأثناء ما هما كذلك، فإذا بطائر غراب ينعق مغادراً مكان مشهد أُنس العشق، ثم يتواتر النص قائلاً مباشرة “زعم الغراب أن الأحبة آذنوا بتناءِ”. فهنا ما يؤكده النعيق – حسب التراكم الثقافي – أن التنائي سيحدث بدلاً من هذا التقارب الذي يحققه أُنس العشق. فتَرُدُّ الذات العاشق بالفعل ’زَعَمَ‘ في نقض تأكيد النعيق. فبنى النص كل استدلاله على التراكم الثقافي للعلامة اللغوية ’الغراب‘. ينتمي هذا التراكم الثقافي الذي يقود نحو التشاؤم والتطاير إلى أن الغراب مذكور في سورة المائدة 27-31 “((وأتل عليهم نبأ ابني أدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الأخر قال لأقتلنك قال أنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه * قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين )). فهنا ’الغراب‘ – في التراكم الثقافي السلبي لهذه العلامة اللغوية – ارتبط بقوله “كيف يواري سوءة أخيه” الذي يؤدِّي أن حضور الغراب هو حضور الموت؛ بدلاً من حضور الغراب هو حضور ذكاء مواراة جثة الموت، وليس الموت نفسه الواقع من أحد الأخوين. ولأن العلم بالعلامات اللغوية قد يتراكم بالضد – أي تغليب الغراب في كونه حضوراً للموت، وليس حضوراً لذكاء المواراة – هيمن تراكم الضد ابتداءً من ذلك التغليب الخاطئ لرؤية القصة القرآنية. وبالرغم من أن علم السلوك الحيواني أثبت أن الغراب له معدل ذكاء عال ومعقد، يُصِرُّ التراكم الثقافي في تثبيته السلبي لهذه العلامة اللغوية ’الغراب‘. ومن مبالغات هذا الإصرار على التثبيت السلبي للتراكم هاجرت السمة الدلالية اللغوية لعلامة ’غراب‘ وهي (+ أسود) لتصبح رمزاً للحداد.

بالطبع لا يقتصر التواصل اللغوي حصراً على إنتاج معنى التصوُّر اللغوي الذي يعتمد أساساً على تعيين الدلالات الصغرى. ولكن، بالرغم من أن التواصل اللغوي يخرج من دائرة التصوُّر الجمعي لتعيين تلك المحدِّدات الدلالية الصغرى، إلا أن دائرة التصوُّر الجمعي هي القطب والأساس والأوسع استعمالاً في التواصل اللغوي اليومي. هي الأكثر احصاءً من حيث الاستعمال إذا ما قارناها بالأنماط اللغوية المعنوية الأخرى في التواصل اليومي.

فما الذي يجعل المتكلمين أن يخرجوا من الدائرة المعنوية المحققة لمعنى التصوُّر اللغوي من خلال تعيين الدلالات الصغرى؟ من المتعارف عليه عند جمهور علماء الدلالة أن هناك فجوة في توصيل المعنى يُـصطَلَح عليها بــفجوة التواصل. ويُعزى ذلك أن الخبر – سواء إثباتاً كان أم نفياً – قابل لأن يكون صادقاً true أو كاذبا  false؛ لذلك قد يُزاد الخبر بإتيان عبارات معينة، مثل الـحَلْف، وأدوات التأكيد، وأدوات بلاغية لتسد مسد هذه الفجوة. لذلك تعمل هذه الأدوات – في التواصل اللغوي المعنوي اليومي – لتُشكِّل نقلة نوعية في سد تلك الفجوة المعنوية للتواصل. مما يجعل تصنيف اللغة اليومية في تواصلها المعنوي في وظيفةٍ كونها محض إبلاغية، والكتابة الإبداعية ذات وظيفة بلاغية تصنيفاً خاطئاً. فمتكلمٌ ما (على سفر في سيارة خاصة كراكب) قد يُفيد بخبرٍ ما “أنا عطشان”، ثم لا يجد استجابة سريعة من المخاطب (السائق) بِحُـكْم تلك الفجوة الناتجة من احتمال صادق/كاذب كثنائية ضدية، أو من احتمال صادق/لكنه قد يحتمل حتى نصل، كثنائية متدرجة، فيُسارع المتكلم بسد تلك الفجوة قائلاً “يا أخي العطش قتلني”. مما يجعل المخاطب (السائق) أن يميل لأقرب محطة يتوفر فيها ماء. فهذا كله عالم واقعي يُعبِّر عنه المعنى اللغوي اليومي في تواصل المتكلِّمِين.

هذا كله ما يُصطَلَح عليه بــِـمعنى التضمين اللغوي. بالإضافة إلى ذلك، نلاحظ الآتي: أن معنى التصوُّر اللغوي لعبارة /امرأة/ هو (+ إنسان، – ذكر، + عاقل، + بالغ). هذا هو التصوُّر الجمعي في الـمَـلَـكَة اللغوية لهذه العبارة في تلفظنا اليومي حين أقول ’تزوجتُ بامرأة جزائرية‘. ولكن قد تضفي اللغة تضميناً زائداً على المحددات الدلالية الصغرى الأربعة (+ إنسان، – ذكر، + عاقل، + بالغ) دلالات غير ناتجة عن تصوُّر الـمَلَكَة اللغوية مثل: ذات رحم، تلد، عاطفية، قريبة الدموع، ضعيفة، ناقصة عقل، لا تحتمل الأعمال الشاقة إلى آخره. فهذا يدخل ضمن معنى التضمين اللغوي. ولأنه يُلصق خصيصة على المحددات الدلالية الصغرى أطلق عليه اصطلاح معنى التضمين اللغوي اللاصق. هذه اللاصقة الدلالية تختلف من جيل إلى جيل، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن مكان إلى مكان. فهي ضمن المعنى اللغوي عند الذات الناطقة سواء استعملت هذه الذات تلك اللواصق أم سمعتها فهي ضمن اللغة.

استدلال النص يأخذ من معنى التضمين اللغوي هذا المستوى. ففي أن يسد النص مسد الفجوة المعنوية في التواصل لا يخاطب استدلال النص مخاطباً بعينه، وإنما يخاطب علاقات مكانٍ ما. ولذلك النص مـَـعْـنِـيٌّ بسد الفجوة في علاقات المكان، أو بسد الفجوة بعلاقات الذات البشرية. ولهذا نجد النصوص الكبرى لا يقوم استدلالها على معنى التضمين اللغوي اللاصق المتأثر براهن ثقافة لا تتجاسر نحو مستقبل تلك العلاقات المكانية في جوهر أمرها أو العلاقات البشرية في جوهر إنسانيتها.

ولأن استدلال النص يقوم على جوهرية العلاقات نجده قابل للاستشهاد وقابل لأن يعاد إنتاجه تجديداً مرة أخرى وقابل كذلك أن يتعدَّى حدود زمانه ومكانه ليكون صالحاً لاستشراف مكانٍ يختلف عنه اختلافاً كبيراً في الزمان والمكان.

قلتُ أعلاه أن العلامة النصية يعتمد معناها على التراكم الثقافي في مكانٍ بعينه، قيد أن يتجاوز هذا التراكم تمثيلاً ليس في حدود أن يتمحَّـل في مكانٍ بعينه. وهذا التجاوز يعمل على قانونٍ أساسي من قوانين الكتابة وهو أن العلامة في العالم البراني للنص لا نهائية، أي غير منتهية، بينما هي في علاقات عالم النص منتهية. ما نقصده بهذا القانون أن العلامة في العالم اللغوي البراني للنص لا نهائية بمعنى أنها قابلة للتقلـُّب والتضاد والتضارب، بينما هي في النص منتهية داخل علاقات النص نفسه التي لا تسمح للعلامة النصية أن تتقلب وتناقض نفسها كالذي يحدث في العلامات اليومية المحيطة بنا في حياتنا.

في هذا القانون الأساسي للكتابة لا يسمح الأمر أن يُحال ضمير المتكلم في النص باعتباره هو ضمير متكلم يرجع إلى المؤلف تماشياً مع ضمير المتكلم في اللغة اليومية خارج النص. وذلك في الجهتين معاً: جهة الكاتب حيث لا يُضيِّق على النص في سقوط قانون إنتاج الكتابة، وجهة الناقد حيث لا يُضيِّق على ما فوق تفسيره للنص في سقوط المعرفة.

بالنسبة إلى تحليل الاستدلال يبدأ أيضاً من المميزات الاستدلالية للنص دون الوقوع في صفات انطباعية تحل محل تلك المميزات. باختصار، يستوعب تحليل الاستدلال النصي كل السيميولوجيا متضمنة النظام اللغوي؛ مثلما طبقنا ذلك مثالاً لا حصراً في رقم 2 أعلاه.

II- تحليل الاستدلال النصي

1- عمري الآن خمسون عاماً، وهو نفس عمر أمي حينما توفاها الله منذ ثلاثين سنةً بالكمال و التمام، وأحكي الآن عنها ليس من أجل تخليد ذكراها الثلاثين، كما يفعل الناس أن يحتفوا بذكري وفاة أمهاتهم اللائي يحبون، ولو أنني أحبها أيضا إلا أنني أحكي الآن عنها تحت ضغط و إلحاح روحها الطاهرة، أقول ضغط وإلحاح، و أعني ذلك، على الرُغم من أن أمي ماتت منذ أكثر من ربع قرن إلا أنني لم أحس بأنها ميتة.

العبارة الأساسية هنا عبارة”تحت ضغط وإلحاح روحها الطاهرة”؛ وما يؤكد هذه العبارة الأساسية عبارتا  “أقول ضغط وإلحاح” وكذلك “أعني ذلك”. لكن لماذا يقول النص  هاتين الجملتين:

أ‌- “أمي حينما توفاها الله منذ ثلاثين سنة بالكمال والتمام”

ب‌-  “أمي ماتت منذ أكثر من ربع قرن”؟

تُشكِّـل هاتان الجملتان جملتين نظميتين للعبارة الأساسية، وهما: “منذ ثلاثين سنة بالكمال والتمام” وكذلك “منذ أكثر من ربع قرن”؛ وذلك في ظلال ’الضغط الروحي‘ النازل في روح الراوي. هذا الضغط يجعل عبارة “ربع قرن” تتجانس من حيث تهويل البُعد الزمني من عبارة “ثلاثين سنة”. نظمية النص في علو فحوى العبارات التي تدل على ذلك الضغط الروحي في روح الراوي. لذلك عبارة “بالكمال والتمام” في تَتِمـَّـة الجملة (ألف) ترتبط بكِبَر الحساب مما نحسب؛ وليس بفحوى التهويل، فهي هنا تشكل نظمية أخرى تأتي جملتها كالآتي:

ت‌-  “هو نفس عمر أمي حينما توفاها الله منذ ثلاثين سنة بالكمال والتمام إلا أنني لم أحس بأنها ميتة”.

تقود الجملتان النظميتان هنا إلى هذه الحالة عند الراوي: حالة ضغط روحي وفي الوقت نفسه أن الراوي لم يحس بموت أمه. بعبارة أخرى إنها حالة ضغط المعايشة الروحية. هذه الحالة لا يقود فيها فحوى ضغط إلى مفهومٍ سلبي، كأن تستدعي عبارات سالبة مثل ضغط الحياة، ضغط الدم، ضغوط مالية، ضغط عالي شديد. . . إلخ؛ وإنما إلى فحوى ايجابي. إنها حالة اللذة الروحية في معايشة طيف الأم. مما يجعل عبارة الصفة adjectival phrase  وهي “روحها الطاهرة” عبارة أساسية، في طهارة ذلكم ’الضغط‘ ضغطاً ايجابياً يُـطَهِّر روحي هو كذلك.

عبارة اللذة في اللذة الروحية في معايشة طيف الأم تعني مصطلحاً استخدمه جاك لاكان في العبارة الفرنسية jouissance وتعريبها جوايسانس؛ أي المتعة التي ما بعدها متعة حين تتجاوز أساس لذة السعادة. وقد يتضمن المصطلح ما يفوق الأورجازم. بهذا سأعدِّل في عبارة تلك الحالة كالآتي: اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم. وهنا اللذة تقود إلى الأورجازم، والابتهاج يقود إلى الروح. ذات الراوي تسكنها حالة في انقيادين: انقياد تجاه اللذة حيث الأنا، وانقياد تجاه الابتهاج حيث الأم.

هذا التجاور في ذات الراوي (تجاه اللذة في جوار تجاه الابتهاج) ليس بتجاور تضاد، وإنما متكامل. هذا التكامل تقوم بتفعيله عبارة الإلحاح في “إلا أنني أحكي الآن عنها تحت ضغط و إلحاح روحها الطاهرة”. في أغلب الأحوال يتحول الإلحاح إلى حقيقة: ففي هذه الذات تلحُّ عليها روحها الطاهرة بتكرار مكثَّفٍ فعليٍّ يومي؛ بل لحظوي: حيث تُـلِح، وتُـلِح، وتُـلِح … إلخ  لينتج هذا الإلحاح إلحاحُ الأم حقيقة اللذة في تكاملٍ مع حقيقة الابتهاج.

الآن، تُنتجُ لنا هذه الفقرة الأولى الاستدلال الأول في النص وهو: اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم في حقيقة تكامل اللذة والابتهاج.

