رياح أمشير
كنت قد انتهيت من ترتيب دكانة أبي، وكان الوقت لا يزال مبكراً على مغادرتنا إلى البيت، رغم أن الشمس تغيب سريعاً، في الشتاء.. منذُ تلك الأيام اكتشفت أن العلاقة مع الوقت شيء نسبي.. يطول اليوم إذا أراد الصبي ذلك وإن لم يرغب فالنهار قصير.
لا أتذكر الآن ماذا رتبتُ بالضبط، يمكن أن أتكهن ببضعة أمور حدثت. وصعب أن يكون ما سأرويه دقيقاً، تقول أمي إن لي ذاكرة قوية تساعدني في رواية القصص، ولا تدري أن هذه نقطة ضعفي الوحيدة. ضعف الذاكرة. يتعلق الأمر عندها بأن رواية حكاية يتطلب العودة إلى الماضي، في حين أن الأمر عندي مختلف. أن تحكي يعني أن تتخيل فحسب. والخيال لا مكان له إلا في المستقبل.
منذ سنوات طويلة جداً في طفولتي المبكرة حدثت أشياء كثيرة.. وقائع بعضها مهم وأخرى لا قيمة لها. وما أتذكره اليوم ليس المهم، ربما عديم القيمة. التافه بمنظور بعض الناس. وهذا كذلك يجعلني في حيرة، كيف يمكن أن تكتسب بعض الأمور تاريخاً خالداً وموضوعاً يلوكه الناس دون ملل منه، في حين أن وقائع يفترض أنها جديرة بالتذكر تذهب إلى مزبلة النسيان.
أفكر في ذلك كله الآن.. ربما لطبيعة عملي ارتباط بذلك، أو لأنني تدربت منذ الصغر على محاولة فهم المسائل الغامضة.. يقول أبي إنني كنت كثير الأسئلة ملحاحاً لا أتوقف عن توجيه الاستفهامات بشأن كل شيء تقريباً، بما في ذلك هوية الخالق.
الآن لا يبدو لي ذلك مدهشاً، كل طفل يمكن أن يطرح أسئلة مهمة وجديرة بالانتباه. الأمر يتوقف على والده إن كان سوف يهتم بذلك أم سيتجاهله، وهل سيتمسك بأن ابنه عبقري أم مجنون أم مجرد ثرثار.
لم يكن أبي يراني ثرثاراً. لسبب ما لا أفهمه إلى اليوم كان يسمع إليّ بدقة وأنا أوجه الأسئلة، أو أتكلم مرات عن أمور تخصني، في عوالمي التي أعيشها وحدي دون أن يشاركني فيها أحد. كائنات أتخيلها، قصص أرويها لنفسي أبطالها غير موجودين في الواقع إلا في خيالي، أو شخوص يأتونني في الظلام مع بداية الأحلام ليصنعون لي عالماً آخر كان مثيراً بالنسبة لي.
كان أبي سعيداً بي بوصفه ابنه البكر، البذرة الأولى التي قذف بها إلى الحياة، ربما كان يحبني كثيراً لا أعلم. وقد يكون هذا الحب قد تغير فيما بعد عندما جاء أخواني الآخرين فقلبوا الموازين، كثيراً ما أفكر في هذه المسألة المقلقة لي بعض الأحيان دون أن أعثر على تفسير لها، ثم أتركها كقضية كونية مستعصية أو معادلة فلسفية مرهقة تناقش سراً من أسرار الوجود وألغازه الكبرى.
نعم أتركها، وأمضي في سبيل حياتي المعتادة، لكنها كلما طرقت بذهني، أشعر بوخز أو ألم قوي في مكان مجهول من جسدي، أظنه في الرأس، حتى أنسى من أكون أنا بالضبط، وهل أنا جزءاً من هذا العالم!
رغب أبي أن يسميني محمداً تيمناً بالمصطفى خير الخلق، كالعادة أن يُسمى البكرعندنا بهذا الاسم، ثم كان ثمة خلاف في العائلة وحسمت القرعة الخيارات.
