ثمار

حكاية رجل تعب من تفسير الماء بالماء

خطرت له فكرة فقرر تنفيذها على الفور.  تذكّر أفكاراً كثيرة سنحتْ له من قبل و لم ينفذ أي واحدة منها .

سأرمي ملابسي كلها و أهيم عاريا في الشوارع!

هههههه . ليست ملابس حتى.  هي أسمال بالية.  كوّمها على الأرض و خرج .

أول مخلوق صادفه كان ذلك الكلب الهرم متمدداً تحت شجرة النيم العملاقة المُعمِّرة الواقفة أمام منزل الجيران. رفع الكلب رأسه و نظر ناحية الرجل العاري بعين واحدة إذ كانت الأخرى مغمضة، ثم عاد ليسند قَدومّه على التراب و يواصل النوم.

فكر الرجل أن يتمدد جوار الكلب و يستغرق في النوم مثله. هذا الكلب لا ينبح أبداً. لا يتحرك كثيراً. فقط تجده ممداً على هذه الوضعية في جميع الأوقات. يبدو مطمئناً و خالي البال.  الرجل العاري نحا فكرة التمدد إلى جوار الكلب جانباً و مضي .

الشارع مقفر في هذه الساعة من الظهيرة و يبدو أن النهار اكتفى بالـ 48 درجة مئوية التي فرضها على الشجر و البشر و الحجر و الدواب و لم يعد لديه ما يفعله فغفا .

عند دكان سليمان البرقاوي رأى الرجل فتاتين في الزي المدرسي المرقط، تشربان  البيبسي و تضحكان. أشاحت واحدة منهما بوجهها و ظلت الأخرى تحدق فيه و لا تدري ما تفعل .  سليمان الذي ينتظر انصراف الفتاتين ليغلق الدكان مؤقتاً ريثما يصلي الظهر, رمق الرجل بنظرة حادة ثم أطرق ناظراً إلى قدميه كمن تلقى خبراً سيئاً . ألقى الرجل العاري التحية كأي شخص يمرّ في كامل ثيابه على جماعة من الناس فيحييهم لكنه لم يسمع رداً فاتجه إلى شارع الأسفلت و هو يحس بالخفة و الانشراح، متوجهاً صوب الشارع المزدحم بالحفر و الدقداق .

سيارات قليلة، و عدد أقل من السابلة هنا و هناك. الركشات حاضرة في المشهد بقوة بطبيعة الحال . مضى زمن طويل على ظهور الركشات في هذه المدينة و قد باتت طقطقة محركاتها الصغيرة، الصوت الأكثر حضوراً و انتشاراً في الفضاء، و أيضاً تقافزها الذي لا يهدأ، و التفافاتها المفاجئة باتت رمزاً لشحتفة الروح و ضيق الصدر و البحث عن فرص لتحقيق رغبات مستحيلة في حياة المدن المكلفتة.  بالنسبة لصاحبنا، فإن كلب الجيران هو الكائن الوحيد، من بين جميع من عرفهم، الذي يحتفظ بمزاج راسخ و يتصرف بطريقة لا تنم عن ضيق أو قلق أياً كانت الظروف و الأحوال . انتبه بضعة من سائقي الركشات و الحافلات القليلة إلى عُري الرجل. التفت أحدهم التفاتة سريعة، ثم ابتسم و هو يمضي في حال سبيله. حافلة من طراز غريس، تباطأت عندما مرّ سائقها قريباً منه. سائق الحافلة الكهل العابس تضاعف عبوسه و بدت على ملامحه علائم التفكير العميق، كأنه يخوض صراعاً ذاتياً حاداً بشأن الخطوة التي يرغب في اتخاذها:  هل يوقف السيارة و يشرع في مساعدة العاري، أم يمضي و كأن الأمر لا يعنيه. عندما التقت نظرة الرجل بنظرة السائق حدث أمر غريب و بدا كأن السائق أطلع من فوره على حقيقة ظل يهرب منها،  كأنه رأي ظله يهرب منه أو فلنقل أنه  لمح صورته في الرجل المتنزه في كامل عريه تحت شمس النهار القاسية ، لكن صديقنا السائق سارع إلى انقاذ نفسه من مطب الرجل العاري ففي ذات اللحظة التي قرر فيها بينه و بين نفسه الوقوف قليلاً و تدبير طريقة يستر بها الرجل العريان، داس على البنزين، و فرّ بجلده.

