زوربا يراقص المعاني و الحياة
حين جاء “شارون” كان زوربا اليوناني يتأمل الجبال من النافذة، كان يطلّ على الحياة ، كان آخِر مشهد في عمره و ليس آخِر مشهد في المعاني و الحياة. ثم مات واقفا.
زوربا اليوناني تلك الرواية المنسابة سلسبيلا في نهر السرد، تحفة روائية عالمية لا تتركك إلا بعد أن تنتشر في كل شرايينك كالدماء لتبعث فيك روحا جديدة و تدفعك لنوع آخر من الحياة ربما معظمنا كان يجهله. زوربا تلك الأيقونة المشعّة بالمعاني مليئة باشراقات الحياة قبل و بعد الموت. حين تقرأ هذه الرواية ستجد نفسك تغوص في عمق الحياة الفخمة و الصاخبة تتفاعل فيها مختلف المفاهيم و كل الخيبات و الانتصارات دون نقاط، دون نهاية. حياة يمارسها البطل لأنها لا تحتمل التدوين على رأي نيكوس.
قرابة السبعين عاما عاشها زوربا، كفيلة بأن تكون مشحونة بالمجربات و المجريات والأحداث والفلسفة، تصدّر الفشل كثير منها و لاح فيها نجاح لكن من نوع أخر و له طعم مغاير. أقبل على الحياة بشراهة و نجح في أن يحيا كما يريد لكنه لم يتوقف عن السخرية منها يوما و لا الاستهزاء منها، دائما ما يواجه الصعاب بابتسامة تتفتت أمامها جبال الهموم ببساطة كان متحكما في أنساقها، كدنّ نبيذ لا يفتأ يشرب منه و لا يكتفي، لكن إن حدث و شعر بأنه يحدّ من حريته و يوقعه في الرتابة و الاعتياد توقف قاطعا تسربها الممسوخ لخلايا عمره. نيكوس قدّم نموذجا يعلّمنا كيف نستشعر الحياة و ننهل من طاقاتها المحيطة، كيف نصل أن نعيش العمق لا أن نبقى مجرد كائنات تكتفي أن ينحصر وجودها في الغلاف الخارجي للأشياء. توزع حضوره هنا و هناك بين أمكنة و أزمنة كثيرة تتواتر كالفصول الأربعة، على امتداد القارة العجوز. شساعة قد تختفي حين تضيق روحه بسؤال مفاجئ يطرح كنتاج لبعض المواقف، لكنها لا تطغى على فضاءاته و تمسكها إلى الخلف مهما استعصى عليه الفهم. كان يؤمن حقا بتنمية ذاته، بأن كل ما نصبو إليه في هذه الحياة إنما ينطلق من دواخلنا. فلا يهم إن كانت حياته ذنب مغفور أو خطأ موسوم، إنما المهم أنه عاش كل التفاصيل بوعي و إدراك جليين “هنا أكتب هرائي، أو إن شئت تأملاتي، أو نقاط ضعفي”، و قد كتبها نيكوس في أرقى تجليات الوعي بالذات و بما يحيط بها من إشكاليات تنتظر تناولا مغايرا من قبل زوربا. إنه النضج الفكري رغم كمّ التناقضات السلوكية التي تنتابه. دخل مباشرة في منظومة معاني، لا تحدّه فضائل و لا موروث، يحمل بين جنباته “متعا وحشّية” كيف لا و هو في قمة اعتقاده بأن “الإنسان وحش بريّ”.
