غوايات

طاولة

عمار

في تخطيطِ الرِقَّةِ عليك البناء على واقعٍ مُتَوهِّم. فِكرةٌ تَجوسُ طِوالَ حياتك. البنيةُ العميقة لضميرك الحيّ. تفكيرُك في شخوصك الروائية. ذلك الابتذالُ الخارقُ للمشاعِر. وتسميمُ النُبلُ في المنطق. كُلُّه خطأ إلَّا أنا؛ طاولةُ نفسي الشريدة.
………

طاولةُ أكسجينٍ مُرتَّبَةً كما يحلو لرئتي،
لا يُضيءُ سوادَها أكثر من غمَّازتيّها،
لؤلتيّها حين تهبطان على سخونةِ كفي.
في وهادِ قوائمها تهطلُ رقبةُ الناظر،
مليَّا.
قطعةُ نحاسٍ تبرُزُ عند المنتصف،
وظيفتها بهائيةٌ والتوازن.

طاولةٌ ليست قيد الاستخدام،
مثل نبتةٍ بلُّوريّةٍ لا وظيفيّة.
إذا اقتربتَ من تُربَتِها ترَى شجَّاً
يقتاتُ الأفعالَ، وينسجِمُ في العبور،
ليعودُ يلتهمُ فكرتك الصميمة.

طاولةٌ ليست x،
وأنتِ تجلسين عليها،
هكذا، موفورةُ السجايا.
وكمن تُراوِدُها تخيُّلاتِ ظَمَإٍ مرئيّة،
تُوشكين على الخُرُوجِ الغادرِ للمجرَّة.
تُنبِسينَ بِشفةِ الطاولة، بجديّةٍ مُبهَجة،
وتُرنِّمين فتترنّم.

طاولةٌ خاليةٌ من الخشب،
تقتَحِمُها غاباتِ الإنسانِ الأوّل،
وتسكُنُها مَهرجاناتِ الألمونيوم المُعاصِر.
تستاكُها ضُروسًا ضُروس.
في حَوافِها يجلسُ الصوتُ هادئًا،
وعند المغيب يُجرجرُ هزيمةَ الصمت،
غنجلبونات غنجلبونات.
فتصطكُّ الأرض.

طاولةٌ هي موطنًا حزينًا لصوتِ الشاعر،
موتُ قبيلته،
حين يرتكبُ معصيةً تِلْو أخرى في حقِّ الكلام.
يسحقُهُ عواءٌ ما،
فيصيرُ المسرحَ والجمهور؛
يضيعُ العالم.
عند تِلك اللحظات الجحيميّة،
وهلةُ ترتَبكُ حواسُكَ،
تبتدئُ الحياةُ الحيويّة
يُدمى قلبُك،
وتنحبسُ دُمُوعكَ من هولِ كيف ضاع التواصلُ البشريّ.
على الطاولةِ وُجِدتْ هذه الرسالة،
دون مُغلَّف،
معَ عُنوانٍ مكتوبًا بأحرُفٍ مضمومةٍ لا مُتجانسة،
(الكون:تعال).
خَتمتْ الرسالةُ بلاغَتها كالآتي:
تَخيَّلْ بعددِ أنفاسِ الخلائقِ “في معبَدك طّوَّاف”.
والمؤمنُ، وَحْدَهُ المؤمنُ يُدرِكُ الصلواتِ الكاملة المرسُومة على جدارِ مُسطِّحِ كُلّ نُقطةِ فيهِ عينُ بهاءِ وجميعُ القلوب طواطم حشرجية الهيئة. جدار هو لا طاولة بجدارة إقليدس نفسه.

تَتفتَّتُ هذه الطاولةُ بذكرياتها
في فضاءٍ حُرّ.

أسامة يا زهرةَ الثورة.
يا شقيقي الذي رأيت.
بيننا كثيرٌ لم نفرغ منه.
كيف يمضي التاريخ دون معرفة الموكب الذي سرتَ أمامه.
ثمّ هكذا فجأة مُتّ،
تاركًا فينا حسرةٌ كُبرى.
على طاولة هذا المحارب ماتت الدولة القومية
ونبتت حسرةٌ مُتسائلة.

طاولةٌ بإمكانِ الساكنِ الجديدِ تبديلها.
وُضِع عليها نشيدٌ، منديلُ ورقٍ، كـ ماركس.
سكونكُ متوالٍ.
حُجَّتكَ الضعيفة.

طاولةُ بلياردو.
يتكلُّفُ الحديثُ حولها حوارٌ طبقيّ في قلبِ البلاد،
لن تُوازيها مهارةً خفيفةُ الظلِّ في شرقِ أفريقيا.
في النهاية، ستسقُط الكرةُ السوداءُ
-الأنثى الملونة-
في المُغالاة،
تهربُ الدقةُ وتنبتُ السعادة.
اشتاقُ بكِ لتلك اللحظة،
عند حفرة بلياردو تشبهُ فكرةَ الطلح،
أيتوددُ كلانا إلى مفهومِ الذريّة؟
طفلٌ في الطريقِ أجملُ من بويضاتِ الظلام،
تقولُ ستُّ الودع.
“خُذ عصاكَ من خدودِ طاولتي يا فتى”.
أسفلُ طاولتها
-المُتبقِّي الميتافيزيقي من رائحةِ كُوكبِ النُدرة،
تقتاتُ كائناتُ نفسِها التي تركتها في قلبي.
تشدُّ الخيطَ على الطاولة،
(لا أتذكرُّ في أيّ جهة)
وتلعبُ البينج بونج.
بينج
بونج
بينج
بونج.
هكذا يغدو قلبي.
أنا صيرورةُ المرحِ الوثَّاب.

الطاولةُ اسمٌ لِكُتلةِ الخُبزِ عند عُمَّال الطابونة.
أمّا الجوعُ فصنيعةٌ بشريّةٌ،
ليس شقيقُ القحطِ،
لكنّهُ ابنَ الجشع،
هكذا نفقدُ القُدرةَ على الضحِك.

عندما وقفتُ على طاولةُ أبي بعد موته،
رقصتْ نحلةٌ – باندا – بطريق.
وعلى طاولةِ المحكمة،
حينما اعتلى الظلمُ الموهبة،
ونافسَ في مُوهِبته رقصةَ الرئيس،
أُعلِن عن موتِ الحقيقة.
حينها رأيت كُلّ شيء،
كنتُ مُجرَّدَ فتاةٍ لم تبلُغ الخامسة،
توقَّفَ قلبي عن النبوءةِ وغادرتُ البلاد.
ومرَّت بعدها اللحظات،
انغرزَ خنجرُ الخارجِ في قلبِ طاوِلتي.
فضعتُ وضاعتْ البلاد،
البلادُ كُلّها.

طاولةُ الشاعِرِ التجريديّة،
المُطلقةِ، الدقيقةِ مثل جوعُ الشعبِ للدقيق.
أثورُ أنا ضدّ كُلّ لا شاعريّة،
لا أستجيبُ للسيئ،
وانتصبُ مثلَ طاوٍ مُتوحِّش.

قبلُ سنواتٍ مَعكِ، يا سوسنَ وُجودي،
فكَّرتُ في تكويناتك اللامرئيّة،
عن كيف أمضي قُربَ ضحكَتُكِ،
وتضحى حياتي دونها.
وهُنا،
في يومِ رائِحَتُك،
أسألُك-
أتشتريني بِطاولة؟
طاولةٌ صُغرى،
بالقَدْرِ هي طاولة،
قُدرةُ النوال.

كاتب ومترجم من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى