أمل دنقل .. شاعر مستقبلي
قُدمت هذه الإضاءات ضمن ندوات منتدى دال الثقافي في ليلة الاحتفاء بالشاعر أمل دنقل، وكانت بذات اسم الورقة المقدمة. الجمعة 22 سبتمبر 2017م. [ الكاتب ]
(1)
في اعتقادي أن الشاعر العظيم أمل دَنقل قَد ظُلِمَت أعماله ظلماً فظيعاً بالترويج المُخل لأعماله الشهيرة، أمثال (كلمات اسبارتكوس الأخيرة) وقصيدة (لا تصالح)، واللتان، رغم جمالهما الفتَّان، تقعان في مكانٍ بعيد بالنسبة لأعماله العظيمة الأخرى. يبَحث الكثير من القراء عن أعماله الشهيرة هذه، والحريف بيكون قانِش (أوراق الغرفة رقم 8)، ولكن يا لهولك إن انفَتَحَت لك حفرة (العهد الآتي)، ذلك الديوان المحيّر جداً، والذي يستوقفك ويشدّك معه إلى أعماق إيقاعات العالم الداخليَّة، وحركات الطبيعة الأشدّ غموضاً وتعبيراً للكشف للإنسان وعن مجاهل ذاته. سنُركِّزُ، في هذه المحاضرة، على إضاءَة العهد الآتي، الذي يضمّ أعمالاً مثل (سفر ألف دال) و(سفر التكوين) وقصيدته العظيمة (المزامير). كذلك نفتتح القراءات بقصيدته الخفيّة (بكائية الليل والظهيرة) والمنشورة في دواوينه المبكّرة، قبل أن يبدأ منهجه في استدعاء التاريخ وتحويله تحويلاً مُريعاً ليعكس الحاضر –حاضر حياته- ومن ثمّ المستقبل. قبل القراءة أقول: إن التركيز يأتي لاحتضان أمل دنقل كشاعرٍ مُستقبَلي، بعيداً عن الرمز السياسي الذي أعمى أبصار القُرَّاء عن أعماله العظيمة، كذلك فأمل دنقل شاعر تربية، أي أنك، إن تربَّبيت على يدهِ شعريَّاً، حياتيَّاً وإنسانيَّاً فإن مُفارقتك للجحيم الذي وُلِدتَ فيه، والذي ربما تكون قد اختِرتَه لتولَد فيه منذ حياةٍ غامضةٍ لا ندري عنها شيئاً اليوم، يبدو خيانةً عُظمى كما عبَّر هو في قصيدته (مقابلة خاصَّة مع ابن نوح) والتي سنتلوها لاحقاً. سأقوم بقراءة أعمال ربما لم تطرق سمَعَ القُرَّاء، وأعتقد أنها الأعمق والأخْلَد بالنسبة لمشروعه الشعري العريض. بكائية الليل والظهيرة من أعماله المبكّرة نسبيّاً، والمنشورة في دواوينه الأولى.
(2)
بكائية الليل والظهيرة
– 1 –
في كل ليلٍ..
تخلعُ الذكرى ملابسها المغبرة القديمة،
تستحم برشاشات الضوء، تغسل فيه وعثاء الطريق.
وتستردُ نضارة الألوان.. والمرح القديم
نديانةً.. كالظلِّ، تخلع خُفَّها المبلول،
تستلقي جواري في الظلام، تضئ بشرتُها:
برائحة التوغل في الحقول.
برعشة القمر المؤرجح في مرايا النيل..
بالقطرات تلمع في منابت شعرها المحلول..
بالنبض الخجول.. يرف في استدفائها..
باللثغةِ الغنَّاء في الصوت الرخيم
وذراعها يلتف يرتعشُ التوهج تحت لمستِه..
وتُقلع آخرُ السفن المقدسة المضيئة من مرافئها،
تشقُّ النهر، تنثر ما تبقى من رمادي:
فوق أذرعة الخريف البائسات.. فتكتسي،
فوقَ المروج.. فتنطوي في الليل موسيقى الجنادب،
في الحظائر.. يهدأُ المهرُ الحرونُ،
على مناقير الطيور.. فتطعم الأفراخ من توت الغناء الحلو
في عقم السماء.. فتنبض البشري، وتنعقد الغيوم.
* **
يا دقة الساعات
هل فاتنا.. ما فات؟
ونحن ما زلنا..
أشباحَ أمنيَّات
في مجلس الأموات!؟
* * *
– 2 –
فاض النهارُ بنا، فمزق عن تصوفنا معاطفنا،
وألقانا على أعتاب مملكة النميمة، والذباب يطنُّ،
والكلماتُ: أقداحٌ مكسَّرةُ الحواف..
إذا لثمناها.. تجرَّحت الرؤى!
والصمت: قضبان محمَّاة على وهج البكاء
(فاض الإناء، وعاملُ البرق الصغيرُ يدقُّ بابَ البيت،
” آهٍ ” وتسقط الشمسُ الصغيرةُ عن رداء النومِ
تبكي المرأةُ الأفعى على كتف العشيق،
وتستزيد من البكائيات، تلقم صدرَها العاري يديه..