بدا زوربا ذلك الفيلسوف الذي لا يعرف شيئا وعى مبكرا بجوهريته فأطعم الملاك و الوحش فيه من نفس الطبق دون تمييز، فلبّى لروحه كما لجسده حاجاتها و ضروراتها. فكما نراه متأملا مفكرا مستطلعا نراه يدلق المتع متسارعة إما أكلا أو نبيذا أو عملا و نساء. مراوحة لها دلالة على استمرار طرح إشكال ماهية الإنسان و جدلية كينونته ككائن يمثل محور العالم . بعيداً عن أي تعقيدات و أفكار صعبة نجح نيكوس في مناقشة هذا الإشكال بأقوال و أفعال انسابت تعلمنا أن لا نزهد في شيء بل لنا التجربة خير سبيل للوصول إلى الاجابة، فلا جسد يتغول و لا روح تختزل الوجد فتعتكف ظلما. اغترف من الخطأ و حدد الصواب فلا صدف تحركه و لا عبثية تقنعه. باختصار كان يدرك ما يريد بالضبط مفكرا بجهله منذ البدايات الأولى بفضل وعيه رغم طفو بعض الممارسات المختارة بدقة مهملة، فلا وقت للتردد أو إعادة التفكير. لقد وصل إلى جوهر اليقين و لم يجد الحقيقة الثابتة فلا ثبات و لا مطلق. عرّى جسد الإنسان الذي فيه و غذى روحه، فتفسخت الممنوعات و بسّط العقد. فمرة يلوح عقله في شهواته و مرة في عودته لفطرته الأولى. كان يعود للأصل كل مرة فتتالت القضايا الكبرى للبعث و الخلف و النشأة الأولى. تواتر الفهم و التحليل إما بعقل باسيل أو بوعي زوربا، تضاد الفهم و تطابق أحيانا، لكن بقي زوربا المتعلم العاقل، فبات معلما و لاحت التجربة جليّة ناضجة متفتحة أمام كل من أراد أن ينهل تفكيرا و رقصا. حصل زوربا على انعتاقه و تغلب على ثقل وجوده المادي و فك ارتباطه بالحاجة فتعالى عن العمر كعدد متضخم في هيئة قيد و كل ما يسمى ضرورات و حلق بعيدا في مدى الحرية، حرية الفكر و التعبير، حرية الدين ، حرية الاختيار…حاد عن القطيع و انطلق غير خائف من الانحدارات التي ربما تودي به إلى الهاوية، فلم تكن له فرامل تتحكم في سير حياته.
قاوم زوربا كل عوامل الجاذبية التي تسقطه سجينا لها، فتحرر من سلطان المرأة و سخر منها كما سخر من كل الحياة، و تعاطف معها أيضا لأنه يراها كائن ضعيف قليل الحيلة. لكنه كل ما أراد الانغماس في متعة معها أقبل عليها بشغف يضاهي جديته في العمل و الحراك. بدا متحكما فيها لا يسمح لها حتى بمجرد السخرية من جنس الرجال كلهم، يغيظه جهلها و يكره خضوعها لسلطان المال و الحب الواهم و يدهشه
ذكاؤها و إلحاحها و تمرّدها أيضا. و في كل مرة يعيدها لمقامها الأول كأنه ينفذ قانون قوامة بتبعيتها للرجل منذ الأزل ممتعضا من هضم حقوقها و ظلمها. تناقض لا يفسره سوى وعيه الذي لم يجد طريقا لحماية نساء العالم ، فيكتفي بحماية ما ملكت يمينه عاشقة كانت أو زوجة أو خليلة.
يسترسل حياته بلا توقف، لكن كلما حل الموت في مكان ما أعاده إلى رأس السؤال ، ما هو الموت؟ أو لماذا يموت الناس؟. كان عصي عليه أن يفهم ماهيته أو يجد تفسيرا منطقيا يشفي غليله. سؤال جاثم على عقله، و لا حتى الرئيس وجد له جوابا و لا نيكوس أجاب. غدت كل البشرية خاضعة له دون تفسير كأنه إقرار بأنه الحقيقة الثابتة الوحيدة و النهاية البديهية لكل كائن حي و لا اعتراض.
لكن زوربا لم يمت، بقي يراقص المعاني و الحياة تتواتر فيها أسئلة الوجود و العدم في رواية خالدة تحمل في طياتها انفعالات و قفزات، اختبارات و اختيارات. كان أقوى من أن يحيله “شارون” إلى العدم. تباعا كبر داخل الرئيس، و بأعماق نيكوس ثم في سرى في دم كل قارئ منا. كلنا تحولنا إلى زوربا، غيّرنا حياتنا بأسلوبه و ارتقينا بأفكارنا مثله و وعينا بجهلنا و تحررنا من خوفنا، شعاره “افعل ما تؤمن به و إلى الجحيم كل شيء مهما كانت العواقب” أصبح شعارنا، فلا خوف مجددا من التجربة إلى أن حدث وتعلمت لغتي”.
زوربا اليوناني رواية عابرة للزمان والمكان، بطلها يحمل زخم أسطوري طرح بواقعية شديدة قضايا شتى لم تحسم بعد على مرّ الفكر والعلم ، نسف فيها نيكوس كل احتمالات الثبات. شّد العقول وأدهشها بذلك الرمز الحي في كل تفاصيل الحياة.
* كاتبة من تونس