ترجمة

مقطع من كتاب / نفساً من حياة*

أريد أن أكتب بلا قواعد بنيوية ، كما أفعل بالزوايا الحادة ، لمثلث غامض جامد مرسوم بالمسطرة والفرجار .

أتعني عبارة “الكتابة” أنها موجودة في حد ذاتها وعن ذاتها ؟ كلا. انها مجرد انعكاس لشيء يتساءل . أنا أعمل بما هو غير متوقع. وأنا أكتب بالطريقة التي أفعل دون معرفة كيف ولماذا – انها قَدَرُ صوتي. جرس صوتي هو انا. الكتابةُ استفهام . انها هذا : ؟

أيمكن أن أكون أخون نفسي؟ أيمكن لي أن أغير مجرى النهر؟ يجب أن أثق بذلك النهر الوفير. أو ربما أنا الذي يبني السدود عليه ؟ أحاول فتح بوابات الفيضان، اريد ان اتفرج على تدفق المياه. أريد لكل جملة في هذا الكتاب ان تكون في ذروتها.

يجب أن أكون صبوراً فالثمار ستكون مفاجئة.

هذا كتاب هادئ. يتحدث، ويتحدث بهدوء.

هذا كتاب جديد – خرج مؤخرا من العدم. عُزف بدقة وثقة على البيانو وكل نوته فيه سليمة وكاملة ، والكل متميز عن غيره. هذا الكتاب حمامة زاجلة . أنا أكتب من أجل لا شيء وليس لأي احد. كل من يقرأ لي يفعل ذلك على مسؤوليته الخاصة. أنا لا انتج أدبا : أنا أعيش ببساطةٍ مرور الوقت. فعل الكتابة هو نتيجة حتمية لكوني على قيد الحياة. لقد فقدت رؤية نفسي منذ وقت طويل حتى أني متردد في محاولة العثور عليها. أخشى أن ابدأ. الوجود أحيانا يصيب قلبي بالخفقان. أنا خائف جدا من أن اكون  انا . أنا في غاية الخطورة.  لقد منحوني اسما ونفّروني من نفسي.

أشعر كما لو أني ما زلت لا أكتب. وأني أتوقع واريد وسيلة للتحدث تكون أكثر خيالية، وأكثر دقة، وبها المزيد من نشوة الطرب، وتصنع لوالب في الهواء.

كل كتاب جديد هو رحلة. لكنها رحلة بعينين مغمضتين  خلال بحار لم تكتشف أبدا من قبل – الكمامة على العيون، ورعب الظلام هما كُلّيين . عندما أحس إلهاماً ، أموت من الخوف لأنني أعرف أني و لمرة أخرى سأكون  مسافرا وحدي في هذا العالم الذي يصدني. شخصياتي ليست موضع لوم وأنا اعاملها بأحسن ما في استطاعتي. تظهر من أي مكان. فهي إلهام. الإلهام ليس الجنون. انه إله. مشكلتي هي الخوف من الجنون. ولا بد لي من السيطرة على نفسي. هناك قوانين  تحكم الاتصالات. اختفاء الشخصية  هو أحد أشراطها . الانعزالية والجهل خطيئة بالمعنى العام. والجنون  هو الالحاح في أن يكونا متحكمين على حد سواء . القيود التي تلجمني هي المادة الخام التي علي العمل عليها طويلاً طالما لم أصل إلى هدفي.

 أعيش في لحمي الحي، وهذا هو السبب في أني أبذل مثل هذا الجهد لأمنح شخصياتي جلداً سميكاً . ولكن لا يمكنني التصدي لها وجعلها تبكي دون سبب.

الجذور التي تحرك النفس لم تزرع أو أنها جذور أسنان ؟ لأني أيضا اتخلص من قيودي: أقتل ما يقلقني ،الخير والشر يزعجني وأنا أتهيأ كلياً لمواجهة عالم هو في داخلي، أنا الذي يكتب ليحرر نفسه من العبء الصعب لشخص يَكونُ ذاته .

في كل كلمة يدق القلب. الكتابة هي البحث عن الصدق الحميم للحياة. الحياة  التي تقض مضجعي وتترك قلبي المرتجف يعاني آلاما لا تحصى تبدو ضرورية لنضجي – النضج؟ لقد عشت طوال هذه المدة  من دونه !

نعم. يبدو أن الوقت قد حان للقبول التام بالحياة الغامضة لأولئك الذين سيموتون ذات يوم. يجب أن أبدأ بقبول نفسي وليس الشعور برعب العقوبة في كل مرة أقع فيها ، لأني عندما أقع، الجنس البشري في داخلي يقع أيضا. لأقبل بنفسي تماما؟ هذا يعد انتهاكا لحياتي بالذات. كل تغيير، وكل مشروع جديد أعده مخيفا: قلبي خائف. وهذا هو السبب في أن لكل كلمة من كلماتي  قلب حيث يتدفق الدم.