في بحر ساعة زمن وجد الرجل نفسه محطاً للأنظار. اقتحم (سوق ستة) ، و بدا أن سلوكه أثار لغطاً عارماً، فاقتربت منه سيارة شرطة العمليات، و كما هو متوقع، نزل منها شرطيان غاضبان، صفعه أحدهما، قبل أن يتكفل الآخر بدفعه و حمله حملاً إلى الصندوق الخلفي المكشوف للبوكس .

ضهرية السيارة ساخنة، و بدا أن الشرطي الثالث الجالس على حافة الصندوق كان يفضّل تجاهل المتهم ليتابع حركة السوق من خلف نظارته الشمسية الرخيصة باهتمام متعاظم .

ملازم أول غاضب استقبل الرجل العاري بسلسلة من الشتائم قبل أن يأمر بوضعه في الحجز بدون تحقيق.

قضى في الزنزانة القذرة عدة ساعات وسط جمهرة من الرجال الحانقين و قد أجبره زملاء الحبس على ارتداء بنطال ممزق و عراقي شديد القذارة ثم مرت ثلاث ساعات أو نحوها قبل أن يأتي شرطي غاضب ليجرّ الرجل خارج الزنزانة بدون أن ينطق و لو كلمة واحدة.

تكون الحياة سهلة عندما يسهل تنفيذ الأفكار التي تهجم على العقل بدون سابق إنذار تنفيذا فورياً و مباشراً يخلو من أي شبهة تردد أو تريث. فكرة الخروج عارياً كانت سهلة، لكن الرجل و بعد مغادرة الحبس، لم يعاود الكرة و ظل محتفظاً بالبنطلون الممزق و العراقي القذر طيلة الوقت.  لا يتخلى عن ثيابه حتى لقضاء الحاجة. الأقربون حاولوا وضعه في مصحّ المجانين لكنه فرّ منهم في اللحظة الأخيرة .

و في الفرار تهاطلت عليه الأفكار. و جميعها أفكار جديدة مجنونة مدهشة. لكن للأسف، لم يتمكن سوى من تنفيذ بعضها و بصورة معيبة و لا ترقى لفكرة الانسياق وراء الأفكار بدون أي وازع. ذات مرة خطرت له فكرة تجميع كمية هائلة من قشر الموز و رميه تحت أقدام الناس للتفرج عليهم و هم يتزحلقون. فكرة جميلة و صعبة التنفيذ. يحتاج إلى كثير من الأسطح الملساء إذا أراد لهذه الفكرة نجاحاً داوياً، كما يحتاج – و هذا هو الأهم – إلى المال للحصول على الموز.

ظل يتسلل إلى السوق مدة يوم أو يومين ليحدق في أكوام الموز المعروضة على عربات يدوية أو على الأرض. عندما يبدأ التحديق يتهلل وجهه، ذلك التهلل الذي تلحظه على وجوه الأطفال عندما ينطلق حبورهم من عقاله بسبب أمر قد يبدو للكبار تافهاً، و بعد قليل تشرع ملامحه في الذبول إلى أن ينطفيء التوهج في عينيه، عندها يستدير و يبدأ التحديق إلى الأرض بحثاً عن قشر موز قد يعينه على تطبيق فكرة التزحلق الجماعي الجميلة التي خلبت لبه طيلة الفترة الفائتة. و فجاءة صادف مكبّاً للقمامة في قلب السوق محاطاً بالموز التالف من كل جانب. أخذ يتزحلق على ذلك الموز و يقع و ينهض مطلقاً صيحات متتالية تجمع بين الزغردة و الثكليب إلى أن هده التعب، فانصرف و تسكع قليلاً في المحطة الوسطى و هو يتلفت على أمل أن تهبط عليه فكرة أسهل .

و شحت الأفكار كثيراً و ضنّت حتى في الأحلام.

في الليل يظن أن هناك فكرة مثل بصيص خافت تتخايل له. نور بعيد مرتعش، كأن مصدره شمعة منسية في العراء ذات يوم عاصف. لا تنطفيء رغم أن كل ارتعاشة منها توحي بأنها ستخمد فوراً، و أنها ستذوي، لكن لا، هاهي تتراقص هناك و تتوقد في الأفق، فكأن العاصفة تنفخ في جذوتها و تعيدها للحياة من حيث عملت على قتلها .

” هل سأبلغ تلك الشمعة يا ترى، أم سيُقضى الأمر؟” كان يسأل نفسه و هو يتلفت في اضطراب و وجل.

