خيانة
عشية السادس من يناير في مسقط رأس المسيح، مدينة بيت لحم، وفي الطريق المؤدية إلى كنيسة المهد، لم يُعر أحدًا أدنى اهتمام لصبي صغير كان يقف في مقدمة الحشود الغاضبة من زيارة الأب الذي برع في بيع اراض الكنيسة لجمعيات صهيونية، حتى أن حقل الزيتون الذي كان مرتعًا لطفولته، والذي كان يحف ديرًا قديمًا، حيث تعلم الأب في صغره الحساب بعّد شجرت الزيتون تلك، لم تنج من حملة الرجل المسعور للمال.
الصبي ذو الشعر الأسود الكث والعينان السوداوان الملتمعتان ببريق غامض، والذي ينتعل حذاءً جلديًا باليًا تحت سروال وقميص قطنيين، كان أول من رشق سيارة الأب بزوجي حذائه اتبعهما ببيضة أخذها من السلة البيض الخاصة بسيدة اربعينية كانت تقف إلى جواره بعد أن استأذنها.
استقرت البيضة تمامًا في زجاج السيارة المقابل لمقعد الأب، الذي تبين ما قاله الصبي فقط من خلال حركة شفاهه، حينما هتف الصغير في وجهه بغضب: خذ يا يهوذا !!!
تسمرت المرأة الأربعينية في مكانها وهي تلتفت ناحية زوجها الواقف إلى يمينها، دون أن تتمكن من النطق وعيناها مثبتتان على اتساعهما إلى عيني زوجها، ويدها مرفوعة ناحية الفتى الذي شق الحشود بهدوء موليًا ظهره لهما.
وأخيرًا، بيد مرتجفة وسبابتها موجهة ناحية الفتى الذي كاد أن يختفي وسط الحشود تمتمت بصوت متهدج:
إنه هو …
لقد رايته…
كان هو بشحمه ولحمه !!!
سألها الزوج بقلق: من تقصدين؟
ردت بجزع:
الفتى، يسوع الناصري.
لقد رايته بأم عيني، أقطع ذراعي إن لم يكن هو أول من رشق ثيوفيلوس بالحذاء والبيضة، فقد اخذها مني وابتسم لي، و ….
لكنها عادت واغمضت عيناها عن دمعتان أفلتتا منها قسرًا، وهي تطالع نظرات الشفقة التي ارتسمت على وجه الزوج، الذي سارع بالتربيت على كتفها بعطف واضح، ويداه تمتدان لتغطيانها بشاله الشتوي.
*كاتب وصحفي من السودان