كل شيء أكتبه هنا مزور بالصمت والظلال. أرى قليلا، لا أسمع أي شيء تقريبا . أغوص أخر نهاية المطاف في نفسي وصولا الى مسقط رأس الروح التي تسكنني. مصدر امدادي غامض. أنا أكتب لأنني لا أعرف ماذا أفعل بنفسي. أعني: أنا لا أعرف ما يجب القيام به مع روحي. الجسد يحكي الكثير. ولكني لا أعرف قوانين الروح: فأدعها تجول. فكرتي، والكلمات التي تُعلنها  تنتعش في عقلي، دون قولي أو كتابتي أي شيء بعد  – هذه الفكرة التي تخصني تسبقها رؤيا لحظية، دون كلمات توضحها – للكلمة التي تلي، وعلى الفور تقريبا –  بفارق مكاني أقل من المليمتر. قبل التفكير، ثم، أكون فكرت بالفعل. أعتقد أن مؤلف السيمفونية  الذي لديه “فكرة قبل التفكير،” هل ما يمكن أن يرى في هذه الفكرة المكتومة السريعة جدا  هو أكثر قليلا من مناخها؟  لا . إنه فعلا مناخ ، تم تلوينه بالرمز، يتيح لي الشعور بهواء ذلك المناخ الذي منه يأتي كل شيء. ما قبل الفكرة يكون باللونين الأبيض والأسود. والفكرة بالكلمات تصير لها ألوان اخرى. ما قبل الفكرة هو لحظي. ما قبل الفكرة هو الماضي القريب للحظي. التفكير يُجسّم، ويُجسّد ما كان قبل الفكرة. ما قبل التفكير هو ما يقودنا حقا ، لأنه يرتبط ارتباطا وثيقا  بلا وعينا الصامت . ما قبل الفكرة ليس عقلانيا. انه عذري تقريبا.

أحيانا  يكون الشعور بما قبل التفكير مؤلما : إنه مخلوق معذّب يُجلد في الظل ولا يطلق سراحه إلا بعد التفكير – مع الكلمات.

تتطلبين مني جهدا هائلا في الكتابة. من فضلك، استميحك عذرا يا حبيبتي، اسمحي لي أن اتجاوزك. أنا رجل جدّي وصادق، وإذا كنت لا أقول الصدق فهذا لأن الحقيقة محرّمة . أنا لا أضع ما يُحظر  قيد الاستخدام ولكني احرره. الأشياء في طاعة النفس الحيوية. نحن نولد لكي نستمتع . الاستمتاع ولد فعلاً . عندما كنا أجنة استمتعنا بالراحة الكاملة في رحم الأم. أما بالنسبة لي، فأنا لا أعرف شيئا. ما لدي يدخلني عابرا جلدي ويجعلني اتصرف بشكل حسي. أريد الحقيقة التي تُعطى لي فقط عبر نقيضها، من خلال لا حقيقتها . لا يمكنني تحملّ الحياة اليومية. و يجب أن يكون  هذا هو السبب وراء أني أكتب. حياتي هي يوم واحد. هذا يشرح كيف أن الماضي بالنسبة لي هو الحاضر والمستقبل. كل ذلك في دوار واحد. واللذة هي من النوع الذي يسبب حكة لا تطاق في النفس. العيش سحري ولا يمكن تفسيره كليا. وأنا أفهم الموت أفضل. الكينونة  كل يوم إدمان. ما أنا؟ أنا فكرة . ألدي النَفَس في داخلي؟ هل أملكه؟ و من يفعل؟ من يتحدث عني؟ ألدي جسد وروح؟ هل أنا أنا؟ “هذا صحيح تماما، لقد كنت أنا،”  يجيبني العالم بفظاعة . و ينتابني الفزع. يجب ألا نعتقد  ان الرب فكرة فهو إما أن يفر أو أفعل. الاله يجب تجاهله والشعور به. ثم سيتصرف. وأتساءل: لماذا يطالب الاله بحبنا؟ الإجابة الممكنة: حتى نستطيع أن نحب أنفسنا وبمحبتنا، نغفر لأنفسنا. وكم نحتاج الى المغفرة. لأن الحياة نفسها تجيء مشوشة  بالخطأ.

والنتيجة من كل ذلك هو أن عليّ خلق  شخصية – كما يفعل الروائيونعادة، ومن خلال هذه الشخصية أفهم. لأنني لا يمكن أن أفعل ذلك لوحدي : العزلة ، نفسها التي توجد في كل واحد منا ، تجعلني اخترع. وهل هناك طريقة أخرى ليتم انقاذي؟ عدا خلق المرء حقائقه الخاصة؟ لدي القوة لهذا مثل أي شخص آخر – أليس صحيحا أن  المطاف انتهى بنا لخلق واقع هش ومجنون وهو الحضارة؟ هذه الحضارة لا تسترشد إلا بالأحلام. كل اختراع يبدو لي مثل صلاة العامي – مثلها في شدة الشعور، وأنا أكتب لأتعلم. اخترت نفسي وشخصيتي – أنجيلا  براليني – حتى أتمكن ربما من خلالنا أن أفهم ذلك الغياب لتعريف محدد للحياة. ليس للحياة صفة. انها خليط في بوتقة غريبة ولكن ذلك يسمح لي في النهاية، بالتنفس. وأحيانا بأن ألهث. وأحيانا ان أشهق . نعم ذلك صحيح. لكن في بعض الأحيان هناك أيضا النفس العميق الذي  يصادف الرقة الباردة لروحي، المنضمة إلى جسدي حتى الآن.

* مقطع من كتاب / نفساً من حياة للكاتبة البرازيلية الراحلة كلاريس ليسبكتور.

 

ترجمة: مأمون الزايدي

كاتب ومترجم من ليبيا
زر الذهاب إلى الأعلى