2- لأنها بالفعل لم تكُ كذلك، إنها أخذت إجازة طويلة ونهائية عن مشاغل الدنيا الكثيرة و مني أنا ابنها الوحيد بالذات، رفيق شقائها و سعادتها، ولكن أمي حالما تراجعت- مع مرور الزمن- عن فكرة الإجازة بعد ثلاثين عاماً فقط، وثلاثون سنةً في زمن الموتى- كما تعلمون- ليس بالكثير، يُقَال أنّ موتهم قد يطول إلي الأبد.

تجعل هذه الجملة النصية “إنها أخذت إجازة طويلة ونهائية عن مشاغل الدنيا الكثيرة ومني أنا ابنها الوحيد بالذات”  أن يسير الاستدلال مسارين: مسار الذات، ومسار الابن. لقد “أخذت إجازة طويلة” عن الابن لتسكن في روح الذات. عند الابن “رفيق شقائها“، وعند الذات “رفيق سعادتها” حيث اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم في حقيقة تكامل اللذة والابتهاج. خلاف هذين المسارين تخرق الفقرة الثانية من النص الاستدلال الأول.

3- بالأمس القريب بعدما قضيت نهاري الطويل في المدرسة حيث أعمل مديراً في مرحلة الأساس، وأنفقت مسائي البائس في نادي المعلمين ألعب الورق و أثرثر.

مدير مدرسة في مرحلة الأساس الابن/الذات معاً في الراوي. “أنفقت مسائي البائس في نادي المعلمين ألعب الورق وأثرثر” علو الابن ليمارس الهروب من (1) أعلاه حيث “ضغط وإلحاح روح الأم”، في شرط حذف عبارة “الطاهرة”. الهروب من هذا الضغط يقلب الوجه الآخر لعبارة “الضغط” في (1) أعلاه، ويتجه بها نحو المفهوم السلبي حيث يصبح الطيف طيف الأم جزءاً من الضغط اليومي فلا يُـفـرِّغ هذا الضغط سوى “أنفقت مسائي ألعب الورق وأثرثر“. فحين ألعب الورق تجيئني ورقة البنت السوداء (كارت بنت أسود) والحمراء (كارت بنت أحمر) كطيف أمي ضاغطاً ضغطاً مرهقاً، فالبنت (في كارت الكوشتينة)  ملفوفة كطيفها؛ فلا يعمل على تفريغ هذا الضغط إلا أن “أثرثر”. تلازم الثرثرة الفضفضة. أفضفض لينسل ذلك الطيف الضاغط.

هنا الذات والابن مع  حالتي “الضغط”:

ث‌ – الذات: إنها حالة أن يكون الضغط هو اللذة الروحية في معايشة طيف الأم.

ج‌ – الابـن: إنها حالة أن يكون الضغط هو جزءٌ من الإرهاق اليومي.

الآن يجئ الاستدلال الثاني في النص:  التعب المُضني في  طيف الأم في حقيقة كونه جزءاً من الإرهاق اليومي.

4 – عُـدْتُ مُرهقاً

جملة أساسية في تأكيد الاستدلال الثاني في النص.

5- للبيت الذي أقيم فيه وحدي، بعد أن تزوجت أكبر بُنياتي في هذا الأسبوع وذهبت مع زوجها تدب في بلاد الله الواسعة، مثلما فعلت ابنتاي اللتان يصغرنها عمراً في السنتين الماضيتين.

لا تقود “وحدي” هنا إلى الإحساس بالفقدان، لأن الشعور بالوحدة هنا ليس فيه فقدان الآخر في خطاب العاشق؛ وذلك أن “الآخر هو مركز الثقل حيث يعاد مذكوراً في سلسلة الدوال الصوتية ليكون حاضراً عند الذات”، كما يؤكد لاكان.[2] أما مجال “وحدي” هنا في غياهب مجال الابن لا تعاود دواله الصوتية ليكون الطيف حاضراً، بل تلك الدوال الصوتية ما هي إلا ثرثرة وفضفضة “في النادي” ليَنْسَلّ الطيف نحو النسيان.

6- وتزوجتَ زوجتي أيضاً قبل أكثر من عشرة أعوام من رجل يقولون إنه حبيبها الأول، بالطبع بعد أن طلقتني عن طريق محكمة الأحوال الشخصية بدعوى أنني لا أنفع كزوج أو رجل و أنها كرهتني.

قبل أكثر من عشرة أعوام”: زمن عبارة “وحدي” في (5) أعلاه. “عن طريق الأحوال الشخصية بدعوى أنني لا أنفع كزوج أو رجل وأنها كرهتني” تأكيد انعدام الآخر في تفسير (5) أعلاه. ومما يؤكد ذلك “يقولون إنه حبيبها الأول” في انعدام تشغيل خطاب العاشق، في انعدام معرفته بالآخر. في خطاب العاشق تتبادل ذاتان: الذات العاشق والذات الآخر، (حيث عبارة الآخر هنا في مصدر خطاب العاشق محايدة عن جنس النوع، لأن الذات هنا أندروجينية: انتفى عنها انقسام مذكر الآخر/ مؤنث الأخرى). وكذلك، تبادل الذات العاشق أن تكون كذلك مع الآخر هو شيء نسبي كتبادل المتكلم والمخاطب على صعيد اللغة. ففي لحظة معينة في ممارسة خطاب العشق تتبادل المواقع سريعة بين أن تكون الذات مرة عاشقاً ومرة هي الآخر يوماً بيوم. ولآن العشق ليس ديالكتيكياً تراكمياً، لا تستطيع الذات أن تتملك الدور في الخطاب العشقي اليومي.

الراوي في (6) هنا يخلو تماماً من عالم العشق الذي تحدثنا عنه في (5) أعلاه وهنا الآن.

7- ويعلم الله أنني لست بالشخص البغيض، و الدليل على ذلك أن بناتي الثلاث اخترن أن يبقين معي   في البيت ورفضن أن يذهبن معها إلي بيت والدها ثم إلي بيت زوجها الجديد: فمن منا البغيض و المكروه؟ هذا موضوع لا أحب أن أتطرق إليه إطلاقا، فهي على أية حال أم بُنياتي الثلاث

“يعلم الله” العبارة التي تعلو على بَرِّ القسم في تأكيد ونفي “لستُ بالشخص البغيض”.  لكن في عالم العشق عبارة “يعلم الآخر” أكثر وجوداً للتحقيق من “يعلم الله”؛ وفوق ذلك، نفي ’البُغض‘ لا يقود نحو إثبات العشق. هنا يخلط الراوي بين نفي البغض الذي يؤدي إلى إثبات الاحترام وبين نفي البغض الذي يؤدي إلى العشق. تختلط  أنوان: الأنا التي تكيل احتراماً هي نفسها الأنا التي تنضح حباً. تأتي هذه الأنا التي تكيل احتراماً بالدليل في كونه الراوي ليس بغيضاً “بناتي الثلاث اخترن أن يبقين معي في البيت ورفضن أن يذهبن معها إلى بيت والدها ثم إلى بيت زوجها الجديد”. هذا الدليل يقود إلى البقاء مع الأبوَّة وليس مع الأب كذاتٍ عاشق. ما تبحثه الأم كذاتٍ عاشق لم تجده في بيت الأبوَّة والاحترام “6-    وتزوجتَ من رجل يقولون إنه حبيبها الأول”.  هنا عالمان غير متتامين:

أ‌- عالم الانجاب والأبوَّة والاحترام كمُسوِّغ للوجود في عالم البيت حصراً.

ب‌-  عالم العشق الذي لا يحدُّه انجاب أو أبوَّة في وجود الوجود داخل عوالم أخرى.

ما يؤكد ( أ ) هنا “هذا موضوع لا أحب أن أتطرق إليه إطلاقاً، فهي على أية حال أم بنياتي الثلاث”.

8- كنت مرهقاً، زحفت إلى سريري زحفاً، رميت بجسدي على اللحاف الطيب الحنون، فهو آخر ما تبقى لي من أمٍ وزوجةٍ و بنات، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان باحتضانه لجسمي النحيل الهرم، كعادتي أترك الإضاءة خافتة فاترة تصدر من لمبة ترشيد استهلاك صينية صغيرة بخيلة، إلى الصباح.

“اللحاف” المنعوت بِـ “الطيب الحنون” في استبدال “أم/ زوجة/ بنات”، يعلو نحو أن يكون “المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان بِ احتضانه لجسمي”.  هنا يوجد اضطراب في استدلال النص:

في (1) عرفنا أن الراوي في لذة روحية مع طيف الأم، وهنا “اللحاف آخر ما تبقى لي من أم” في استبدال الأم. تلك الأم التي يعيش في لذةٍ روحية مع طيفها.

في (7) عرفنا أن الراوي فضلت بناته المكوث معه في البيت بدلاً من بيت والد أمهن أو زوج أمهن وهنا “اللحاف آخر ما تبقى لي من بنات” في استبدال البنات اللائي فضَّلن البقاء معه.

في (6) عرفنا أن الراوي في حالة “وتزوجت زوجتي أيضاً أكثر من عشرة أعوام”. وهنا ينصرف استدلال النص انصرافاً سليماً لا معوِّق له مع “اللحاف الطيب الحنون، فهو آخر ما تبقى لي من زوجة”.

بطريقة أخرى:

 لو قال النص “على اللحاف الطيب الحنون فهو آخر ما تبقى لي من زوجة”، وأسقط عبارة “من أم وبنات”، لاستقام استدلال النص. هل هذا التخريج صحيح مائة في المائة؟

فَــلْـنَرَ.

بقراءةٍ أخرى تقتضي بيان قراءة الحذف بإتيان المحذوف وهو كلمة ’حضور‘ نستطيع رفع الاضطراب الذي وقع في استدلال النص. فيجري إثبات المحذوف كالآتي: على اللحاف الطيب الحنون فهو آخر ما تبقى لي من حضور أم وحضور بنات.

لكن ما زال الإشكال في الاضطراب قائماً لأننا بتخريج الحذف علينا أن نقول: على اللحاف الطيب الحنون فهو آخر ما تبقى لي من حضور زوجة.

بينما الزوجة تركته للحبيب الأول. وهنا لا حضور لها مما يعيق حضور الأم وحضور البنات. وبالجملة؛ مما يعيق قراءة الحذف كلها طالما النص قد أتى بالمعينات الثلاثة على نسق العطف كالآتي “أم وزوجة وبنات”.

لنركِّز على هذا التنكير الذي يتراسل مع ما توصلنا إليه في حقيقة الراوي، وخلاف هذه القراءة يقع انسداد استدلال النص في كثير من المعوقات.  يأتي التراسل بين الحضور والغياب كالآتي:

أ‌- أشرنا من قبل أن الراوي يسير اتجاهين: اتجاهاً في كونه (الذات)، واتجاها ً آخر في كونه (الابن). ومع ما وصل إليه النص في الاستدلال الأول والاستدلال الثاني نقرأ ما يلي:

I- الذات في حضور الأم التي لا تموت في (1) أعلاه حيث الاستدلال الأول في النص هو: اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم في حقيقة تبادل اللذة والابتهاج.

II- الابن في غياب الأم التي ماتت في (3) أعلاه حيث الاستدلال الثاني في النص وهو: التعب المضني في طيف الأم في حقيقة كونه جزءاً من الإرهاق اليومي.

III- نأتي بِـ (8) أعلاه كاملة مع إدخال ما توصلت له I  وII كالآتي “8- اللحاف الطيب الحنون وهو آخر ما تبقى [للذات] من أم، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان باحتضانه لجسمي النحيل الهرم، [في غياب: الأم التي ماتت، في غياب الابن الذي يحس بالتعب المضني في طيف الأم في حقيقة كونه جزءاً من الإرهاق اليومي].

ب‌-   أشرنا من قبل أن الراوي مع زوجته يسير اتجاهين: اتجاهاً في كونه (الأب الذي يكيل احتراماً)، واتجاهاً آخر في كونه في انعدام (الذات العاشق/الآخر: التبادل غير المتحقق).

IV- الأب الذي يكيل احتراماً في حضور الأبوية، في غياب الزوجة التي غادرت كما في (6).

V- الأب الذي لا ينضح حباً وعشقاً في غياب تام لتبادل الذات العاشق/الآخر.

VI- نأتي بِـ (8) أعلاه كاملة مع إدخال ما توصلت له IV  وV كالآتي “8- اللحاف الطيب الحنون وهو آخر ما تبقى [للأب] من زوجة، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان باحتضانه لجسمي النحيل الهرم، [في غياب تام للعاشق].

ت‌- تأتي ت هنا فرعاً من ب السالفة لها؛ حيث يظل (الأب) في حضور أبوي للبنات اللائي كُنَّ، ولسن لهُنَّ وهُنَّ زوجات. ولذلك يقول صوت المكان في البيت على لسان الراوي: 7- “أن بناتي الثلاث اخترن أن يبقين معي   في البيت ورفضن أن يذهبن معها إلي بيت والدها ثم إلي بيت زوجها الجديد”. وبعد ذلك: 5- “أن تزوجت أكبر بُنياتي في هذا الأسبوع وذهبت مع زوجها تدب في بلاد الله الواسعة، مثلما فعلت ابنتاي اللتان يصغرنها عمراً في السنتين الماضيتين”.

VII- الأب الذي يكيل احتراماً في حضور الأبوية “6- هي على أيةِ حال أم بنياتي الثلاث”.