– لعله يبني بها بعد الحداد! –
تدير عينيها اللتين تندَّتا.. فأذابتا بقع الطلاء؟)
* * *
كان الطريق يديرُ لحنَ الموتِ – كان جهنميَّ الصوت –
فوق شرائط التسجيل..
في أسلاكِ هاتِفِهِ المحنَّك..
في صرير الباب من صدأ الغوايةِ..
في أزيز مراوح الصيف الكبيرةِ..
في هدير محرِّكات ” الحافلات “.
وفي شجار النسوة السوقيِّ في الشرفاتِ..
في سأمِ المصاعد..
في صدى أجراس إطفائيةٍ تعدو.. مصلصلة النَّداء.
(.. كوني إذن ما شئتِ:
ساقطةً تدور على مواخير الموانئ،
وجه راهبةٍ تضاجع صورة العذراءِ،
أمًّا تأكل الأطفالَ،
كوني أيَّ شيءٍ – فيه نغمس خبزَنا الحجريَّ – ملتهب الدماء!)
* * *
ندم الغبار يلح فوق وجوهنا،
ونلوذ بالجدران نحفر فوقها أسماءنا.. لكنها تتفتت!
الجدران وهمٌ
والرجالُ الملصقون على مساحة صفحة الإعلان،
والصور الثمينة في المعارض، والنقوش على المعابد،
والوسام العسكري لأنبل الشهداء،
والزهو الذي يندسُّ في رحم النساء.
(.. تلك المرارة:
سممت جلساتِ شاي العصر..
سممت انتعاشتنا بسلع الماء في حمامنا الصيفي –
سممت البراءة في تساؤل طفلنا من أين جاء!)
* * *
يا آخر الدَّقات
قولي لنا.. من مات
كي نحتسي دَمَهُ
ونختم السهرات
بلحمه نقتات!
** *
– 3 –
ماذا تخبئ في حقيبتك العتيقة.. أيها الوجهُ الصفيق
أشهادةُ الميلادِ؟
أم صكّ الوفاة؟
أم التميمة تطرد الأشباحَ في البيت العتيق؟
ماذا تخبئُ أيُّها الوجهُ الصفيق؟!
ماذا تخبئُ أيُّهَا الوجهُ الصفيق؟!
(3)
اعتمدَ أمل دنقل كثيراً في أعماله على استقراء أحداث تاريخيّة عظيمة، مثل حياة “العبد” الثائر اسبارتكوس، حرب البسوس، وتتبّع الكتاب المقدّس (العهد القديم) عبر ديوانه (العهد الآتي)، ثمَّ بعض القصائد المتفرّقة في ديوانه الأخير (أوراق الغرفة رقم 8) والذي كتبه إبّان مكابدته لمرض السرطان الذي أنهى حياته يوم 21 مايو 1983م، واستدعائه لشخصيّات والحديث تارةً يتملَّك صوتها وبتحدّث به، وتارةً عنها مثل: أبي نواس، المتنبي، صلاح الدين الأيوبي، ابن نوح، وغيرهم. نقرأ الورقة الأولى والثانية من قصيدة (أوراق أبو نواس):
(الورقة الأولى)
“ملِكٌ أم كتابة؟”
صاحَ بي صاحبي؛ وهو يُلْقي بدرهمهِ في الهَواءْ
ثم يَلْقُفُهُ..
(خَارَجيْن من الدرسِ كُنّا.. وحبْرُ الطفْولةِ فوقَ الرداءْ
والعصافيرُ تمرقُ عبرَ البيوت،
وتهبطُ فوق النخيلِ البعيدْ!)
“ملِك أم كتابة؟”
صاح بي.. فانتبهتُ، ورفَّتْ ذُبابه
حولَ عينيْنِ لامِعتيْنِ..!
فقلتْ: “الكِتابة”
… فَتَحَ اليدَ مبتَسِماً؛ كانَ وجهُ المليكِ السَّعيدْ
باسماً في مهابة!
…
“ملِكٌ أم كتابة؟”
صحتُ فيهِ بدوري..
فرفرفَ في مقلتيهِ الصِّبا والنجابة
وأجابَ: “الملِكْ”
(دون أن يتلعثَمَ.. أو يرتبكْ!)
وفتحتُ يدي..
كانَ نقشُ الكتابة
بارزاً في صَلابة!
دارتِ الأرضُ دورتَها..
حَمَلَتْنا الشَّواديفُ من هدأةِ النهرِ
ألقتْ بنا في جداولِ أرضِ الغرابة
نتفرَّقُ بينَ حقولِ الأسى.. وحقولِ الصبابة.
قطرتيْنِ؛ التقينا على سُلَّم القَصرِ..
ذاتَ مَساءٍ وحيدْ
كنتُ فيهِ: نديمَ الرشِيد!
بينما صاحبي.. يتولى الحِجابة!!
***
(الورقة الثانية)
من يملكُ العملةَ
يُمسكُ بالوجهيْن!
والفقراءُ: بَيْنَ.. بيْنْ!