الحياة شيء غير مفهوم بالنسبة للرجل، و هو الآن غير متأكد من جدوى مغامراته التنفيذية. إنه لا يخشى الصفعات و الركلات و الكدمات، لكنه في قلق عظيم لأنه يستشعر زحف الجفاف صوب نبع الأفكار الذي ينتظر منه الكثير. هو يكره الانتظار، و الآن بات ينتظر كثيراً، فلا تأتيه فكرة، و لا يلوح ما يبشر بأن هناك أفكاراً في الطريق. ليس هناك سوى هذه الشمعة التي صارت بدورها تغيب عن أحلامه و هلوساته بالأيام و الأسابيع، و عندما تلوح مرة أخرى، تبدو له و هي هناك مثل أنثى تدعوه لمشاركتها الرقص، لكنه يخشى أنها إنما تستدرجه ليركض صوبها لتسخر منه في نهاية المطاف. هَزُل جسمه، و شحب لونه فصار يتحرك مثل البعاتي، فلا هو ميت و لا هو حي. يحس أن كل شيء يهزأ به و يسخر منه .

“لست جاهزاً للرقص، لست جاهزاً للحياة بدون أفكار جاهزة للتنفيذ الفوري أيضاً،” هكذا كان يردد بينه و بين نفسه و يبسط كفيه مبتهلاً: “يا رب فكرة تحملني بعيداً، يا رب أجنحة!” فلا يحصل على غير ذلك الشعور المتعاظم بالخواء في دواخله و من حوله أيضاً. عقله أصبح ورقة مستهلكة انهكتها كتابات لغاتها غير موجودة و حتى عندما يظهر له أنه يفهم بعض تلك الشخبطات، يكتشف أنه يتعامل مع عبارات مبتورة أو أحرف متلاصقة بطريقة عشوائية. أحياناَ يظهر له حرف الظاء مكرراً مئات المرات في هيئة سلسلة طويلة لا نهاية لها. سلاسل أفقية من الظاءات تتداخل معها سلاسل أخرى عمودية و شاقولية مشقلبة، هذا غير سلاسل ظاء العنقودية مترامية الأطراف .

ربما كل هذه الظاءات هي طظ منقوصة و لا أكثر. لكن في صفحات أخرى من عقله تبدو الطاء كأنها لا ترغب في الظهور إلا و هي تكرر نفسها عقب كل مسافة كلمة من الصفحة مرتين مع واو متوسطة .  ما بين طظ و طوط تستمر حياته المتعبة .  “تعبت و أيم الله”، كان يكرر بينه و بين نفسه و يضع رأسه بين ركبتيه و ينتظر تلك الشمعة التي قد تتراقص في البعيد و قد لا.

الأفكار العارضة منحته فرصة ممتازة و متكررة ليفعل بحياته أشياء عظيمة، لذلك لا يريدها أن تنضب. هو دائماً يشبهها بالكرات العرضية المعكوسة من الأطراف أمام المرمى. تلك الرميات التي تجهجه لاعبي الدفاع و حراس المرمى و هي أيضاً جعلت عدداً لا يستهان به من اللاعبين نجوماً يشار أليهم بالبنان، فقط لأنهم عرفوا كيفية استغلال الكرات العكسية و حولوها إلى الشباك مباشرة. من جانبه، لا يرغب في إحراز أية أهداف و يذكر جيداً أنه و في فترة هوسه بكرة القدم كان يرتاد الاستادات و الساحات المكشوفة فقط ليشاهد لاعباً يضيع هدفاً مضموناً بعد تلقيه كرة مرسلة عرضياً. أجملها تلك التي تصطدم بالعارضة أو بالقائم و التي تغير وجهتها في اللحظة الأخيرة لتطير على بعد مليمترات من المرمي بعد أن ظن الجميع أنها سكنت الشباك.  ذات مرة و في إحدى الساحات المكشوفة، حدث أن اقتحم رجلنا الملعب ليحتضن مهاجماً أضاع هدفاً مضموناً بطريقة لا يمكن لها أن تتكرر و ذلك عندما طار في الهواء في وضعية سباح مسافات قصيرة يعرف جميع تفاسير الماء ليحول الكرة القادمة من الجهة اليسري إلى المرمى، و عندما استقلبت العارضة الكرة و ردتها إلى الملعب كان صاحبنا المهاجم داخل المرمي معانقاً الشباك بينما صاحبنا الرجل لم يحتمل البقاء حيث هو و قد غشيته غاشية جذب مسكرة تلبسته هكذا دفعة واحدة فتصايح و تقافز و اندفع إلى الملعب و ارتمي على زميله المنحوس تعبيراً عن فرحة طاغية، بهدف رائع ضاع.