VIII- الأب الذي يكيل احتراماً في غياب هذا الاحترام بحُكْم البُنَيَّـات اللائي غادرنَ: التصغير بُنيات للتحبيب وللتشوُّق لفترة البنات اللائي كُنَّ صغاراً.

IX- نأتي بِـ (8) أعلاه كاملة مع إدخال ما توصلت له VII وVIII “8- اللحاف الطيب الحنون وهو آخر ما تبقى [للأب] من [بُنيَّـات]، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان باحتضانه لجسمي النحيل الهرم [في غياب تام لحنين البُنيات اللائي كُنَّ صغاراً].

قراءة الراوي قراءة من خلال حالتين نصيتين: حالة الذات وحالة الابن. مثل هذه القراءة هي القراءة التي رفعت كل المعوقات التي سدَّتْ استدلال النص في ما لو التزمنا أن نقرأ الراوي كحالة واحدة فريدة هي حالة شخصية واحدة؛ أو كشخصٍ واحد من شخصيات النص. مثل هذه القراءة تخلط الدلالة اللغوية باستدلال النص. في الدلالة اللغوية قد تكون الذات الناطقة المتكلمة للغتها في كل لحظة في اضطراب وبلبلة وتضارب، بينما صوت الشخصية في استدلال النص عليه ألا يتمحَّـل ويقع وقوعاً في ذلك الاضطراب والبلبلة والتضارب؛ ولو كان ذلك كذلك لفسد استدلال النص، وتقاصرت علاقات الاستدلال فيه. فما على النص النقدي إلاَّ أن يفتح كل احتمالات علاقات الاستدلال لرفع المعوقات الاستدلالية. وفي هذه الحال قد يلجأ أحياناً إلى دلالات أو قواعد أو منطق أو آيتمولوجيا عبارات اللغة بعضها ببعض، كواحدة من احتمالات قراءة النص النقدي لاستدلال النص.

9- و كدت أن أغمض عينيّ حينما سمعت كركرة كرسي على البلاط ثم رأيت على ضوء النيون الترشيدي الصيني البخيل، امرأة شابة تسحبه نحوي ثم تجلس عليه، قرب رأسي مباشرة، تحملق في وجهي بِحِنِيةٍ لا تُخْطَأ، ولو أنه كان لوحيدٍ مثلي أن يخاف، بل أن يُجَن من الخوف، إلا أنني صحت في دهشة وترحاب غريبين. – الله، أمي آمنة؟

“لوحدي” تشغيل المتوالية أ، ب، ت في (8) أعلاه وقفلها في نفس الوقت؛ سنرى قفلها بعد قليل؛ الآن في تشغيل المتوالية: أي “لوحدي” من أم، “لوحدي” من زوجة، “لوحدي” من بُنياتي. عبارة “وكدْتُ أغمضُ عَيْنَيَّ” في نفي النوم والحُلْم. مما يؤدِّي إلى عبارة أساسية هي: الـحملقة. ففي مقاربة إغماض العين:

أ‌- الحملقة: في مَن يشخص “امرأة شابة”.

ب‌-  الحملقة: في فعل “تسحب كرسياً، تجلس”.

ت‌-  الحملقة: في الحملقة “تحملق في وجهي”.

ث‌- الحملقة: في الإحساس “بحِنِّية”.

ج‌- الحملقة: في الصوت “سمعتُ كركرة كرسي على البلاط”.

ح‌- الحملقة: في الشاشة “على ضوء النيون الترشيدي البخيل”.  كلّ أ وب وت وث وج.

حملقة ب وحملقة ج تفترضان سلفاً “ولو أنه كان لوحيد مثلي أن يخاف، بل أن يُـجَنَّ من الخوف”. أما ما يخفف “لوحدي” المحمَّلة بالخوف والجنون هو حملقة ب حيث “امرأة شابة”، وحملقة ث حيث “بِـحِنيَّـة”، مما يجعل تلك المتوالية أ، ب، ت، في (8) أن تُقفَل وتنسد انسداداً تاماً في حملقة ح حيث الشاشة “على ضوء النيون الترشيدي البخيل”.

ما هي مهمة حملقة ت حيث الحملقة في الحملقة. تجري كالآتي: أنا الذات أحملق في شاشة “على ضوء النيون الترشيدي البخيل” وهي “تحملق في وجهي”؟

يرتكز التحليل النفسي عند لاكان في الحملقة[3] على النواة. وهذه النواة هي خلاصة التجربة قيد شيء واقعي، وهي النواة نفسها التي تَصْدُر عن حنق وصدمةٍ جريح، وتتحرك بفعل إيجو[4] مفترض. وحين تُنشئ هذه الذات حكايةً بصورة باطنة بقوة تكثيف تلك النواة، إنما تُنشئ مقاومة خطاب لتلك الحكاية. فالجملة التامة من حملقة أ وحملقة ت وحملقة ث هي:

خ‌- امرأة شابة تحملق في وجهي بِحِنِّيَّـة.

في تبادل مع جملتي ذات الراوي في حملقة ح وفي نهاية 9 هنا أعلاه وهما:

د‌- أنا أحملق في شاشة ضوء النيون الترشيدي البخيل.

ذ‌- الله!! أمي آمنة.

نقول بدءاً، عند الذات المتكلمة الجملة تقع في الترتيب النفسي، وحين تنتظم في الترتيب النطقي تصبح تلفظاً. وهما ترتيبان متتامان يحققان وظيفة واحدة هي وظيفة الكلام. فالمخاطب – تأكيداً لذلك – قد يفهم أنصاف الكلام في مجرى الكلام العادي. الجُمَل الثلاث خ ود وذ جُمَل في الترتيب النفسي عند ذات الراوي دون أن تصل إلى الترتيب النطقي. وفوق ذلك، لا تبادل بين متكلم ومخاطب. فبينما تنفي 9- “وكِدْتُ أن أغمض عَيْنَيَّ” الحُلْمَ من ذات الراوي، وتنفي 9- “ولو أنه كان لوحيد مثلي . . . إلخ” الخوفَ والجنون كذلك من ذات الراوي، تؤكِّدان إثباتاً هو: أنَّ النواة عند ذات الراوي المتصلة بصدمة جريح هي موت الأم تنعكس تلك الصدمة إلى “حِنِّيَّـة”. فَمَصْدَر حملقة خ هو الـحِنِّيَّـة، ومَصْدَر حملقة د هو استقبال تلك الـحِنِّيَّـة. إذاً، في الإجابة عن سؤالنا أعلاه عن مهمة الحملقة يرد الاستدلال النصي الثالث:

الاستدلال الثالث للنص: الحملقة – هنا –  حملقتان: حملقة الـمُرسِل وحملقة المُستَقْبِل. وكلاهما يُشكلان رمزاً مستقِلاً مُفرَداً كسِجِلٍّ يجري إما تجاه المُرسِل أو تجاه الـمُستَقْبِل.

المُرسِل: امرأة شابة حنون. الأم.

المستقبِل: ذات الراوي ابناً “الله!! أمي آمنة”.

الرمز سِجِلاًّ مفرداً: إما تجاه الأم أو تجاه ذات الراوي.

الصفة “حنون” من الحال المُشَكِّل لهيئة الفعل “تحملق” تجعل الاستدلال الثالث للنص ينفتح في الاستدلال الأول للنص وليس في الاستدلال الثاني للنص.

الاستدلال الثالث يفتح الاستدلال الأول:  اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم في حقيقة تكامل اللذة والابتهاج.

ويقفل الاستدلال الثاني: التعب المُضني في  طيف الأم في حقيقة كونه جزءاً من الإرهاق اليومي.

10- ابتسمت المرأة الشابة الجميلة الحنون، وقد بدأت تتحدث في هدوء.

المُرسِل: المرأة الشابة الجميلة الحنون المبتسمة.

المُستقبِل: ذات الراوي ابناً “الله!! أمي آمنة”.

الرمز سِجِلاً مُفرداً: الحديث الهادئ (إما أن يتجه للمُرسِل أو للمستقبِل).

11- حكت قصة حياتي منذ ميلادي بالدقيقة والثانية، حدثاً حدثاً، أخذت أستمع إليها في صمت وتعجب.

المُرسِل: المرأة الشابة الجميلة الحنون المبتسمة تحكي قصة حياة . . . . . .  بالتفصيل الدقيق.

المُستقبِل: ذات الراوي ابناً أو الابن (. . . . . .  يستمع بصمت وتعجب).

الرمز سِجِلاًّ مُفرداً: حكاية الذات الراوي أو حكاية الابن بالتفصيل منذ ميلاد . . .

12- كأنما من يُحْكَىْ عنه ومن يُحْكَىْ له ليس سوى صنوين لي ضالين.

لو جاءت جملة النص ’لقد كان مَنْ يُحْكَى عنه ومن يُحْكَى له صنوين لي ضالَيْن‘، لكان كلا “مَنْ يُحْكَىْ عنه” وهو ابن الأم، و”مَنْ يُحْكَىْ له” وهو المُستقبِل ليس مصدرهما الحملقة، وإنما كان مصدرهما الهلوسة. لذلك أداة التشبيه وما الكافة “كأنما” في 12 هي استغراق الصمت والتعجب في جملة “أخذتُ أستمع إليها في صمت وتعجب”، وهي جملة 11. فالحملقة تختلف اختلافاً نوعياً من الهلوسة، لأن الحملقة ترتبط بالنواة المكثفة المقرونة بإدراك واقعي. فالتكثيف هنا تكثيف تُبرزه عبارة “وحدي” التي جاءت نتيجة هذه النواة المُدرَكَة إدراكاً واقعياً كما يلي: موت الأم، طلاق الزوجة والذهاب لحبيبها الأول، ذهاب البُنيَّـات الثلاث، خرق مبدأ الأبوَّة الذي يكيل احتراماً ـــــــ فكان الحَنْق. وما يحيط بهذا الحَنْق خُواء، لذلك هذه العملية أو سيرورة النواة هي:

أ‌- النواة تتكاثف ارتباطاً بواقع؛ يؤدي هذا التكاثف إما إلى انصراف الذات في الغض من تغيير العلاقات، ومن ثم نحو الخواء والإخصاء، أو يؤدي ذلك التكاثف إلى الذات في تغيير سيرورة العلاقات ومن ثم نحو ثورة.

قلنا سلفاً – هنا – أن جملة 12 هي جملة استغراق في الصمت لحكاية القصة، وفي التعجب لحكاية القصة. والاستغراق من جهتين؛ جهة الصمت لابتسام الشباب الأنثوي الجميل الحنون الذي يحكي كما في 10؛ وجهة التعجب لأن تكون قصة المُستقبِل منذ ميلاده بالدقيقة والثانية حدثاً حدثاً، كما في 11. يتطوَّر هذا الاستغراق إلى عملِ نوعٍ من انفصال. انفصال المُسْتَقْبِل مِنْ ابن الأم وهو “مَنْ يُحْكَىْ عنه” أي مَنْ يُحْكَىْ عن أحداثه، وانفصال المُسْتَقْبِل مِنْ المُسْتَقْبِل الآن وهو “مَنْ يُحكى له”.

المُستقبِل الآن، وابن الأم الذي كان،  هما صنوان ضالان. لِـمَنْ؟ تقترح 11 لذات الراوي ابناً أو الابن. تسير هذه القراءة في احتمال أداة الاختيار( أو ) كالآتي:

ب‌-  المُستقبِل هو صنو المُسْتقْبِل الآن. وكذلك هو صنو ذات الراوي.

ت‌-  المُستقبِل هو صنو المُستقبِل الآن. وكذلك هو صنو الابن: ابن الأم التي تحكي أحداثه.

ث‌-  من ب وت يصبح الانفصال هو انفصال حالة تكاثف النواة (موت الأم، طلاق الزوجة والذهاب لحبيبها الأول، ذهاب البُنيَّـات الثلاث، خرق مبدأ الأبوَّة الذي يكيل احتراماً ـــــــ فكان الحَنْق).

إذا كانت كلمة ’صنو‘ تدل على الأصل الواحد، “شجرٌ صِنوان، من أصلٍ واحد”[5]، فإن انفصالي من حالة تكاثف النواة أصبح صنوي: أي، أصبح أصلاً لي، أبحث عنه فهو ضال.

13- كنت اكتشف تدريجيا أن حياتي كُلها معصية، وأنني كنت أجري وراء ملذات الدنيا وسقطاتها، ولو أن بعض الحوادث كانت تشير بوضوح إلى نُبلي ونقاء سريرتي، إلا أن المحصلة النهائية تبدو كما ذكرت.

“كنتُ أكتشف تدريجياً . . . إلخ” بقراءة الحذف (أثناء انفصالي عن النواة، كنتُ أكتشف تدريجياً . . . إلخ). ففعل الماضي المستمر “كنتُ أكتشف” –  على شاشة النيون البخيل – يعني كنت أقوم بمعرفة الفصل عن النواة تدريجياً. إنها معرفة شيئين:

أ‌- معرفة تفاصيل الحكاية المحفوفة بالصفات “حياتي كلها معصية”.

ب‌- معرفة تفاصيل أحداثٍ بعينها غير محفوفة بصفات “تشير بوضوح إلى نُبلي ونقاء سريرتي”.