(4)
المثال الذي قدَّمه أمل دنقل كشاعر هو مثالٌ فذ، مؤلم، ومؤرِّق. يذكِّركَ بقامات النصوص التي لن تموت، ويذكِّرك بأن الحياة التي تعيشها أنتَ مَيِّتة بالنسبة لما تُقدِّمه من “مثال”. إنّه أخطر من الوُعَّاظ الدينيين، أخطر من صراخ السياسيين، أخطر من مُمَثِّلي الأخلاق؛ إنه يتّهمك منذ أن طالعتَ كتابه، ويأمرك بأن (لا تصالح وإن منحوك الذهب). دائماً ما أنظر لهذه القصيدة كقصيدة مستقبل، لا علاقة لها بما حدث بين العرب وإسرائيل، ولا ديوانه (أقوال جديدة حول حرب البسوس) مُتعلِّقة بقضايا العرب واليهود. إنها متعلِّقة بقضية الإنسان، والتحريم التّام لبيعه لروحه وعِزَّته مقابل أيّ مال، وعدم المصالحة التام مع كل شيء. وهو يلزمنا اليوم في عالمٍ صالح فيه الناسُ جميعاً وتملَّكهم اليأس من كل شيء؛ حيث اختفى الإنسان المُلهِم، وحلَّ بدَلَه، بكلِّ أسى، الإنسان المُنهَزم، السِلَعيّ، المُستَهلِك والمنوَّم سوقيَّاً.
يبدو هذا الحديث اليوم مهووساً ومتطرِّفاً، نسبةً لما يُسمِّيه “العقلاء”: الواقع. لكنني، باعتباري ابناً لأمل دنقل، أُمرتُ بأن لا أصالح، وكذلك يمتد الخطاب للجميع؛ مهما قال الناس، وقالت الحياة، أن تغيير العالم مستحيل، وأن “الرأسمالية” تقهرُ كلّ شيء، إلا أنني، امتداداً من أمل وليس انتهاءاً بشعرائنا وكتابنا، أقول ما قاله الشاعر:
(الطيور التي أَقْعَدَتها مُخالطة الناس
مرَّت طمأنينةُ العيش فوق مناسرها فانتخت،
وبأعينها فارتخت،
وارتضت أن تُقاقئ حول العام المُتاح.
ماذا تبقَّى لها غير سكّينة الذبح
غير انتظار النهاية؟
إن اليد الآدمية واهبةُ القمح،
تعرف كيف تسنّ السلاح.
(5)
أقول: هل فُقدَ الأمل في العالم فعلاً؟ تتحدّث أحداث العالم بأننا ذاهبون إلى فناء كبشرٍ أعني، في ظل تجارة السلاح الرهيبة، واندلاع الحروب التي لم نتصوَّر وجودها، فهل من جحيمٍ ربما يكون غير الذي نعيشه اليوم؟ أَمِنَ الممكن أن يدخر لنا الله ناراً أفظع من هذه؟ فهي نارٌ إن لم تكن ناراً واقعيَّة تحرقُ أجسادنا وتقتل صغارنا، فإن من نَلِدُهم ونَعيشُ معهم يموتون بالجوع والمرض، أخلاقنا في انحدارٍ تامٍّ تماماً، كذلك عبَّر أمل دنقل، وهو يرى مُستقبل الميتين غدراً تحت ظلال السوق المُستعر وجحيم الحياة، بتعبير اليمامة:
(خصومة قلبي مع الله .. ليس سواه
أبي أخذَ المُلكَ سيفاً لسيف، فهل يؤخذ الملك منه اغتيالاً؟
وقد كلَّلَته يدا الله بالتاج؟!
هل تَنزَعُ التاج إلا اليدان المباركتان،
وهل هان ناموسه في البرية
حتى يتوَّج لصٌّ.. بما سرقته يداه؟
خصومة قلبي مع الله..
إني
أُنَزِّهُ سَهمَ مَنِيَّتِه أن يجيء من الخلف،
إن الذي يُطلِقُ السهم ليس هو القوس..
بل قلب صاحبه،
والذي يجعل النفس تستقبل الموت راضية.. نُبلَ واهِبِه،
فأنا أرفض الموت غدراً..
فهل نَزَّلَ الله عن سهمه الذهبي لمن يستهين به
هل تكون مكان أصابعه.. بصمات الخطاة؟؟
خصومة قلبي مع الله .. ليس سواه!
(4)
ونأتي لعهده الآتي، صوَّر به عالم المستقبل الذي نعيشه اليوم، جميعنا، ونتلظَّى بنيران ألسنته ولغاته المُبتَسرَة، افتتحه بصلاةٍ قال فيها:
أبانا الذي في المباحث. نحن رعاياك.
باقٍ لك الجبروتُ
وباقٍ لنا السكوتُ.
وباقٍ لمن تحرسُ الرهبوتُ.
تَفَرَّدتَ وحدَكَ باليُسرِ. إنَّ اليَمينَ لفي الخُسرِ.
أما اليسارُ ففي العُسرِ.. إلا الذين يُماشون
إلا الذين يعيشونَ يَحشُونَ بالصحفِ المشتراةِ
العيونَ فَيَعشُون. إلا الذين يَشونَ. وإلا.