 “هانذا قادم إليك شمعتي العزيزة,   ” خاطب نفسه و هو ينهض بعزم و ظلّ يردد تلك العبارة تحت نور ما قبل مغيب الشمس الباهت الحزين إلى أن غادر منطقة السوق نهائياً .

لاحظ أن كل الأفكار المشعة التي تخطر له تبدأ بعبارة “سأرمي”!هي أفكار الخلاص. هي أفكار ما بعد اليأس و هي آخر الأنفاس التي يزفرها القنوط قانطاً.

طبعاً قام الرجل بسلسلة من التصرفات الرهيبة في فترة وجيزة من الزمن دون فائدة تذكر .  كان يقوم بها و هو يعلم في قرارة نفسه أن هذا ليس هو المطلوب بالضبط. بينه و بين نفسه كان يقول إنه يؤدي بعض تمارين الإحماء في انتظار انطلاق المباراة الكبيرة الضخمة النهائية بين الأفكار البالية المسيطرة على العالم و الأفكار الطازجة الرعناء التي يتسقطها و ينتظر تنزلها على أحر من الجمر. “تلك منازلة لن تُبقي و لن تذر  .   . “، قال مقهقهاً بصوت أراد أن تسمعه كل الدنيا لكن كان من الواضح أن تلك القهقهة لم تكن مسموعة أبعد من مسافة خطوتين .

و مضي في غيّه حتى ظنّ أنه بلغ من العوارة ما لم يبلغه أحد. كندك شعره و كافة جسده بالرماد و امتشق سيفاً خشبياً نازل به أشباحاً غير مرئية في ساحة المصارعة الشعبية بسوق ستة فلم يأبه به أحد. حتى الشرطة عملت منو حميل. ليس ضرورياً أن يأبه الناس، المهم هو أن يستميت في البقاء على ما هو عليه في انتظار الفكرة الكبرى التي ستنقله إلى الحال التي يظنّ أن كيانه ينبغي أن يلتحم بها.

في الفترات التي لا يكون ناشطاً خلالها يتقرقص في أي ظل يصادفه و سرعان ما يتحول تقرفصه إلى الوضع الرحمي، أي أنه يتكوم على جانبه في نفس الوضعية التي يتخذها الجنين داخل الرحم و في الأثناء يمص إبهامه و قد يتوقف ليغمغم و يهمهم قليلاً قبل أن يداهمه النعاس ليحلم بالشمعة البعيدة أو ينخرط في إصدار سلسلة من الأصوات المخنوقة و قد تبلغ هلوساته درجة من العنف تجعله ينهض من النوم قافزاً إلى أعلى كأنه يتصدى لكرة عرضية لكنه يسقط من جديد قبل أن يكمل قفزته و قد يروح في سابع نومة و قد يستمر في الهلوسة و الخنخنة أو يروح في ستين داهية هو و قصته المسيخة بأفكارها البروس.

ثم نهض ذات صباح و ألقى خطبة الوداع:

حياتي ليست مرسلة على عواهنها،

حياتي بنت أفكاري

و لأنني دائماً أحس أنني وحلان في بركة ضحلة و مياهها راكدة

و آسنة

فلا مناص أمامي غير المضي قدماً إلى حيث يمكن أن يكون للماء تفسير غير الماء

و ماذا تعتقدون؟

فرغ من خطبته تلك و اتجه إلى كبري المك نمر و في منتصف المسافة تماماً بين مدخل الكبري و مخرجه و من موقعه على ممر المشاة ألقى بنفسه في النيل .

لا أحد طبعاً سيأبه كثيراً إلى الفقاعات التي حامت على سطح الماء فوق الموقع الذي غاب تحته بالضبط .

فقاعات مثل محاولة تفسير .

و بقبقة شديدة البلاغة حامت في الفضاء لبرهة من الزمن ثم سكنت تماماً .

 

 

* كاتب وصحفي من السودان

 

جمال طه غلاب

Writer and translator from Sudan. He published a narrative book dubbed 'Wandering tales ,'in 2002 in addition to 'Neglected fruits' a short story collection in addition to 'The tale of the man who interpreted water by water,'
زر الذهاب إلى الأعلى