“معصية، ملذات الدنيا، سقطات الدنيا” عبارات تُشيرُ إلى التقويم الديني للذات؛ من جانبهم (هُمْ) أي: تفسير الآخرين تفسيراً دينياً للذات. التفسير المحفوف بالصفات الدينية السالبة: المعصية في رفع الطاعة؛ وملذات الدنيا في رفع طلب الآخرة؛ وسقطات الدنيا في رفع خلود الآخرة. الذات تحت رحمة تفاسير (هُمْ) الدينية.

ذِكْرُ حوادث خارج أي تفسير وخارج أي صفات هو “نُـبْـلٌ ونقاء سريرة”. إنها السَّريرة غير القابلة لتفسير (هُمْ).

السَّرِيرة عند الصوفيين هو سر بين العبد والإله لا يستطيع بشرٌ أن يقول تقويمه في الدنيا طالما موازين الدنيا ليست هي موازين الآخرة التي هي موازين الله. لذلك قال أحدهم في استمراء تلك السَّريرة ’بيني وبين الله سِرّ، إذا انكشف السِّر باخت الربوبية‘. تقول الذات لتفسير (هُمْ) بيني وبين الأم سِرّ، إذا انكشف السِّر باخت الأمومة.

عند تفسير (هُمْ) تصبح “نبلي ونقاء سريرتي” ليست شيئاً سوى “معصية، وملذات الدنيا وسقطاتها”. الفعل “كنت أكتشف تدريجياً” هو الآن كنت أكتشف تدريجياً هذا السؤال لماذا تركت الذات نبلها ونقاء سريرتها تحت رحمة تفسير (هُمْ)؟

هذه هي “المحصلة النهائية تبدو . . .” وكذلك “كما ذكَرَتْ” الأم. عبارة (تبدو أو يبدو) في اللغة ليست فعلاً لأنها لا تحقق قانون التوافق بين الفعل والفاعل. تورد اللغة الفصحى البنات يبدو قد ذهبنَ. أو الأولاد يبدو قد ذهبوا. ففي كلتا الحالتين عبارة يبدو لا تتوافق صرفياً مع الفاعل: البنات، الأولاد. فالتوافق حاصلٌ بين البنات ذهبنَ، والأولاد ذهبوا تصريفاً للفعل حسب الخطاب وهنا الغائب، وحسب العدد وهنا الجمع، وحسب النوع وهنا مؤنث أو مذكر على التوالي. هنا جملة “المحصلة النهائية تبدو كما ذَكَرَتْ” الأم، محمولة على الحذف كما في “المحصلة النهائية (تجري، أو تظهر، أو تجئ . . . إلى آخر الأفعال المناسبة) كما ذَكَرَتْ” الأم. إذاً، تنتمي عبارة “تبدو” هنا إلى الظاهراتية في الوجود.

ما هي ظاهريات “المحصلة النهائية” عند هذا المُسْتَقْبِل؟

نتعامل الآن مع هذه “المحصلة النهائية” كظاهرة من الظواهر الوجودية. عبارة “المحصلة النهائية” فيها “المحصلة” تفيد الخلاصة، أي الخلاصة التي وضعوها (هم)، والخلاصة التي جاءت عبر أحداث خارج ألسنة حكايات الناس في (هُمْ)؛ وهي أحداث “نبلي ونقاء سريرتي”. وفيها كذلك كلمة “النهائية” التي تشير إلى لا شيءَ بعد ذلك، لا شيء بعد “معصية، ملذات الدنيا، سقطات الدنيا” التي تُنسَب إلى ذات المستقبِل. فالنهائية هنا التنميط النهائي لتلك الذات. فتقع هذه الذات في الشبكة الفولاذية لقفص تنميط (هُمْ).

ت‌-   تقع هذه الذات في الشبكة الفولاذية لقفص تنميط (هُمْ)، بقوِّة خطاب ما يدور في ألسنة الناس. وهذه تُشَغِّـل:

ث‌-   أن تكون أحداث نُبل هذه الذات نفسها ونقاء هذه الذات نفسها، في كونها أحداثاً لا خطاب لها؛ الأحداث هنا لا تتحدث إلى (هُمْ)، بل (هُمْ) هم الذين يقلبونها خرساء لا تقوى لرفع “معصية، ملذات الدنيا، سقطات الدنيا”.

ت وث أعلاهما – هنا – يُشكلان بنية ظاهرةمن الظواهر، هي ظاهرة (هُمْ). ويبدأ النظر في الظاهرة بدايةً ملموسة حين ننظر في الأمور نفسها the matters themselves.[6] والنظر في الأمور نفسها يبدأ من الإدراك. وبدايته من الحدث النفسي حيث الذات، تتراسل مع شيء خارج وعي هذا الإدراك. لكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الشيء الخارجي شيئاً ملموساً وفق الحواس الخمس. فهذا الحدث النفسي قد يتراسل مع شيء؛ هبه توهُّماً، فمن هنا يتراسل الحدث النفسي داخل ما يُصطلَح عليه الهلوسة. أو بطريقة أخرى رجل يمشي في غابة مظلمة، فيتقدم نحوه شخص، ولكن حين يقترب من ذلك الشخص، يتبيَّن أنه ليس شيئاً سوى شُجيرة. هذا ما يُعرَف بالإدراك الخداع. ولأن الإدراك هو في نفسه قصدي، يُعتبر الإدراك المتراسل مع شيء، وإدراك الهلوسة، والإدراك الخدَّاع كلها إدراكات قصدية. لذلك فالقصدية هي بنية تجربة حيَّـة، وليست ترقيعاً كما اتفق لتجارب مشتتة.[7]

ما نوع الإدراك هنا؟

تسير سيرورة هذا الإدراك حسب استدلال النص كالآتي:

ج‌- المُستقبِل (الحدث النفسي للذات) ـــ عبر الحملقة ـــ  يستحضر: الأم: شابة، عطوف، حنون. إدراك متراسل.

ح‌- المُستقبِل (الحدث النفسي للذات) ـــ عبر سماع الحكاية من الأم ـــ يستحضر: فصل الذات عن المُستقبِل وهو ما يُحكَى له، وعن الابن الصغير الذي كان وهو مَنْ يُحكَى عنه. إدراك هلوسة.

14- لا أدري كم من الزمن مكثت تحكي قرب رأسي، ولكنها بلا شك بقيت هنالك زمنا طويلاً، ولا أدري كم حكاية حكت، ولكنها بلا شك حكت حكايات شتى، و لا أعرف متى نِمْتُ ولكني بلا شك قد نمت متأخرًا جداً لأنني لم أستيقظ كعادتي – مثلي في ذلك مثل كل مديري المدارس – عند الرابعة صباحاً، بل أيقظني خفير المدرسة – مندهشاً- في فسحة الفطور حوالي العاشرة و النصف صباحاً، وثأثأ فيما يعني أنّ الجميع افتقدني، لقد كان أخرس ذا لغةٍ ملتبثة.

“لا أدري كم من الزمن. . . لا أدري كم حكاية حكت. . . لا أعرف متى نمت”؟ الزمن الطويل للهلوسة. إعلاء الإدراك ح في 13؛ بدليل سيطرة “الحكايات الشتى” منها من الأم. نقول إعلاء إدراك الهلوسة لأن الكلام من جانبها إليه في شكل حكايات، ولا يصدُر الكلام من جانبه إليها في شكل استعطاف جمل لأم شابة عطوف حنون.

لو جاء النص هنا كالآتي “لا أدري كم من الزمن مكثتُ أتحدث إليها وهي قرب رأسي، ولكنها بلا شك بقيت هنالك زمناً طويلاً، ولا أدري كم جملة قلتها لها، ولكنها بلا شك كانت تسمع جملي الشتى . . . إلخ”، لكان النص قد أعلى إدراك التراسل بالشيء.

“مدير مدرسة” “الجميع افتقدني” حالة ترجع إلى الأبوة التي تكيل احتراماً.

15- بقيت في رأسي جملة واحدة من كلامات أمي.- أنا كل يوم معاك لحظة بلحظة.

“كل يوم معك” إما نحو إدراك التراسل بشيء (الأم)، أو نحو إدراك الهلوسة.

16- لم أحك لأحد ما دار بيني و بين أمي، خوفاً من السُخرية والشماتة أو أن أُتهم بالجنون، وربما قد أفقد وظيفتي إذا تأكدت الإدارة من أنني جُنِنِت، وخاصة أنّ للبعض مصلحة في أن أُبعد، بصراحة لديّ أعداء كُثر، تكتمت على الأمر،

“خوفاً من السخرية والشماتة، الاتهام بالجنون، فقدان الوظيفة، للبعض مصلحة في أن أُبعَد، لدي أعداء كُثر” في تناقض مع 14- “الجميع افتقدني”؛ وبالتالي رفع الحالة التي تشير إلى الأبوة التي تكيل احتراماً.

لو قالت جملة 14-  جملة 14 أ “بعضهم افتقدني”، لاستقام النص من خرق هذا التناقض.  وكذلك يستقيم استدلال النص كالآتي: داخل مجال العمل هناك البعض الذي ينتمي إلى الأبوة التي تكيل احتراماً، والبعض الآخر ينتمي إلى (هُمْ) فتشتغل ث في 13 وهي مكررة هنا (ث‌- أن تكون أحداث نُبل هذه الذات نفسها ونقاء هذه الذات نفسها، في كونها أحداثاً لا خطاب لها؛ الأحداث هنا لا تتحدث إلى (هُمْ)، بل (هُمْ) هم الذين يقلبونها خرساء لا تقوى لرفع) معصية، ملذات الدنيا، سقطات الدنيا”. فتزيد 16 (هُمْ: يسخرون، يشمتون، يتهمونني بالجنون، وفقدان الوظيفة، لهم مصالحهم، أعداء).

17- اتصلت بي ابنتي الكبرى أمونة سميتها على أمي، سألتني عن صحتي وعن الوَحدة ولمّحت لي بأنه يجب عليّ أن أتزوج ولو من امرأة كبيرة في العمر، لأنني – في تقديرها- أحتاج إلى رفيق في وحدتي، وأنها تعرف أربعينيةً جميلةً مطلقةً لها طفلان، ادعيتُ بأنني لم أفهم ما ترمي إليه، ربما لأنني لا أرغب في الزواج، فقد أصبحت المرأةُ عندي كائناً جميلاً، يَصْلُح لكل شيء ماعدا الزواج.

تشغيل جانب الأبوة الذي يكيل احتراماً في أقصى حد “اتصلت بي ابنتي الكبرى” “سميتها أمونة على أمي” “السؤال عن الصحة ومعالجة وحدته في البيت واستبدالها بالرفقة” “اقتراح الزواج” “البحث عن زوجة مناسبة، ووجودها”. أمونة: مصدر العناية.

“المرأة عندي كائن جميل يصلح لكل شيء ما عدا الزواج” ــــ تعني ما عدا أن تكون أباً: اهتزاز حالة الأبوة التي تكيل احتراماً في ذات المدير.

18- في هذا المساء كنت مستعدا لمحاضرة أمي آمنة، جاءت وكانت في كامل شبابها و جمالها في أثواب نظيفةٍ ملونةٍ زاهيةٍ تشع بهجةً، قالت لي – ظاهر عليك الليلة جاهز من بدري. فجأة خطرت لي فكرةٌ غريبةٌ، و شرعت في تنفيذها مباشرة، هكذا أنا أفكاري في أصابعي، مَدَدتُ أصابعي نحوها متحسسا أثوابها، فإذا بكفي تقبض الهواء، تمام الهواء، أما هي فقد اختفت، سمعت نداءها يأتي من أقاصي الغرفة، قائلة بصوتها الذي لم يفقد حلاوته طوال السنوات التي قضتها تحت التراب.- أنا صورة وصوت، صورة وصوت فقط. قلت لها- أنا خايف تكون دي هلوسة…هلوسة ما أكتر. قالت لي بذات الصوت الذي أعرفه جيداً و صاحبني طفولتي كلها- أنا كنت دايماً قريبة منك.

“في هذا المساء كنتُ مستعداً” أي كنت ُ مستعداً لفتح:

أ‌- الاستدلال الأول للنص عند الراوي – في 1 – وهـو: اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم في حقيقة تكامل اللذة والابتهاج.

ب‌- أو لفتح: قصة ظاهريات المحصَّـلة النهائية لإكمال المستفاد من أحداث هذه المحصَّلة، كما في 13.

المحاضرة بالتعريف أو “محاضرة أمي” بتعريف الإضافة، يفيد فيها التعريف إلى تحصيل إفادات ومعلومات، بالإضافة إلى كونها عدة محاضرات متعاقبة في نفس الزمان والمكان؛ ودليل هذا التعاقب لدرجة إلفة الطيف جملة “مَدَدتُ أصابعي نحوها متحسسا أثوابها”. وهو ما يوجِّـه استعداد الراوي نحو (ب)، أكثر من ( أ ). أما جملة “جاءت وكانت في كامل شبابها وجمالها في أثواب نظيفة ملونة زاهية تشعُّ بهجة”، وجملة “بصوتها الذي لم يفقد حلاوته”  تقودان استعداده نحو ( أ ) أكثر من (ب).