الذين يُوَشُّونَ ياقاتِ قُمصانِهم بِرِبَاطِ السُّكوت!
تَعَالَيْتَ. ماذا يَهُمُّكَ مِمَّنْ يَذُمُّكَ؟ اليومُ يومُكَ
يرقَى السجينُ إلى سُدَّةِ العرشِ..
والعرشُ يُصبحُ سِجْنًا جديدًا وأنتَ مكانُكَ. قد
يتبدلُ رسمُكَ واسمُكَ. لكن جوهرَكَ الفردَ
لا يتحولُ، الصمتُ وَشْمُكَ. والصَّمْتُ وَسْمُكَ
وَصَمْتٌ – حيثُ التَفَتَّ – يرينُ وَيَسْمُك
والصمتُ بين خيوط يدَيْكَ المُشبَّكَتَيْنِ المُصْمَغَتَيْنِ يَلُفُّ
الفراشةَ.. والعنكبوتْ
***
أبانا الذي في المباحثِ. كيفَ تموتُ
وأغنيةُ الثَّورةِ الأبديةِ
لَيْسَتْ تموتُ!!
(5)
سنقرأ الآن سفر (ألف دال) والذي هو، حسب تأويلي، سفر (أمل دنقل) نفسه، نقرأ منه بعض الإصحاحات:
(الإصحاح الأول)
القِطاراتُ ترحلُ فوق قضيبينِ: ما كانَ ما سيكُونْ!
والسماءُ: رمادٌ.. به صنعَ الموتُ قهوتَهُ،
ثم ذَرّاه كي تَتَنَشَّقَه الكائناتُ،
فينسَلّ بينَ الشَّرايينِ والأفئِدة.
كلُّ شيءٍ – خلال الزّجاج – يَفِرُّ:
رذاذُ الغبارِ على بُقعةِ الضَّوءِ،
أغنيةُ الرِّيحِ،
قَنْطرةُ النهرِ،
سِربُ العَصافيرِ والأعمِدةْ.
كلُّ شيءٍ يفِرُّ،
فلا الماءُ تُمسِكُه اليدُ،
والحُلْمُ لا يتبقَّى على شُرفاتِ العُيونْ.
والقطاراتُ تَرحلُ، والراحلونْ..
يَصِلُونَ.. ولا يَصلُونْ!
(الإصحاح الخامس)
تصْرخين.. وتخترقينَ صُفوفَ الجُنودْ.
نتعانقُ في اللحظاتِ الأخيرةِ..
في الدرجاتِ الأخيرةِ.. من سلّم المِقصلَة.
أتحسَّسُ وجهَكِ!
(هل أنت طِفلتيَ المستحيلةُ أم أمِّيَ الأرملةْ؟)
أتحسَّسُ وجهَكِ!
(لمْ أكُ أعمى،
ولكنَّهم أرفقُوا مقلتي ويدي بمَلَفِّ اعترافي
لتنظرَه السلُطاتُ..
فتعرفَ أنِّيَ راجعتهُ كلمةً.. كلمةً..
ثم وَقَّعتُهُ بيدي..
– ربما دسَّ هذا المحقِّقُ لي جملةً تنتهي بي إلى الموتِ!
لكنهمْ وعدوا أن يُعيدوا إليَّ يديَّ وعينيَّ بعدَ
انتهاءِ المحاكمة العادِلة!)
زمنُ الموتِ لا ينتهي يا ابنتي الثاكلة،
وأنا لستُ أوَّلَ من نبَّأ الناسَ عن زمنِ الزلزلة
وأنا لستُ أوَّلَ من قال في السُّوقِ..
إن الحمامةَ – في العُشِّ – تحتضنُ القنبلة!.
قَبّليني؛ لأنقلَ سرِّي إلى شفتيك،
لأنقل شوقي الوحيد
لك، للسنبلة،
للزُهور التي تَتَبرْعمُ في السنة المقبلة
قبّليني.. ولا تدْمعي..
سُحُبُ الدمعِ تَحجبني عن عيونِك..
في هذه اللَّحظةِ المُثقلة
كثُرتْ بيننا السُّتُرُ الفاصِلة
لا تُضيفي إليها سِتاراً جديدْ!
(الإصحاح السادس)
كان يجلسُ في هذه الزاوية.
كان يكتبُ، والمرأةُ العارية،
تتجوَّل بين الموائِدِ؛ تعرضُ فتنتَها بالثَّمنْ.
عندما سألَتْه عَن الحَربِ؛
قال لها..
لا تخافي على الثروةِ الغالية،
فعَدوُّ الوطنْ
مثلُنا.. يخْتتنْ
مثلنا.. يعشقُ السّلَعَ الأجنبيَّة،
يكره لحمَ الخنازيرِ،
يدفعُ للبندقيَّةِ.. والغانية!
.. فبكتْ!
كان يجلسُ في هذه الزّاوية!
عندما مرَّت المرأةُ العارية،
ودعاها؛ فقالتْ له إنها لن تُطيل القُعودْ،
فهي منذُ الصباحِ تُفَتّشُ مُستشفياتِ الجُنودْ،
عن أخيها المحاصرِ في الضفَّةِ الثانية،
(عادتِ الأرضُ.. لكنَّه لا يعودْ!)