أمسك أحد أقاربي، لا أعلم من يكون بالضبط، الورقة المطوية، فتحها وقرأ الاسم. وأتخيل أنه كان كاذباً فقد قرأ اسماً مزيفاً ولم يرد ذلك بخاطر أي من الحضور ليصحح الوضع، لأنه لم يطلب أي من الجالسين والواقفين في الغرفة الكبيرة من بيت جدي الورقة لكي يتأكد.
مضى ذلك النهار ككل النهارات، كان الطقس بارداً جداً. الرياح الشمالية القاسية تضرب بالنوافذ والأبواب فتشعر جسمي الصغير بالبرد، وثمة من يتلصص على المولود الصغير عبر النافذة الكبيرة في الصالة، ربما كان جدي مهتماً بحفيده الجديد، ولا أعلم سراً لهذا الاهتمام فلست الحفيد الأول ولا العاشر، فلديه العشرات مثلي.
***
ليس في الدكانة من أغراض كثيرة تأخذ وقتاً طويلاً مني، ولم أكن أشعر بالملل من العمل، في حين كان أبي يساوم بعض زبائنه المعتادين، ممن يأتون في مثل هذا الوقت من كل يوم لشراء أغراضهم المنزلية. هذه المساومة التي كانت طقساً يومياً يتجدد كل نهار وفي النهاية يأخذ الزبون السلعة ويمضي لحاله ثم يضع أبي النقود في الحصالة لا يعدها، فقد كان يثق في زبائنه.
كنت أفكر في ذلك المشهد المتكرر على أنه لا معنى له سوى العادة، فالناس يعتادون أشياء ثم يفعلونها دون أن يفكروا فيها بشكل آخر أو يتعرضون لها بالنقد. لاحقاً فهمت أن ذلك يتعلق بأغلب تفاصيل الحياة وليس موضوع البيع والشراء فحسب.
ذهب أبي للصلاة في المسجد، وبقيت أرتب ما تبقى من جهة الباب الشرقي، فقد كان للدكانة بابان يطلان على الشرق والجنوب. فتحت الفترينة التي تحتوي على عطور قديمة منذ سنوات لا أحد يشتريها، أزحت الغبار جانباً مستخدماً الفرشاة ذات الشعر، وكان رأسي مشغولاً بواحد من كائناتي التي أفكر فيها لتسقط إحدى قارورات العطر على البلاط وتنكسر.
صرخ أبي، كان قد عاد، متى كانت الصلاة تنتهي سريعاً ليقبض عليّ متلبساً، كان قد رجع ليأخذ مسبحته التي نساها في درج الدفاتر المخصصة لتسجيل ديون الزبائن الذين درجوا على أن يدفعوا آخر الشهر.
شعرت بغضب شديد، ولم أتوقع أن أبي الذي دائماً ما كان هادئاً أن يصدر منه هذا التقريع المُروِّع لي. ولم أقل شيئاً، فقد كنت مؤدباً. كان أن اكتفيت بأن أحمل الزجاج المتناثر عن البلاط في خرقة بالية لأرمي به بعيداً قبل أن يطأه أحد.
بعد الصلاة عاد أبي، لم يكلمني ولم يبد اهتماماً بما سبق أن حدث، أخرج ورقة وقلم من درج الدفاتر كان يكتب ويشطب ويدوس على آلته الحاسبة متوسطة الحجم التي كانت معجزة زمانها، وكنت أحتار في طريقة عملها، بتجريبها متى سنحت لي الفرصة، كيف لهذا الصندوق الصغير أن يفعل العجائب، ومرة فكرت أن أفتحها لأرى ماذا بداخلها، وخفت أن أغامر بذلك فتخرب كما حدث لي مرة مع لعبة الضحاك التي كان عمي قد أحضرها لي في العيد من الخرطوم، كانت عبارة عن رجل يضحك بصوت مرتفع ثم يتمادى في الضحك ههههه.. هههه.. ههاهاهها دون توقف.
فتحت اللعبة مستعيناً بمفك صغير، ثم لم أر أي شيء سوى مجموعة من الأسلاك المترابطة وحديدة في الوسط. وكنت حائراً من أي يأتي الصوت، وسألت أبي فلم يعطني إجابة مقنعة، قال لي “إن الصوت مسجلٌ في السلك وأن هذا يشبه الكاسيت”.
* روائي من السودان