الحملقة التي انفتحت في (9) أعلاه هي حملقتان: حملقة المُرسِل (امرأة شابة حنون. الأم)، وحملقة المُستَقْبِل (ذات الراوي ابناً: “الله!! أمي آمنة”). وكلاهما يُشكلان رمزاً مستقلاً مفرداً كسِجِل يجري إما تجاه المُرسِل أو المُسْتَقْبِل. هذه الحملقة تكاثف أن يكون الاستعداد لفتح ( أ ) و(ب) كليهما. لأن الحملقة تستدعي اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم، في فتح ( أ )، وهي نفسها تستدعي قصة ظاهريات المحصلة النهائية لإكمال الأحداث، بحكم قوة النواة التي ترتكز عليها الحملقة؛ وهي النواة التي تشكل خلاصة التجربة قيد شيء واقعي عند الذات، وهو ما يرجح فتح (ب).

ما يقوِّي أمر انفتاح الحملقة هنا هو خوف ذات الراوي أن يكون كل ذلك “هلوسة”؛ في “أنا خايف تكون دي هلوسة…هلوسة ما أكتر”. أي، الخوف من سقوط الحملقة نحو هاوية الهلوسة.

بين الـمُرسِل (الأم)، والمُستقبِل (الذات/الابن) قانون تراسل يجب ألاَّ يُنتهَك؛ هنا حين جاءت “مَدَدتُ أصابعي نحوها متحسسا أثوابها”، حدث انتهاك في قانون التراسل؛ مما أدَّى أن يتحوَّل الطيف إلى “أنا صورة وصوت، صورة وصوت فقط”.

في انتهاك التراسل بين المُرسِل (الأم)، والمُستقبِل (الذات/الابن) يستدعي ثلاثة نصوص أخرى هي:

ت‌-  أورفيوس مع يوربيدس: لا تنظر إلى الوراء.

ث‌- هانولد مع قراديفا: لا يخطر ببالك تكلم فقط.

ج‌- محيميد مع مريوم: لا يأتِك البصر طرفة عين.

ح‌- (هنا) الأم مع الذات/ الابن: لا تلمس.

لا الناهية (لا تنظرْ، لا يخطرْ، لا يأتِك، لا تلمسْ) خوف انتهاك فيه تتحوَّل الحملقة إلى هلوسة.  في الحملقة تستجلي الذات (ذات أورفيوس، ذات هانولد، ذات محيميد، ذات الابن) النواة التي تُشكِّل معايشة التجربة قيد شيء واقعي (عودة الزوجة عند أورفيوس، معايشة العشق عند هانولد، معايشة أن يعود العشق من ضياعه  عند محيميد، ومعايشة الحنان المفقود عند الابن).  هذا الشيء الواقعي محفوف بطيفٍ رقيق . . . مجرد فعل – مهما كان في دقة متناهية فيما يخطر ببال – يخرقه، فيخترق وجوده.

وأكثر الأفعال في ت إلى ح هو فعل ح: حيث اللمس. ما يبرر ذلك أن الابن يريد أن يلمس الحنان ويتأكد من حملقته التي ليست بمجرد هلوسة منه؛ يريد مشاركتها، مشاركة ذلكم الحنان. مما يبرر “قالت لي بذات الصوت الذي أعرفه جيداً و صاحبني طفولتي كلها- أنا كنت دايماً قريبة منك”.

القرب الأمومي، قرب صوت الأم، يحقق 19 أدناه:

19- أنا وأمي كنا صديقين حميمين.

في حذف ’وما زلنا‘ بقوة نتائج 18 أعلاه في جملة مراد النص “أنا دايماً قريبة منك”، وليس في جملة النص.

20- مرت بنا سنوات شدة عصيبة وسنوات فرح عظيمة أيضاً، أنا ابنها الوحيد ولا أب لي أعرفه إلي اليوم، منذ أن تفتحت عيناي على هذا المخلوق الرقيق النشط الذي لا يستريح من العمل  ويسعي مثل نمل الأرض بحثا عن حبة عيش نطعمها معا، كانت توفر لي كل شيء أطلبه، ومهما كان عصياً وأذكر أنني طلبت منها ذات مرة أن تشتري لي دراجة هوائية مثلي مثل صديقي في المدرسة والصف والكنبة : أبّكَرْ إسحق.

الصداقة في 19 تتأكـد في كلتا الحالتين: حالة “سنوات شدَّة عصيبة” التي تنتج “حبة عيش نطعمها معاً”، وحالة “سنوات فرح عظيمة” التي تنتج “كانت توفر لي كل شيء أطلبه”. ويُزاد على الملمح الدلالي [+صداقة] الملامح الدلالية التالية: [مخلوق، رقيق، نشط، عملي، ساعٍ]. الملمح الدلالي الرئيس هنا [+مخلوق]، وهي عبارة محايدة لا تنتمي إلى أنثى أو ذكر؛ بل تنتمي إلى حالة محايدة أخرى في استدلال النص وهي “أنا ابنها الوحيد ولا أب لي أعرفه إلى اليوم منذ أن تفتحت عيناي”؛ حيث ابنها الوحيد في حياد من حظوة البنين والبنات من جانب الأم؛ ولا أب لي في حياد النسب.

– لسان حال صداقة الابن مع الأم: “توفر لي كل شيء أطلبه، مهما كان عصياً”.

– لسان حال الابن: “طلبت أن تشتري لي دراجة هوائية”.

– لسان حال الوجود: الدراجة ليست عصية.

لذلك نتوقع توفيرها بحكم لسان حال الصداقة.

21- وأذكر إلي اليوم كيف أنها انتهرتني، بل قذفت في وجهي شيئاً كان بيدها في ثورة وغضب وأنها صرخت فيّ مؤنبة:

– إنت  قايل نفسك ود مُنُو؟ ود الصادق المهدي؟

أن يطلب الابن دراجة هوائية بحكم لسان حال الصداقة بين الابن والأم يجعل الابن أن يتوقع توفرها بقوة “توفر كل شيء أطلبه مهما كان عصياً”؛ لكن:

“انتهرتني” و”قذفت في وجهي شيئاً” وثارت وغضبت و”صرخت” وأنَّبَتْ تجعل ذلك التوقع أن يسقط. ما هي دواعي سقوط هذا التوقُّع؟

رأس دواعي هذا السقوط جملة “إنتَ قايل نفسك ود منو”؟

لأي صوت ينتمي الصوت الذي تلفـَّـظ بهذه الجملة؟ إنه صوت جاء على لسان الأم. ولكن استدلال النص – بهذا التخريج الحُكمي – يصبح متضارباً كالآتي:

أ‌- كما قلنا في بداية 21 هنا مكرر: أن يطلب الابن دراجة هوائية بحكم لسان حال الصداقة بين الابن والأم يجعل الابن أن يتوقع توفرها بقوة “توفر كل شيء أطلبه مهما كان عصياً”.

ب‌- نفس الأم هي التي انتهرت وقذفت في وجه الابن شيئاً وثارت وغضبت وصرخت وأنَّبت.

في عالم اللغة لا تضارب بين ( أ ) و(ب)، فشخصية واحدة، في هذا العالم، قد تتقلب في ما لا يُحصى من مواقف وأضداد؛ ولكن في عالم استدلال النص يقع التضارب بينهما، لماذا؟ لأن العلامات في واقع عالم اللغة لا متناهية، بينما في عالم استدلال النص متناهية وفق علاقات النص نفسه. ففي ( أ ) الأم توفر كل شيء مهما كان عصياً؛ وفي (ب) تتنكَّر لذلك غاية التنكُّر. مما يجعل حالات استدلال النص متباينة ومتغايرة.

لذلك ينتمي صوت جملة “إنتَ قايل نفسك ود منو”؟ إلى صوت المكان. صوت المكان هو الذي ثار وغضب لأن ابن هذه الأم ليس مثل “ود منو؟”.

لأي شيء تنتمي هذه الجملة؟ وهل هي جملة على صفحة الورق فحسب، أم هي شيء آخر؟ بالطبع هي ليست جملة على الورق، وإنما تنتمي لوجودٍ ما. إنها تحقيق لوجود. هذا الوجود هو وجود التفكير الميتافيزيقي: وفي هذا الوجود يقول صوت المكان “إنتَ قايل نفسك ود منو؟”

يحقق التفكير الميتافيزيقي وجوده من خلال الإقصاء أي الإبعاد؛ وهو إقصاء طرف في تقريب طرف آخر. هنا طرفان: طرف ابن هذه الأم، وطرف: ود منو؟ صوت المكان يُعلي ويقرِّب تحقيقاً (ود منو؟)، ويُقصي ويُبعد (ابن هذه الأم). وهو تشغيل ميتافيزيقي يجري من خلال فعل – يمكننا أن نطلق عليه – استورائي.  يقول المعجم “ورَّى الشَّيءَ : أخفاه وستره وأظهر غيره”. فتحقيق الفعل الاستورائي هنا أخفى وستر (ابن هذه الأم)، وأظهر غيرَه وهو (ود منو؟). طرفا الأضداد في أخفى / أظهر طرفان يشتغلان على إخفاء حقيقة علاقات المكان بإظهار صوت يطغى على حقيقة تلك العلاقات.

هذا الصوت الطاغي الجهور الـمُتلفظ به عبر صوت المكان تحقيقاً على ألسنة الجماعة، ويُشكِّل ذهنية قد ترتفع إلى حَـدِّ البداهة التي تسيطر سيطرة كاملة أصطَلَح عليه بـصوت المساهاة: ومعنى المساهاة تعني كل الظلال المعنوية لفحوى غافَـلَ، وسخر، وأحسن معاشرته دون استقصاء في التفاصيل. والارتفاع إلى حدِّ البداهة بتشكيل تلك الذهنية يجمع جميع طرق فحويات ’المساهاة‘ الموضحة قبل قليل. صوت المساهاة صوتٌ جمعي تنتجه ألسنة الجماعة اللفظية ويتحول مشكِّلاً ذهنية تغطي على العلاقات المكانية الحقيقية.

الوحدة الفاعلة في العلاقات المكانية الحقيقية هي الذات المكانية. هذه الذات المكانية لا تمارس وجودها وفق فعل استورائي إقصائي إبعادي؛ لذلك فهي لا تقع في أحابيل صوت المساهاة. الذات المكانية في ممارسة وجودها إنما تمارس العناية في المكان. هذه العناية وفق علاقات مكانية محددة تتجاوز كل شيء خارجاً لا يؤدي لوفرة العناية في تلك العلاقات المكانية.

أعلى درجات العناية في الذات المكانية هو تحقيق الوعي الداخلي بإنسانية الذات المكانية. لذلك علينا ألا نخلط الذات المكانية بمقاييس الإحصاء مثل أن نقول 20 مليون نَسَمَة. فقياسية نَسَمَة لا تحقق الذات المكانية، إنما الذات المكانية تقوم بتحويل الإحصاء إلى معرفة بعلاقات المكان. ولارتفاع الإحصائية والقياسية يرتفع الوعي الداخلي بإنسانية الذات المكانية في مساواة هذا السؤال الوجودي “هل أنت مُخلدي”؟[8]  هذا السؤال مَحْقاً لكل تفاوت في الذات المكانية. إذاً، الذات المكانية غير قابلة للإحصاء، وغير قابلة للتفاوت بعضها ببعضها.

– فإن كنتَ لا تستطيع دفع منيتي *** فدعني أبادرها بما ملكت يدي

المتكلم هنا الذات المكانية، والمخاطب هو التفاوت الذي يجري وسط (هُـمْ). هذه الـ(هُـمْ) هي في ثرثرة صوت المساهاة. وهي التي تمتلئ بالتفاوت، وبالصوت الطاغي الجهور الـمُتلفظ به عبر صوت المكان تحقيقاً على ألسنة الجماعة، ويُشكِّل ذهنية قد ترتفع إلى حَـدِّ البداهة التي تسيطر سيطرة كاملة.

ت‌- “إنتَ قايل نفسك ود منو؟”. صوت المساهاة: يطغى بصوته الجهور المُتلفظ به عبر صوت المكان تحقيقاً على ألسنة الجماعة.

ث‌- “ود الصادق المهدي”؟[9] صوت المساهاة: يُشكِّل ذهنية قد ترتفع إلى حَدِّ البداهة التي تسيطر سيطرة كاملة. تحقيق درجات التفاوت بين (هُـمْ).

المُحرِّك الأساسي في درجات التفاوت في المكان وسط (هُـمْ) هو القول “قايل نفسك . . .”. قارن هاتين العبارتين داخل نظام المُحرِّك الأساسي في درجات التفاوت:

ج‌- قايل نفسك ود منو؟

ح‌- قايل نفسك شنو؟

الاستفهام الاستنكاري في ج يجعل المستفهِم أن يفعِّـل المُحرِّك الأساسي في درجات التفاوت في المكان وسط (هُـمْ) في إعلاء ود منو وفي إقصاء وإبعاد نفس المخاطب في عبارة ’نفسك‘. وبهذا نفس ود منو أعلى من نفس المخاطب. فهل استفهام ج هو استفهام استنكاري؟ هو استنكاري في علاقات (هُـمْ). ولكن بالنسبة إلى الذات المكانية هو صوت المساهاة.

في ح الاستفهام الاستنكاري معكوس. هنا المخاطَب فعَّـلَ المُحرِّك الأساسي في درجات التفاوت في إعلاء نَفْس المخاطب في إقصاء وإبعاد نَفْس متكلم ح لذلك قال “قايل نفسك شنو”؟ فهنا المخاطب مُستدرك من صوت المساهاة الذي يستنكره المتكلم.