وحكَتْ كَيف تحتملُ العبءَ طِيلة غربتهِ القاسية،
وحكتْ كيفَ تلبسُ – حين يجيءُ – ملابسَها الضافية،
وأرَتْهُ لهُ صورةً بين أطفالِهِ.. ذاتَ عيد،
.. وبكت!!
(الإصحاح السابع)
أشعر الآنَ أني وحيدٌ؛..
وأن المدينةَ في الليلِ..
(أشباحَها وبناياتِها الشَّاهِقة)
سُفنٌ غارقة
نَهَبَتْها قراصنةُ الموتِ ثم رمتْها إلى القاعِ.. منذُ سِنينْ.
أُسنِدَ رأسُ ربَّانُها فوقَ حافتِها،
وزجاجةُ خمرٍ مُحطّمةٌ تحت أقدامهِ؛
وبقايا وسامٍ ثمين.
وتشَبَّث بحَّارةُ الأمسِ فيها بأعمدةِ الصَّمتِ في الأَروِقة،
يتسلَّل من بين أسمالِهم سمكُ الذكريات الحزينْ.
وخناجرُ صامتةٌ،..
وطحالبُ نابتةٌ،
وسِلالٌ من القِططِ النافقة.
ليس ما ينبضُ الآنَ بالروحِ في ذلك العالمِ المستكينْ،
غير ما ينشرُ الموجُ من عَلَمٍ.. (كان في هبّةِ الريحِ)
والآن يفركُ كفَّيْهِ في هذه الرُّقعةِ الضيِّقة!
سَيظلُّ.. على السَّارياتِ الكَسيرةِ يخفقُ..
حتى يذوبَ.. رويداً.. رويداً..
ويصدأُ فيه الحنينْ
دون أن يلثمَ الريحَ.. ثانيةً،
أو.. يرى الأرضَ،
أو.. يتنهَّدَ من شَمسِها المُحرِقة!
(الإصحاح العاشر)
الشوارعُ في آخرِ اللّيل… آه..
أراملُ متَّشحاتٌ.. يُنَهْنِهْنَ في عَتباتِ القُبورِ – البيوتْ.
قطرةً.. قطرةً؛ تتساقطُ أدمُعُهنَّ مصابيحَ ذابلةً،
تتشبث في وجْنةِ الليلِ، ثم.. تموتْ!
الشوارعُ – في آخر الليلِ – آه..
خيوطٌ من العَنْكبوتْ.
والمَصابيحُ – تلكَ الفراشاتُ – عالقةٌ في مخالبِها،
تتلوَّى.. فتعصرها، ثم تَنْحَلُّ شيئاً.. فشيئاً..
فتمتصُّ من دمها قطرةً.. قطرةً؛
فالمصابيحُ: قُوتْ!
الشوارعُ – في آخرِ الليلِ – آه..
أفاعٍ تنامُ على راحةِ القَمرِ الأبديّ الصَّموتْ
لَمَعانُ الجلودِ المفضَّضةِ المُسْتَطيلةِ يَغْدُو.. مصابيحَ..
مَسْمومةَ الضوءِ، يغفو بداخلِها الموتُ؛
حتى إذا غَرَبَ القمرُ: انطفأتْ،
وغَلى في شرايينها السُّمُّ
تَنزفُه: قطرةً.. قطرةً؛ في السُكون المميتْ!
وأنا كنتُ بينَ الشوارعِ.. وحدي!
وبين المصابيحِ.. وحدي!
أتصبَّبُ بالحزنِ بين قميصي وجِلْدي.
قَطرةً.. قطرةً؛ كان حبي يموتْ!
وأنا خارجٌ من فراديسِهِ..
دون وَرْقَةِ تُوتْ!
(6)
إن أكثر ما يعلّمك له أمل دنقل هو الانتماء إلى الجحيم الذي وُلِدت فيه، بمختلف درجاته، فكما قلت وذكرت كثيراً في كتاباتٍ لي أن الاختلاف في درجات الجحيم من بلدٍ إلى آخر هو اختلافٌ كمّي لا نوعي، وهو حديث أستاذنا محمود محمد طه أيضاً؛ فليست أوربا جنَّة ولا أمريكا، فالجميع يعيشون ذات النكبة والالتحام القاسي مع مُكوِّنات العالم المُلتهبة: السلطة، المال، السلاح، والحرب.
أصبح بعض الكتاب –التجار في الحقيقة- يروجون لمقولةِ أن زمان الأخلاق والانتماء قد انتهى. وكيف ينتهي الانتماء لنهرٍ مثلَ نهر النيل؟ كيف ينتهي الانتماءُ لبشرٍ أخلاقهم وشيمهم لا تشبه شعوب العالم؟ رغم أنني، في لحظاتٍ كثيرةٍ من حياتي، شكَّكتُ في قيمة الوطن، وما يعنيه، إلا أن تربية أمل دنقل كما قالها في (طوفان نوح) أثبتت حقيقتها. لقد جُلت الكثير من بلدانٍ إفريقيّة وآسيوية وأوربية في حياتي ولكنّني لم أُصادف، ولو حتى بمقدار ذرَّة، ثقة السودانيين في الناس وإكرامهم لهم وحبّهم للخير والجمال. ولهذا دائماً ما أنظر للشاعر أمل دنقل (كجنوبي)، وأنظر لنفسي، كذلك، كـ(جنوبي سوداني)، لشدة صدق الجنوب، عادةً، أكثر من أيّ مكانٍ في الأرض. نحن في الجنة، ولكن شياطين الجحيم تُلهبنا باستمرارٍ بجحيمها، الجنةُ في النار، وهذا ما يحدث. أعظم قصيدة لأمل دنقل، في اعتباري الشخصي جداً، هي قصيدة (المزامير)، سنقرأ النص كاملاً، قبلها سنقرأ (الجنوبي) -قصيدة أمل دنقل الأخيرة في حياته- وفي النهاية نستمع لأمل دنقل في قصيدته (مقابلة خاصة مع ابن نوح)، بصوته. سنختم ليلتنا بهذه النماذج، إذ هذه الورقة –كما هو مذكور في الإعلان- عبارة عن إضاءات شخصيَّة ولا تدّعي النقد أو العِلمِيَّة وإنما تنحو إلى الذاتيّة أكثر. والهدف منها قراءة أكبر قدر من الأعمال الخفيَّة كما أراها. وأرجو أن أكون قد وُفِّقت في ذلك. فإن كان لي ما أضيفه فإنني أقول أن أمل دنقل اقتصاديُّ كلماتٍ بامتياز. أتذكر تعليق صديقٍ عليه، إذ يقول: أمل ده التقول بيدوهو الكلمات مع بعض، على أن لا يزيد عليها كلمة واحدة طوال القصيدة. فعلاً، فإن كلّ كلمة موجودة في محلّها، مع القتل العمد لأية عمليّات ثرثرة شعريّة.
والآن إلى القراءات الأخيرة.
(7)
الجنوبي
(الورقة الأخيرة)
صورة
هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي
هذه الصورة العائلية
كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجاً، وعلَّمت القلب أن يحترس
أتذكر
سال دمي
أتذكر
مات أبي نازفاً
أتذكر
هذا الطريق إلى قبره
أتذكر
أختي الصغيرة ذات الربيعين
لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها
المنطمس
أو كان الصبي الصغير أنا؟
أم ترى كان غيري؟
أُحَدِّق
لكن تلك الملامح ذات العذوبة
لا تنتمي الآن لي
والعيون التي تترقرق بالطيبة
الآن لا تنتمي لي!
صرتُ عني غريباً
ولم يتبقَّ من السنوات الغريبة
إلا صدى اسمي
وأسماء من أتذكرهم -فجأةً-
بين أعمدة النعي
أولئك الغامضون: رفاق الصبا
يقبلون من الصمت وجهاً فوجها فيجتمع الشمل كل صباح
لكي نأتنس.
وجه
كان يسكن قلبي
وأسكن غرفته
نتقاسم نصف السرير
ونصف الرغيف
ونصف اللفافة
والكتب المستعارة
هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء
ولكنه يعد يومين مزق صورتها
واندهش.
خاض حربين بين جنود المظلات
لم ينخدش
واستراح من الحرب
عاد ليسكن بيتاً جديداً
يكسب قوتاً جديدا
يدخن علبة تبغ بكاملها
ويجادل أصحابه حول أبخرة الشاي
لكنه لا يطيل الزيارة
عندما احتقنت لوزتاه، استشار الطبيب
وفي غرفة العمليات
لم يصطحب أحداً غير خفٍّ
وأنبوبة لقياس الحرارة.
فجأة مات!
لم يحتمل قلبه سريان المخدر
وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات
عاد كما كان طفلاً
يشاركني في سريري
وفي كسرة الخبز، والتبغ
لكنه لا يشاركني .. في المرارة.
وجه
ومن أقاصي الجنوب أتى،
عاملاً للبناء
كان يصعد “سقالة” ويغني لهذا الفضاء
كنتُ أجلس خارج مقهى قريب
وبالأعين الشاردة
كنتُ أقرأ نصف الصحيفة
والنصف أخفي به وسخ المائدة
لم أجد غير عينين لا تبصران
وخيط الدماء.
وانحنيت عليه أجس يده
قال آخر: لا فائدة
صار نصف الصحيفة كل الغطاء
وأنا … في العراء
وجه
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمت
كيف يموت الذي كان يحيا
وكأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصباً، بينما
ينحني القلب يبحث عما فقد.
ليت “أسماء”
تعرف أن أباها الذي
حَفِظَ الحب والأصدقاء تصاويره
وهو يضحك
وهو يفكر
وهو يفتش عما يقيم الأود.
ليت “أسماء” تعرف أن البنات الجميلات
خَبَّأنه بين أوراقهن
وعلَّمنه أن يسير
ولا يلتقي بأحد.
مرآة
-هل تريد قليلاً من البحر؟
-إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي
البحر والمرأة الكاذبة.