’قايل نفسك شنو”؟ صوت وجودي لتحقيق التوازن – يأتي بصيغ متعددة، وأحياناً مجرد حركة غير لغوية – ومحق ارتفاع صوت المساهاة، صدوراً من الوعي الداخلي بإنسانية الذات المكانية.

عبارة “ود الصادق المهدي” تقترن بعلامة مرجعية تجعل العَلَم رمز طائفة مذهبية دينية وفق التقديس. ولكن هنا صوت الأم هو الـمُقدِّس، أي هو الفاعل للتقديس. فالإشكالية في الشخص الذي يُقَدِّس أي الشخص الذي يفعل التقديس وليس في الشخص الـمقدَّس الذي وقع عليه التقديس. لأن التقديس مسألة مكان؛ فخارج حدود مكان التقديس يبقى العَلَم ’الصادق المهدي‘ لا قداسة له. ولهذا قلنا سلفاً أن صوت الأم “قايل نفسك ود الصادق المهدي” هو صوت المكان داخل حدود التقديس، وليس مطلق مُقَدَّس.

22- بالطبع ما كنت أعرف من هو الصادق المهدي ولكن سؤالها أثار فيّ سؤالاً آخر.

“مَنْ هو الصادق المهدي”؟ بيان جهل طفل تلك الأم. وهو الجهل الذي يقف علامة في أن تشغيل صوت المساهاة في إقصاء وإبعاد ’ود منو‘ ليُشكِّل ذهنية قد ترتفع إلى حَدِّ البداهة التي تسيطر سيطرة كاملة لم يكن مسيطراً لإدراك الطفل، السيطرة لم تصل إلى درجة التلقين. مما يؤدي إلى تحقيق درجات التفاوت بين (هُـمْ). ولكن عند الطفل بداهة ذهنية صوت المساهاة لم يكن في متناول إدراكـه؛ بل ما كان في متناول إدراكه سؤاله:

23- أنا ود منو؟

لم يقُلْ له صوت المساهاة الباحث عن قيمة النسب – المتأصلة في (هُـمْ) – ’مَنْ أبوك‘؟ جرياً على ألسنة زملائه أبكر اسحق وأترابه. وإنما جاء السؤال من ملاحظة مباشرة، هي: طالما أنا لستُ ابن الصادق المهدي، ابن مَنْ أنا؟ هذا الاستفهام المنحدر من الملاحظة الطفولية المباشرة هو إسقاط كون بداهة ذهنية صوت المساهاة لها وجود. ما أصبح حَدَّ البداهة ذهنياً جمعياً – مرة أخرى يقول هذا الاستفهام – لا وجود له. ولكن ألا نرى صوت المساهاة معنا في حياتنا اليومية، وأحياناً هو المتحكم علينا، وعلى تلك الحياة. نعم. ولكن هنا فرق بين الأشياء حضوراً في المظهر،  وهو حضور في المعيش، وبين الأشياء حضوراً في  الوجود.

المعيش: صوت المساهاة يُماري[10] الأشياء حضوراً في المظهر.

الوجود: تحقيق الذات المكانية وفرة علاقات العناية في المكان بقوةتحقيق الوعي الداخلي بإنسانية الذات المكانية.

24- ولم أسالها لأن السؤال نفسه لم يكن مُلحاً بالنسبة لي، لأنني لم أعرف قيمة الأب ولا أهميته ولا وظيفته. بالتالي لم افتقده، والآباء الكثر الذين في حينا لم يقم واحد منهم بعمل خارق تعجز أمي عن القيام به، بل أن أمي هي التي كانت تفعل مالم يستطع الآباء فعله، فهي تبني وتصين بيتنا بيديها، وتصنع السدود الترابية لكي تمنع مياه الخريف من جرف قطيتنا حيث أن بيتنا يقع على تخوم خور صغير، ولم أر أبا فعل ذلك، كانوا يستأجرون العمال حتى لصنع لحافاتهم و مراتبهم وغسل ملابسهم، إنه لأمر أدهشني كثيراً، ضف إلي ذلك أنّ أمي تعمل خارج المنزل في وظيفة مهمة، إنها تبيع الشاي و القهوة عند بوابة السجن ويستلف منها الجميع، حتى المأمور نفسه، لذا التبس عليّ الأمر.

أ‌- الأب هو الاعتراف البيولوجي لوالد الابن.

ب‌- الأب، أي هنا صورة الأب، وهي الصورة التي توفِّر للابن كل وسائل كنف الحياة.

الابن في (ب) يقول: أنا ابن هذا الأب المتحقق في توفير كل وسائل كنف الحياة من خلال “عمل خارق، البناء، لا تستأجر أحداً في عمل شيء، تصنع مهاد النوم، تؤمِّن البيت من الانهيار، تقوم بوظيفة هي مصدر مال يُستدان منه”. أما الابن في ( أ ) فيأتيه صوت المكان في مساهاة ’هُم‘. وهو الصوت الذي يفعل غافَـلَ، وسخر، وأحسن معاشرته دون استقصاء في التفاصيل في (ب)؛ فتستجيب (ب) عبر لسان صورة الأب “انت قايل نفسك ود منو”؟  وهو ما يجعل النص أن يُدلي بضمير المخاطب “لذا التبس عليَّ الآمر”. ما هو مصدر الالتباس هنا؟

ت‌- في التطور البشري الإنساني داخل علاقات عالم التاريخ وفق حركة الزمن تصبح ( أ ) و(ب) سيان داخل قَبول هذا العالم. في هذه الحال من خلال التبني، والأم في تحقيق صورة الأب حيث كل وسائل كنف الحياة تُوَرَّث كل الأشياْء في نهاية الأمر لحياة الابن. لأن (ب) تعمل عمل ( أ ) في كل شيء.

ث‌- في التقديس البشري الإنساني داخل علاقات عالم التاريخ المقدَّس وفق المُقدِّس الذي يقوم بالتقديس. تصبح ( أ ) طاغيةً على (ب) داخل دينية ( أ ).

هذه الفئة: فئة س [الأم: يستلف منها الجميع مالاً].

هي الفئة التي تتلازم مع فئة [20-  كانت توفر لي كل شيء أطلبه، ومهما كان عصياً].

هما (أي هذه الفئة س والفئة التي تتلازم معها) في منطق ت: في التطور البشري الإنساني داخل علاقات عالم التاريخ وفق حركة الزمن. هنا حركة الزمن في الأمومة والبنوة.

ولكن هذه الفئة: فئة ص [21- انتهرتني، بل قذفت في وجهي شيئاً كان بيدها في ثورة وغضب وأنها صرخت فيّ مؤنبة].

هي الفئة التي تتلازم مع فئة [إنت  قايل نفسك ود مُنُو؟ ود الصادق المهدي]؟

هما (أي هذه الفئة ص والفئة التي تتلازم معها) في منطق ث: هي في التقديس البشري الإنساني داخل علاقات عالم التاريخ المقدَّس وفق المُقدِّس الذي يقوم بالتقديس.

السؤال مرَّة أخرى: ما هو مصدر الالتباس هنا؟ هو أن تستبدل فئة س والفئة التي تلازمها في منتوجها (عالم التاريخ وفق حركة الزمن) منتوجَ فئة ص والفئة التي تلازمها وهو (عالم التاريخ المقدَّس وفق المقدِّس الذي يُقَدِّس ويقوم بالتقديس). أو العكس. بالجملة، أن يكون منتوج عالم التاريخ وفق المقدِّس الذي يُقدِّس، أو يكون منتوج العالم المقدَّس وفق حركة الزمن). فهما عالمان يترجحان بأصالتيهما دون التباس بعضهما ببعض. بصورة أخرى، كل عالم من هذين العالمين له تروسه الخاصة التي لا تعمل في ماكينة العالَم الآخر، وإلا قد يقع الالتباس.

25-والآن ولأول مرة أعرف من أمي أن من وظائف أبٍ غامضٍ يُسمى الصادق المهدي تقديم الدراجات الهوائية إلى من هم أطفاله، ولكن الشيء الذي أطاح بسؤال الأب نهائياً أن أمي آمنة بعد ثلاثة شهور أو أكثر، اشترت لي دراجة هوائية، ولو أنها ليست جديدة تماماً مثل دراجة أبكر اسحق، وأنها مستعملة من قبل، إلا أنني فرحت بها جداً وخصوصاً بعد أن أكد لي أصدقائي أنها دراجة جميلة و هي أجود من دراجة أبكر.

عبارة “وظائف أبٍ غامض يقدم الدراجات الهوائية”، وعبارة “أمي آمنة اشترت لي دراجة هوائية”، تجعل أدناه شيئاً واحداً:

24: أ- الأب هو الاعتراف البيولوجي لوالد الابن. ب- الأب، أي هنا صورة الأب، وهي الصورة التي توفر للابن كل وسائل كنف الحياة.

نستنتج: اتحاد معيَّن الأب البيولوجي، بالأب الصورة التي توفر للابن كل وسائل كنف الحياة قد اكتمل هنا.

26- أمي تعمل في صُنع الزلابية وأقوم أنا ببيعها للجيران في الصباح الباكر وتعمل فرّاشة في السجن ما بعد بيع الزلابية وشرب الشاي، وعندما تركت العمل في السجن، عملت بائعة للشاي عند باب السجن كمحاولة منها لتحويل زملاء الأمس إلى زبائن اليوم، وبالفعل استطاعت أن تكون منافساً حقيقياً لأم بخوت وهي إحدى زبوناتها في الماضي عندما كانت أمي تعمل فرّاشة.

“هي تعمل” و”هو يبيع”  تحقيق الاستنتاج في 25 أعلاه.

27- أما أنا فذلك الولد الذي يَطلق الناسُ عليه (وَدْ أُمُوُ) أعني لا أبرح مجلسها أبداً بعد نهاية اليوم الدراسي أحضر إلى موقع عملها، أغسل لها كبابي الشاي الفارغة، أحمل الطلبات البعيدة إلى الزبائن، أشتري لها السُكر و الشاي الجيدين من الدكان، أحكي لها عن التلاميذ، الحصص والمعلمين، وعندما أنعس تفسح لي مِرقَداً خلفها فارشة لي بُرشاً من السَعَف، متوسدًاً حقيبة المدرسة، عجلتي الجميلة قرب رجليّ تنتظرني: أنوم..

تفاصيل تحقيق الاستنتاج في 25 أعلاه.  تتراوح التفاصيل هنا بين لذة المشاركة في العمل، وبين لذة أنس الصدر الأمومي. تحقيق الاستنتاج في اللذتين معاً.

ينتج جانباً تحقيق اللذتين – لذة المشاركة في العمل ولذة أنس الصدر الأمومي –  ما أنتجته (1) أعلاه في بداية التحليل وهو اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم؛ متواصلاً في:

28- قلت لها في جرأة: “إنتِ وين الآن؟ في الجنة؟ في النار؟ في الدنيا؟ ووين كنتِ الزمن ده كلو؟” . . . قالت لي: “أنا هنا”.

“أنا هنا” في تحييد الجنة، النار، الدنيا. أنا هنا في اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الابن. تأكيد لذة أنس الصدر الأمومي.

29- كانت تجلس في الكرسي كما هو في اليوم الأول، سألتني عن مبررات كل ما قمت به في يومي هذا، وكنت أجيبها بصدق، تعلق أحيانا أو تصمت في أحايين كثيرة، ولكنها بشكل عام كانت تؤكد على أنه ليس مهماً أن ما أقوم به مقبولاً خيراً أم لا، لكن المهم هو، هل أنا أجد مبرراً لما أقوم به أم لا، هل أنا راضٍ عن نفسي أم لا.

“المهم هو ، هل أنا أجد مبرراً لما أقوم به أم لا، هل أنا راضٍ عن نفسي أم لا”؟ إنه سؤال الأم في الأب البيولوجي وصورة الأب، في إقامة توفير كنف الحياة، وفي إسقاط صوت المساهاة كما جاء في 21 أعلاه هناك كالآتي:

هذا الصوت الطاغي الجهور الـمُتلفظ به عبر صوت المكان تحقيقاً على ألسنة الجماعة، ويُشكِّل ذهنية قد ترتفع إلى حَـدِّ البداهة التي تسيطر سيطرة كاملة أصطَلَح عليه بـصوت المساهاة: ومعنى المساهاة تعني كل الظلال المعنوية لفحوى غافَـلَ، وسخر، وأحسن معاشرته دون استقصاء في التفاصيل. والارتفاع إلى حدِّ البداهة بتشكيل تلك الذهنية يجمع جميع طرق فحويات ’المساهاة‘ الموضحة قبل قليل. صوت المساهاة صوتٌ جمعي تنتجه ألسنة الجماعة اللفظية ويتحول مشكِّلاً ذهنية تغطي على العلاقات المكانية الحقيقية.

صوت الأم: ليس مهماً ما أقوم به مقبولاً خيراً أم لا.

صوت المساهاة: مهم جداً أن الخير خير والشر شر.

صوت الأم: المهم هل أجد مبرراً لما أقوم به.

صوت المساهاة: المهم ماذا يقول الناس؟

صوت الأم: هل أنا راضٍ عن نفسي أم لا.

صوت المساهاة: هل ذلك يُرضي الناس أم لا. تتضمن هل ذلك يُرضي الله ورسوله.

30- سألتني: هل توافق على اقتراح بِتَّكْ أمونة؟ قلتُ: أنا ما أظنني بقدر على النساء، كبرت وفقدت الرغبة في المواضيع دي، و أنا الآن قادر أقوم بواجب نفسي بنفسي من طعام وشراب ونظافة. المرأة الحقيقية الوحيدة في حياتي هي أنت وكفاية.

في 17 أعلاه نقرأ: “17- اتصلت بي ابنتي الكبرى أمونة سميتها على أمي، سألتني عن صحتي وعن الوَحدة ولمّحت لي بأنه يجب عليّ أن أتزوج ولو من امرأة كبيرة في العمر، لأنني – في تقديرها- أحتاج إلى رفيق في وحدتي، وأنها تعرف أربعينيةً جميلةً مطلقةً لها طفلان”.

وهنا “سألتني الأم هل توافق على اقتراح بِتَّكْ أمونة”؟  نلاحظ الآتي:

أ‌- أمونة الأم: “هل توافق على اقتراح بِتَّكْ أمونة”؟ سؤال صريح يُلْقَىْ على وجهه.

ب‌- أمونة الابنة: “لمَّحتْ لي بأنه يجب عليَّ أن أتزوج”. ملامحة إرسال الخبر.

ت‌- الابن: “المرأة الحقيقية الوحيدة في حياتي هي أنتِ”. الآخر في العشق عشقهما لا محل له مع الصدر الأمومي؛  تأكيد لذة أنس الصدر الأمومي.

ث‌-  الأب: “سميتها على أمي”، تتضمَّن المحبة الخاصة الممزوجة بروح الأم والابنة.

ج‌- الأب: “الحفاظ على صحتك، عليك أن تملأ وحدتك، عليك أن تتزوّج”. يقع تحت عناية الابنة الممزوجة بروح الأم. “سميتها على أمي”.

ح‌- صوت أمونة الأم: صريح للابن، يقدِّم صدراً أمومياً في أمان توفير كنف الحياة.

خ‌- صوت أمونة الابنة: يلامح الأب، يقدم تفسيراً له بدلاً عنه. في ج تقدم العناية الصحية وهنا تقدم العناية الروحية للأب.

التسمية المناسبة لقائمة (أ-خ) هي الأب مع الأمونتين. أمونة هي مصدر الصدر الأمومي، وأمونة أخرى هي مصدر العناية؛ في سياق الخلو، أي أب بلا زوجة، بلا أم بناته. إذا كان التعريف المحايد للطلاق هو الملل من انتظار أن يكبرا معا، فإن قائمة الأب مع الأمونتين هو بالنسبة للأب يُشكِّل سياق الانحياز، وهو الانحياز الذي يودُّ أن يكبر معه. انحياز الصدر الأمومي وانحياز العناية. يقول الأب سرَّاً: سأكبر مع هذا السياق المنحاز. إنه ضالتي المنشودة. فهو منذ 8 أعلاه يقول “اللحاف الطيب الحنون فهو آخر ما تبقى لي من أم وزوجة وبنات، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان باحتضانه لجسمي النحيل الهرم”. كل ذلك في رنين صراخ زوجته التي طلقته عبر المحكمة (ن. 6-7 أعلاه) “أنت لستَ زوجاً، لستَ رجلاً، أنا أكرهك، أنت بغيض”. لم يأتِ الصراع بين سياق الخلو، وسياق الانحياز صراعاً من ذات الأب قبل قائمة (أ-خ). فهو قبل هذه القائمة قد استسلم لسياق الخلو وقرر أن يكبر مع هذا اللحاف “8- المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان”. لكن لا شيءَ يقف عند حدود تسميتك له، كما قام الراوي بتسمية اللحاف واستكان لمعاملات هذه التسمية. ولكن حين تطلق الذات اسماً على شيء –  هنا الذات هو الأب والشيء هو اللحاف –  تنسى أن التسمية هي العلاقة الرغبوية بين الذات والشيء. لكن الذات في هذه العلاقة الرغبوية تلغي عنصراً مهماً هو عنصر علاقة الشيء بالأشياء خارج تلك الرغبة. هنا: اللحاف مع تهيئة الحُلم.

الاستدلال الرابع للنص: صناعة سياق الانحياز: من أمونة ’الأم‘ حيث هي مصدر الصدر الأمومي، ومن أمونة ’الابنة‘ حيث هي مصدر العناية في صدر الخلو الروحي.

 

31- ابتسمت أمي آمنة ابتسامة عميقة وحلوة، ثم تلاشت تدريجيا في فضاء الغرفة.

الابتسامة العميقة الحلوة من الأم هل هي رد فعل لقوله في 30″المرأة الحقيقية الوحيدة في حياتي هي أنت وكفاية”؟ أم لأمرٍ آخر؟ فَـلْـنَرَ هذا الحِوار:

الأم: هل توافق على اقتراح بتَّك أمونة؟

الابن: كبرتُ وفقدتُ الرغبة، المرأة الحقيقية الوحيدة في حياتي هي أنتِ وكفاية؟

الأم: (ابتسمت ابتسامة عميقة وحلوة).

جملة “فقدتُ الرغبة” من الابن للأم وهي تتخاطر مع اقتراح ابنته في الزواج ربما قد يؤدِّي إلى “قطبَتْ ما بين عينيها أمي آمنة” بدلاً من “ابتسمت أمي آمنة”. لكن هذا التخريج سيكون صحيحاً لو بين شخصين يتحاوران وهما بلحم ودم، ولكن هنا إنما الفيلم كله يجري من لاوعي الابن: فهو صانع الفيلم ومخرجه ومشاهده في آن. فما دلالة الصفة حين يصف ابتسامة أمه كونها “عميقة وحلوة”، وتتبعها مباشرة جملة “ثم تلاشت تدريجياً”؟

الوظيفة الأساسية هنا هو انتقال الحملقة من (مخادعة معايشة الأم) إلى تأكيد كونها الحملقة (معايشة الأم عِياناً). وهو حين يقرر للقارئ في كوني رأيتُ ابتسامتها العميقة الحلوة، رأيتها وهي تبتعد مني. لقد كانت تُكلِّمني كما أتحدث معك الآن. ولكن هذا التحول المُؤكِّـد للوعي يُقرأ في خلفية:

16- “لم أحك لأحد ما دار بيني وبين أمي، خوفاً من السُخرية والشماتة أو أن اُتهم بالجنون، وربما قد أفقد وظيفتي إذا تأكدت الإدارة من أنني جُنِنِت”.  الجنون من جانبهم وليس من جانب الراوي الذي يؤكد وجود الصدر الأمومي.

18- “قلت لها- أنا خايف تكون دي هلوسة…هلوسة ما أكتر. قالت لي بذات الصوت الذي أعرفه جيداً وصاحبني طفولتي كلها- أنا كنت دايماً قريبة منك”. الهلوسة من جانب الراوي، والخوف من ضياع الصدر الأمومي. . . تأكيد قرب وجود الصدر الأمومي من جانب الأم.

حالتا 16 و18 حالتان تؤكدان مع حالة 31 هنا وهي الحملقة في تأكيد كونها وعياً. فالحملقة التي أوضحناها سلفاً في 9 و12 ليست بجنون كما في 16، وليست بهلوسة كما في 18.

حلل فرويد (1856-1939) رواية قراديفا التي طُبعت أولاً عام 1907 للروائي الألماني فيلهم ينسين (1837-1911). وجد فيها فرويد أن المؤلف قد فاق علماء الطب النفسي في زمانه؛ وقد أتى بأشياء كانت مضيئة لتطور هذا العلم. فبطل الرواية هو نوربيرت هانولد وهو عالِم آركيولوجيا ألماني شاب يسكن المدينة الجامعية. وحين زار هانولد روما انجذب غاية الانجذاب بتمثالٍ رخامي لتلك الفتاة وهي تخطو خطواتٍ هيِّنة تَجِسُّ الأرض جَسَّاً؛ مما دعاه أن يشتري تميمة-علاَّقـة من نفس نوع ذلك التمثال المحبب. عاد إلى مدينته الجامعية في ألمانيا وعلق تللك التميمة على حائط حجرته. وحين ضربت عليها أشعة الأصيل، أصبحت يوماً بيومٍ تعشِّشُ في أعصابه، بل سكنته سُكنى لا فكاك منها. بدأ يبحث لها عن اسم، تلك الفتاة التي تخطو أجمل خطوة لا مثيل لها عند بنات البشر. ازداد الهيام، أطلق عليها في نفسه ولنفسِهِ اسم ’قراديـفا‘ – قراديـvـا – وهي الكُنية التي أطلقها عظيم شعراء ذلك العصر. ولذلك لابد أنها تنتمي للطبقات العليا، فهي ابنة رجل من عظماء المدينة. وفي الصباح الباكر وقف هانولد على نافذة حجرته يتأمل غدو ورواح الناس في سوق الخضار؛ وفجأة لمح بنتاً شابةً تخطو نفس خطوات قراديفا: إنها هي صرخ لنفسه، ثم نزل يعدو وراءها بملابس النوم. وحين جذبت صاحبة الخضار تلكزه ’ما بك هذا الصباح؛ هل أنت ثمل منذ ليلة البارحة‘؟ فما به سوى لم يَرْها؛ وعاد لتوِّه إلى غرفته. حلم في تلك الليلة أن قراديفا كانت تعيش في مدينة بامبي Pompeii. وهي مدينة كانت تقع شمال شرق نابلس. وهذه المدينة قد اِمَّحت من على سطح الأرض في عام 79م بسبب انفجار جبل فيسيوفيوس. وحين صحا كان طعم رماد الدمار على لسانه. قرر الفتى الولهان هانولد أن يسافر إلى المدينة القديمة بامبي عن طريق نابلس. وحينما وصل إلى هناك واستأجر غرفة في فندق، ذهب في المساء ليقابل قراديفا في تلك المدينة القديمة. وجد اللافتات باللغة اللاتينية، ثم هنيهة وقد ظهرت قراديفا. سألها باللاتينية فأجابته بالألمانية. مرة قالت له كنا هنا سوياً قبل ألف عام.

تقوم الرواية على هذا الهذيان العُصابي؛ لدرجة أنه حين يعود إلى الفندق يندهش أيما اندهاش في أن الناس في مقهى الفندق لا يجيبون سيرة لقراديفا. يقول فرويد:

أ‌- “أفكار الحلم الكامنة التي تبقى لا وعياً هي التي ترغب أن تحوِّل الراحة النفسية إلى فتاة حية”. [11]

ب‌- “نوعٌ من التشتت بسبب انحلال المكان. فليست قراديفا هي التي تُستعاد إلى الحاضر، وإنما الحالم هو الذي يسعى إلى الماضي”. ص. 226

ت‌- “قانون 1: الحلم يقترن باليوم السابق للحلم. قانون 2: إذا استمرت صور الحلم مدَّةً طويلة لا فكاك منها، فإن هناك فعل نفسي يؤكد في حدِّ ذاته الإحالة لمحتويات الحلم؛ وشيئاً فشيئاً تبقى تلك الصور في داخله حقيقةً وواقعاً. قانون 3: يقوم الحلم على تحريك وتفعيل الهذيان العصابي”. ص. ص. 224-225

ث‌- “حالة نوربيرت هانولد هي حالة يُطلق عليها حالة ’الهذيان‘”. ص. 202

الحملقة عند الراوي هنا لا تشابه – حتى تحليلنا الآن – هذيان هانولد. ففي الهذيان تقمع ذات هانولد في أن “هانولد ليست لديه رغبة في النساء الأحياء؛ لأن العلم الذي كَرَّسَ له حياته – وهو علم الآركيولوجيا – أخذ منه هذه الرغبة فوجهها إلى امرأة التمثال”.[12] في الحملقة عند الراوي – حتى الآن – لا يوجد أي نوع من أنواع القمع، بل تكثيف النواة الذي يبدأ من واقعٍ ما، هو واقع أن يدرك أنه وصل عمر الخمسين، ويدرك أنه العمر الذي بلغته أمه حين توفيت. تكثيف هذه النواة هو المؤدِّي للحملقة، وفق الاستدلالات التالية التي أوضحناها في شذورها أعلاه:

– اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم في حقيقة تكامل اللذة والابتهاج.

– التعب المضني في طيف الأم في حقيقة كونه جزءاً من الإرهاق اليومي.

– (في عزل التعب المضني) الحملقة هنا حملقتان: حملقة الأم مُرسِلاً، وحملقة الابن مُستقبِلاً. يشكلان كلٌّ منهما رمزاً مستقلاً مفرداً حصيلته الآتي:

– الاستدلال الرابع للنص: صناعة سياق الانحياز: من أمونة ’الأم‘ حيث هي مصدر الصدر الأمومي، ومن أمونة ’الابنة‘ حيث هي مصدر العناية في صدر الخلو الروحي.

يؤدي الاستدلال الرابع أن يقوم الراوي – فما عليه إلا ذلك – بتحقيق سياق الانحياز بِحُكْم اتفاق المصدرين مصدر الصدر الأمومي بدلاً من حنان اللحاف، ومصدر العناية بدلاً من استهجان الزوجة حيث لا عناية.