-سوف آتيك بالرمل منه
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً
فلم أستبنه.
.
-هل تريد قليلاً من الخمر؟
-إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين:
قنينة الخمر والآلة الحاسبة.
-سوف آتيك بالثلج منه.
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً
فلم أستبنه.
بعدما لم أجد صاحِبي
لم يعد واحدٌ منهما لي بشيء
-هل نريد قليلاً من الصبر؟
-لا ..
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة والأوجه الغائبة.
(8)
المزامير
(المزمور الأول)
أعشقُ إسكندرية،
وإسكندريةُ تعشقُ رائحةَ البحرِ
والبحرُ يعشقُ فاتنةً في الضفافِ البعيدة!
***
كلُّ أمسيةٍ، تتسلَّلُ من جانبي
تتجردُ من كل أثوابِها
وتحلُّ غدائرها
ثم تخرجُ عاريةً في الشوارعِ تحتَ المطر
فإذا اقتربت من سرير التنهُّدِ والزرقة
انطرحت في ملاءاته الرغوية،
وانفتحت.. تنتظر!
وتظل إلى الفجر..
ممدودةً – كالنداء
ومشدودةً – كالوتر
………………….
وتظلُّ وحيدةً!!
المزمور الثاني
قلتُ لها في الليلة الماطرة:
البحرُ عنكبوتْ
وأنتِ – في شِراكِهِ – فراشةٌ تموت
وانتفضَتْ كالقطَّةِ النافرة
وانتصبت في خفقان الريح والأمواج
ثديانِ من زجاج
وجسدٌ من عاج)
وانفلتت مُبحِرَةً في رحلةِ المجهولِ، فوق الزَّبدِ المُهتاج
ناديْتُ.. ما ردَّتْ!
صرخْتُ.. ما ارتدَّت!
وظلَّ صوتي يتلاشى.. في تلاشيها..
وراءَ الموجةِ الكاسرة
………………….
(خاسرةٌ، خاسرة
إن تنظري في عَيْنَي الغريمةِ الساحرة
أو ترفعي عينيكِ نحو الماسةِ التي تُزَيِّنُ التاجَ!)
المزمور الثالث
لفظَ البحرُ أعضاءَها في صباحٍ أليم
فرأيْتُ الكلوم
ورأيتُ أظافرَها الدموية
تتلوى على خصلةٍ ” ذهبية”
فَحَشَوْتُ جراحاتها بالرمال،
وأدفأتُها بنبيذ الكروم.
………………….
وتعيشُ معي الآن!
ما بيننا حائطٌ من وجوم!
بيننا نسماتُ ” الغريم “!
كل أمسيةٍ…
تسلل في ساعة المد، في الساعة القمرية
تستريح على صخرة الأبدية
تتسمع سخرية الموج من تحت أقدامها
وصفير البواخر.. راحلة في السَّواد الحميم
تتصاعد من شفتيها المُمَلحَتين رياحُ السموم
تتساقط أدمعها في سهوم
والنجوم
(الغريقة في القاع)
تصعد.. واحدة.. بعد أخرى..
فتلتقطها
وتَعُدُّ النجوم
في انتظار الحبيبِ القديم
المزمور الرابع
(ترنيمة لشهر يناير)
فجأةً.. يجفلُ خطوُ القلب،
تهتزُّ الكُرياتُ الرصاصيةُ في سلَّته!
(هل إصبعُ الوحدةِ أم إصبعُكَ المصبوغُ بالحناء؟)
في الخارج أسوارٌ وأمطار،
غلافُ الليلِ ينشقُّ عن الرعد
غلافُ القلبِ ينشقُّ عن الوجد
مساحاتٌ من الضَّوءِ الرمادي
أنا النافذةُ المغلقةُ السوداء
والتفاحةُ الحمراء
والأسماءُ
(اسمي كانَ مكتوبًا على طرف قميصي
قبل أن يُعلَّقَ في سلكِ الحدود الشائك)
النهرُ ضميري (ولعينيك انسيابُ النهر)
ما أقسى انتظاري!..
وفؤادي ساعده رملية صفراء
يهوي الرملُ في أعماقها شيئًا فشيئا
ربما للرمل طعمُ الملحِ أحيانًا.. وطعمُ الانتظار!!
المزمور الخامس
كان فستانُك في الصيف من الكتان،
والزهرةُ في صدرِكِ بيضاءَ،
ولكن الشتاءَ الآن يكسوكِ بلونِ السُّلِّ والنرجسِ!
(حتى ورقة التُّوتِ على فخذيكِ.. صفراءُ!)
هل الماءُ يغيضُ الآنَ في البئر؟
هل الماءُ يفيضُ الآنَ في البئر؟
أماءٌ؟ أم دمٌ؟
(هذا الندى القاتلُ ذو الوجهين)
كان الناي يمتدُّ من الضفةِ للضفة
من صدرِكِ إلى صدري
كان الناي ممتدًا
ولونُ الليل بين البرتقالي – الرمادي – السماوي
وفي شعرك غابات من الوحشة والصمت،
هوى نجمٌ، وفي الثانيةِ التاليةِ اصطكَّتْ يديّ
في الشَّبحِ العابر
(هل كانت يدي في يدك اليسرى؟)
وفي الثانيةِ الثانيةِ اصطكَّت يدي في كلمة السجن
على وجهِ الجدار!!
المزمور السادس
نحنُ صوتانِ..
(إذن فالصوتُ قد أصبح صوتَيْنِ)
تنزَّهنا على خطِّ استواء الموت
لملمنا البنفسج
وتسلَّقنا شعاعَ الزَّهر، خلخلنا مزاليجَ البيوت
وقدحنا حجرَ الحُبِّ، جلسنا نتوهج
فاحلفي باسمي، وباسم العنكبوت
باسم نقش الذكرياتِ المُتَعرِّج
وركام الذكرياتِ المتدرج
إنها ورقةُ توت
سقطت عن عورة الصيف،
وظلت تتدحرج
فوقفنا نتفرَّج
(دون أن نطرف) حتى سقطت في النهر..
وارتد السكوت!
المزمور السابع
جاء الأناسُ الميتون يحملون
أكفانَهم، أطيارَهم ليست إلى أعناقهم.
يستفسرون:
” ماذا أتى بنا هنا؟!! “
أتت بكم امرأةٌ خاطئةٌ
نهودُها دافئة
ولحمُها مُعَطَّرُ النَّكهة
قد استدارت في فراشها برهة
عانقت الجدارَ.. قبلت وجهه
(يا أيُّها الجدارُ.. لا تَبُحْ بما ترى
ولا تَقُلْ عن الذين يولدون)
وغمغم الجدارُ..
يا صديقتي الطفلة
مات الذين يسألون!
………………….
ومرت الليلة
فربما كان أباكم الجدار
ربما يكون
المزمور الثامن
(شَجَوِيَّة)
لماذا يُتابعُني أينما سرتُ صوتُ الكَمَان؟
أُسافرُ في القاطرات العتيقة،
(كي أتحدَّثَ للغرباء المسنين)
أرفعُ صوتي ليطغى على ضجَّةِ العجلات
وأغفو على نبضات القطار الحديديةِ القلب
(تهدر مثل الطواحين)
لكنها بغتةً. تتباعدُ شيئًا فشيئا
ويصحو نداءُ الكمان!
***
أسيرُ مع الناس في المهرجان
أُصغى لبوقِ الجنودِ النُّحاسيّ
يملأُ حلقي غبارُ النَّشيدِ الحماسيّ
لكنني فجأةً.. لا أرى!
فجأةً تتلاشى الصفوفُ أمامي
وينسرب الصوتُ مبتعدًا
ورويدًا.. رويدًا يعودُ إلى القلبِ صوتُ الكمان..!
لماذا إذا ما تهيأتُ للنوم يأتي الكمان..
فأُصغي له آتيًا من مكان بعيد
فتصمتُ همهمةُ الرِّيحِ خلفَ الشبابيك،
نبضُ الوسادة في أذني
تتراجعُ دقاتُ قلبي،
وأرحلُ في مدنٍ لم أَزُرْها
شوارعُها فضةٌ
وبناياتُها: من خيوطِ الأشعة
ألقي التي واعدتني على ضفَّةِ النَّهرِ واقفةً!
وعلى كتفيها يحطُّ اليمامُ الغريبُ
ومن راحتيها يغطُّ الحنانُ!
***
أُحبُّكِ صارَ الكمانُ كُعوبَ بنادِق!
وصارَ يمامُ الحدائق
قنابلَ تسقطُ في كلِّ آن
وغابَ الكمان!
الكاتب:
مأمون التلب
– شاعر وكاتب ومحرر وناشط ثقافي
– عَمِلَ كاتباً ومحرراً ثقافيَّاً في عدة صحف سودانية مثل الأحداث، السوداني، سيتيزين، الأخبار، الرأي العام.
– نَشرَ أعماله الشعرية في دوريات أدبية داخل السودان وخارجه، ورقيّاً وإلكترونياً، إضافةً لتواجد أعماله مع أعمالٍ أخرى في أنطلوجيات شعريّة وكتب.
– أصدر كتاباً واحداً عن (الحركة الشعريّة) بعنوان (وحش التجوال)، طبعة شعبية ونسخ محدودة نفدت.
– عضو مؤسس اتحاد الكتاب السودانيين في ميلاده الثاني.
– عضو مؤسس مبادرة برانا للنشر.
– عضو مؤسس جماعة عمل الثقافيّة.
– عضو مؤسس لمبادرة (الحركة الشعريّة).
– درس الهندسة الإلكترونية بجامعة السودان القسم الجنوبي.
– يعمل حالياً رئيساً للقسم الثقافي بصحيفة السوداني ويُحرِّر ملحق (الممر) الذي يصدر أسبوعيّاً كل يوم جمعة. ويحتل منصب (الشاعر المتجوّل) لهذا العام 2016-2017م حيث تم تنصيبه بواسطة (منتدى مشافهة النص الشعري) في يوم الشعر العالم 13 مارس 2016م بيدِ الشاعر والباحث ميرغني ديشاب.