نأتي الآن إلى سؤالنا الذي طرحناه في مقدمة هذه الشذرة وهو مكرر هنا: الابتسامة العميقة الحلوة من الأم هل هي رد فعل لقوله في 30″ المرأة الحقيقية الوحيدة في حياتي هي أنت وكفاية”؟ أم لأمرٍ آخر؟ لأمرٍ آخر، الرضوخ إلى سياق الانحياز. نصف إجابة ينهض منها سؤالٌ آخر: كيف كان هذا الرضوخ؟

32- في الصباح الباكر اتصلت بي ابنتي أمونة مرة أخرى وقالت لي بوضوح إنها سوف ترتب لي لقاءً مع أربعينيةٍ جميلةٍ مطلقةٍ لها طفلان. قلتُ لنفسي:  ماذا ستخسر؟ فليكن.

“في الصباح الباكر” هو في صحوِ صباحٍ باكرٍ بعد لقائه مع الأم. عكس ما في 14 أعلاه حيث “لم أستيقظ كعادتي –  مثلي في ذلك مثل كل مديري المدارس عند الرابعة صباحاً – بل أيقظني خفير المدرسة – مندهشاً- في فسحة الفطور حوالي العاشرة والنصف صباحاً”. هنا أصحو مبكراً، وهناك صحوتُ متأخراً. فهناك التأخير لأن هناك “حكت قصة حياتي منذ ميلادي بالدقيقة والثانية، حدثاً حدثاً”. إنها ماضوية الاستماع؛ وهنا التبكير حيث التهليل متباشراً بتحقيق سياق الانحياز في تفريغ سياق الخلو.

“اتصلت بي ابنتي أمونة” في تخاطر مع  30 أعلاه حيث الأم “سألتني: هل توافق على اقتراح بِتَّكْ أمونة”؟ هذا التخاطر يقوم على تأكيد الرضوخ إلى سياق الانحياز، وكذلك على ما بعد هذا الرضوخ، وهو الامتثال لمعجزة هذا التخاطر.

* في تفسيرنا جاء: هنا التبكير حيث التهليل متباشراً بتحقيق سياق الانحياز في تفريغ سياق الخلو.

هل يتماشى مع هذا التبكير المستبشر هذا الهمس “قلتُ لنفسي: ماذا ستخسر؟ فليكن”؟ لأن هذا الهمس يستعمل سؤالاً ليس استنكارياً، ليس من سائل إلى مجيب، وإنما من نفسه لنفسه: ماذا ستخسر؟ كما ولا يعني أنك لن تخسر فما عليك إلا أن تذهب. طالما الأمر أنت لست وسيطاً فيه مُبَرَّأ من الربح والخسارة، بل أنت طرف أساسي مع طرف أساسي آخر، في تبادل شعور أطلقت عليه ابنتك وأنت قلته لنفسك  في 17 “أحتاج إلى رفيق في وحدتي”؛ ثم التعقيب “فليكن”. هذا التعقيب يشير إلى لا أباليه؛ أي لا يخطر في بالي. ماذا لو انتهت هذه الشذرة كالآتي:

– 32(أ)  في الصباح الباكر اتصلت بي ابنتي أمونة مرة أخرى وقالت لي بوضوح إنها سوف ترتب لي لقاءً مع أربعينيةٍ جميلةٍ مطلقةٍ لها طفلان. فانشرح قلبي.

ولكن 32 (أ) هنا تتعامل مع الراوي كشخصية أحادية؛ ولكن منذ الشذرة 3 و4 وكذلك 7 و8 نتعامل معها في حالتين: حالة الابن حيث يكون ضغط طيف الأم جزءاً من الإرهاق اليومي؛ وحالة الذات حيث يكون ضغط الطيف هو اللذة الروحية في معايشة طيف الأم. حالة الابن أنتجت عالم الأبوة والاحترام كمسوِّغ للوجود في عالم البيت حصراً. وحالة الذات أنتجت عالم العشق الذي لا يحده إنجاب أو أبوَّة في وجود الوجود داخل عوالم أخرى.

هنا 32 جملة النص تنتمي إلى حالة الابن في عالم الأبوة والاحترام كمسوِّغ للوجود في عالم البيت حصراً؛ وجملة 32 (أ) وهي جملة قراءة النص تنتمي إلى حالة الذات في عالم العشق الذي لا يحده إنجاب أو أبوّة في وجود الوجود داخل عوالم أخرى.

وبهذا التخريج تبقى جملة النص 32 متسقة مع الابن في عالم الأبوة والاحترام حيث لا خسارة ولا مبالاة في الأمر طالما جرب هذا العالم عالمه نفسه من قبل، فهو على أقل احتمال لا يكون في شدَّة ذلكم الذى مضى تاركاً بناته للحبيب الأول. لذلك فالشخصية تلتبس بين حالتين. حالة الابن وعالم الأبوة، وحالة الذات وعالم العشق.

ما زال السؤال المطروح فوق قائماً وهو هنا مكرر بتفصيل: كيف رضخ الراوي (الابن/الذات) لسياق الانحياز في صدر الخلو الروحي؟

33- كانت امرأة جميلة، لها ابتسامة دائمة في وجهها، لا تحتاج لسبب وجيه لكي تضحك، فهي تضحك باستمرار، و تستطيع أن تقنع أي إنسان مهما كان متشائماً أن يرد على ابتسامتها بابتسامة أخرى، ختى ولو كانت باهتة تعبة، ولكن الشيء الغريب فيها والمُدهش والمخيف أيضاً أنها ترتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها أمي آمنة بالأمس، نفس الحذاء، نفس الصوت نفس الطريقة في الكلام، نفس الوجه، نفس الابتسامة،  وأستطيع أن أقول إنها نفس المرأة.

المرأة الأربعينية التي اقترحتها الابنة وأكدت عليها الأم “لها ابتسامة دائمة في وجهها” تستدعي 31 – “ابتسمت أمي آمنة ابتسامة عميقة وحلوة”.

سؤالنا فوق كان هو: هل ابتسام الأم يرجع لأن الابن قال لها أنت المرأة الوحيدة في حياتي أم لأمرٍ آخر؟ كانت الإجابة نصف إجابة في 13 هي ” لأمرٍ آخر، الرضوخ إلى سياق الانحياز”. وهنا اكتمال النصف الآخر من الإجابة وهو: أمي “ابتسامة عميقة”، المرأة الأربعينية “لها ابتسامة دائمة”.  الابتسامة العميقة تقول لك:

– أيها الابن ستنال في عالم الأبوَّة ابتسامة الإنجاب والاحترام مرَّة أخرى.

لاحظ:

أ‌- “كانت امرأة جميلة”

ب‌- “فهي تضحك باستمرار، وتجعلك ترد ضحكتها مهما كنت متشائماً”

ت‌- “الغريب فيها والمُدهش والمخيف أيضاً أنها ترتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها أمي آمنة بالأمس”

ث‌-  “ترتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها أمي آمنة بالأمس، نفس الحذاء، نفس الصوت نفس الطريقة في الكلام، نفس الوجه، نفس الابتسامة”

ج‌- “وأستطيع أن أقول إنها نفس المرأة” مَنْ الذي يستطيع أن يجرؤ بهذا التصريح؟ مَنْ؟

تجري هذه الملاحظات من أ إلى ث من الابن أثناء لحظات اللقاء بينه وبين المرأة الأربعينية؛ وهو اللقاء الذي رتبته الابنة أمونة.  أما الفعل ’أستطيع‘ في ج  ففاعله (الابن وليس الذات).

فالذات هي التي تحقق: اللذة الروحية المبهجة في معايشة طيف الأم في حقيقة تكامل اللذة والابتهاج في عالم العشق الذي لا يحدُّه إنجاب أو أبوَّة في وجود الوجود داخل عوالم أخرى. فالذات يُشبعها طيف الأم في بعث إشباع عشقي خاص لا يقوم به الابن.

الابن – وهو الجانب الآخر عند الراوي – خلاف جانب الذات التي تبقى في 3- “أن يكون ضغط الطيف الأمومي هو اللذة الروحية” ينتمي  الابن إلى 3- “ضغط الطيف جزءٌ من الإرهاق اليومي”. ترتيب ذلك كالآتي:

2- الابن “رفيق شقائها”.

في 3- “انفقت مسائي في نادي المعلمين ألعب الورق وأثرثر” لتخفيف ضغط الطيف.

في 5- “وحدي دون الشعور بالعشق”.

في 6- “يخلو تماماً من عالم العشق”.

في 7- “ينتمي إلى عالم الإنجاب والأبوَّة والاحترام كمبرر لوجود عالم البيت، دون الالتفات لتحقيق العشق”.

في 17- لذلك الخلو “ابنته هي التي تقترح عليه الزواج من امرأة أربعينية”.

هذا الترتيب في جانب الابن/الأم عند الراوي يحاول أن يُسقطَ نفسه في ترتيب جانب الذات/الأم؛ ومبعث هذا الإسقاط ودفعه وتبريره هو هذا القاسم المشترك بين الجانبين:

في 9- “الحملقة: الله!! أمي آمنة”.

في 13- “كشفت نبلي ونقاء سريرتي”.

في 27- “ود أمُّـو”.

وبهذا القاسم المشترك الذي دفع نحو الإسقاط أي إسقاط الابن/الأم في الذات/الأم تبرهنه 30- سألتني: هل توافق على اقتراح بِتَّكْ أمونة؟ ثم 31- ابتسمت أمي آمنة ابتسامة عميقة وحلوة. فيأتي الإسقاط كاملاً: “ترتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها أمي آمنة بالأمس، نفس الحذاء، نفس الصوت نفس الطريقة في الكلام، نفس الوجه، نفس الابتسام؛ وأستطيع أن أقول إنها نفس المرأة”.

هذا الإسقاط لم يقل  ’إنها نفس أمي‘ بل قال “إنها نفس المرأة”. إنه تجنب الخصوص ’أمي‘ للانتقال إلى استغراق جنس الأنثى “المرأة”. هل في هذا التجنُّب اتقاء أن يقول المرأة الأربعينية التي اقترحتها ابنتي أمونة أن أتزوجها هي أمي. اتقاء الوقوع في عقدة أوديب: الزواج بالأم؟ ربما، بِـحُكم خليط أشياء تجعل إجابة ربما ممكنة: خليط الدالين الصوتيين، دال أمونة الابنة، ودال آمنة الأم، حيث سميتها على اسم أمي؛ وخليط فقدان العشق والعيش في سياق الخلو واللحاف الطيب الحنون كان الطيف مصدر الجمال.

قد تكون إجابة ’ربما‘ إجابةً مكتملة؛ ولكن الإسقاط لم يكن إسقاط الشخصية الذي يجئ في جملة (أنا . . . ) ثم تُملأ هذه النقاط بالشخصية المُسْقَط عليها كل التطابق. لا تأتي جملة الإسقاط في ضمير الغائب، كأن تجئ في جملة (المرأة الأربعينية هي أمي). إجراء الإسقاط على الغائب لا يُشكِّل إسقاطاً. لذلك نقول إن الإسقاط تم عند الراوي من جانب الابن/الأم حيث الشعور بفقدان العشق وتعويضه بالأبوَّة والاحترام، إلى جانب الذات/الأم حيث الطيف هو اللذة الروحية. مبدأ هذه اللذة – الجوايسانس – هو المبدأ الذي يُـفعِّل الإسقاط نحو استغراق جنس الأنثى: “إنها نفس المرأة” التي ستعيد الابن إلى الذات في وجود جديد للراوي.

____________

الهوامش 

[1] البيت للبحتري.

[2] Jacques Lacan. The Four Fundamental Concepts of Psycho-Analysis. Translated into English by Alan Sheridan, W.W. Norton & Company, New York-London, 1977, P. 203.

 [3] جاك لاكان “الانقسام ما بين العين والحملقة”. ترجمة عبد اللطيف علي الفكي، مجلة نقدي الالكترونية Naqdy.org

 [4]تعريف مختصر للإيجو والإد والسيوبر-إيجو: فالإد هو مجموعة نزعات فطرية غير منتظمة، والسيوبر-إيجو هو ما بمهمة نقدية أخلاقية؛   والإيجو هو شيء منتظم في البنية النفسية، وواقعي، يتوسط بين رغبة الإد والسيوبر-إيجو. هذا التعريف المقتضب جداً لتسهيل عملية القراءة لـمن لا يألف مثل هذه الاصطلاحات؛ وذلك دون الغوص في تفاصيل دقيقة تلزم علم النفس الطبي، عند فرويد ولاكان.

 [5] معجم أساس البلاغة للزمخشري، مادة ص ن و.

[6]Martin Heidegger. The History of the Concept of Time. Tran. By Teodore Kisiel, Indiana University Press, 1985, P.30.

 [7] انظر المرجع السابق نفسه.

 [8] السؤال والبيت الذي يليه من معلقة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد.

 [9] زعيم طائفة الأنصار، وحفيد محمد أحمد المهدي مؤسس طائفة الأنصار.

 [10] الفعل مارى صيغتها على وزن فاعَلَ – بفتح العين واللام – لتأخذ جزءاً من الفعل المعجمي وهو مَرِى. يقال ’هو مَرَى، في الأمر أي تمارى وشكَّ. والريح تمري السحاب أي تستدره، وهنا صيغتي مارَى تحمل الشك في فعل استدرار الحدث.

[11] Delusion and Dream in Wilhelm Jensen’s Gradiva. Trans. By Helen M. Downy. Green Integer, 2003, P.228.

 [12]نفسه، ص. 204.

* شاعر وناقد من السودان.

زر الذهاب إلى الأعلى