شابو.. حاطب ليل يجمع الحُطام والصدف من شاطئ ناءٍ
حين تقرأ قصيدة “الشيخ” لعبد الله شابو ستعي تماما أنّ النص الجيد ليس بالضرورة أن ينحاز إلى عصر معين أو إقليم ما، وأنّ النص الثري الدلالة، والغني بإيحاءاته ورموزه قادر على طرح أسئلة شعريته، وحثك على الدخول إلى النص عبر بوابة اللغة لاستكناه الأبعاد التصويرية والجمالية المكونة له، وقد ارتكز نصّ “الشيخ” في بنائه على مجموعة من العلاقات الدلالية المتوالية في بناء فني محكم على مستوى البنية السطحية والبنية العميقة.
ويقع النص ضمن مجموعة “حاطب الليل” التي تشكل بجانب مجموعتي “أغنية لإنسان القرن العشرين” و”شجر الحب الطيب” مجموعة الشاعر الكاملة والموسومة بـ “أزمنة الشاعر الثلاثة”.. ويقول حامد بخيت الشريف عن هذه الأزمنة: “بالضرورة ليست إشارات وقتية بقدر ماهي إشارات لمراحل حياتية مختلفة وأنماط تفكير تختلف باختلاف المرحلة”. ويشير د. عمر عبد الماجد إلى أن “أزمنة الشاعر الثلاثة” هو “ديوان من دواوين” قصد لذاته تدليلا على المراحل التكوينية التي مرَّ بها الشاعر إبَّان مسيرته الشعرية بدءا من مرحلة العفوية الثورية المرتكزة على التزام أيديولوجي صارم ومرورا بمرحلة أكثر انفتاحا على الآخر، وأكثر تواضعا اختار لها اسم “حاطب الليل” ونهاية بعقلانية ما عادت تؤمن بلونين اثنين لا ثالث لهما على خارطة الفكر السياسي العالمي.
ولأن العنوان هو المفتاح الذهبي وشفرة التشكيل والإشارة الأولى التي يرسلها الأديب/ الشاعر إلى المتلقي و”… شيء مصنوع لغرض التلقي والتأويل” كما يقول ج. جينيت؛ فقد اختار عبد الله شابو جملة “حاطب الليل”؛ المثل العربي المعروف عنوانا لواحدة من مجموعاته الشعرية الثلاث انعكاسا للحالة النفسية والشعورية التي كابد فيها الشاعر ألا يزرع في باحة قلب المحب الأشواك، وتعبيرا عن مسكه الريح وحصد الفراغ، وتمرّغ الحس المنهوك في وحل الحياة الزائفة.. حقبة زمنية كان الشاعر يحدث فيها الدنيا بلا حزن برغم مرارة التذكار التي كانت تقطع نياط قلبه وتفتح فيها مناديل الهوى الغجري جراحه المتدفق منها الدم بثرارة “غزارة” بعدما كانت كامنة كمون النار في العود:
ولو أَني يُقطِّع قلبي التذكار
مناديل الهوى الغجري
تفتح جرحي الثرار
مرحلة كانت حاملة لكل دلالات ورموز المثل من (غموض/ وضوح – جهل/ إدراك- خطأ/ صواب- غث/ سمين) فحاطب الليل هو الذي يجمع الحطب ليلا؛ الأمر الذي يجعله عاجزا عن إبصار كل شيء، واحتمالية وقوعه فريسة لنهش الأفاعي القاتلات ولسع العقارب. والديوان اسم على مسمى جمع فيه الشاعر “بعض الحصى من شاطئ ناء”، أبحر فيه مع “الندامى” ليتنصّت للأجراس الشاردة، ويستنشق “شذى زهر ولا زهر” ويتساءل فيه عن صدى الأصوات والظل والنهر ومجالس السُّمار، قبل أن يحتفي فيه بمثول نون النسوة بكل فئاتها “العانس” والمرأة “الناعمة”، ويجمع فيه الحُطام والنثار والصدف وكومة من الرمالِ والصدا في جدِيلة من الحبال، وليصف فيه “الشيخ” الذي نحن بصدد نصه.
يؤدي العنوان “الشيخ” – من خلال الحقول المعجمية لمتن النص- وظيفة سيميائية وصفية، تستند على الطبيعة النحوية للعنوان، حيث يتكون عنوان نص (الشيخ) من مفرد معرفة، موقعه الإعرابي خبر مقدم حذف مبتدأه، والعنوان “المفرد المعرفة” يعد أقل أهمية من “المفرد النكرة” من حيث البنية النحوية والدلالية، كما أنه يُمكّن الشاعر من السيطرة على سيميائية العنوان بحسب المقولة الشعرية التي يسعى المتن إلى تشغيلها في فضاء المعنى الشعري. فالعنوان يعيّن الموضوعة الأساسية للنص وهي “الشيخ” الذي يخاطبه الشاعر مُبجلا إيّاه بضمير المتكلم الـ “ياء” وتدل ياء المتكلم التي يصلح معا تقدير “أنا” مع بقاء المعنى المراد كما في قولك “كتابي” أي” كتابي أنا ” وغيرها؛ تدل عند اقترانها بالاسم على طغيان الجانب الذاتي على النص، وتعني أيضًا الملازمة والقرب.
واستقبال الشيخ للسيدة يعد من مظاهر تلك الوظيفة، وذلك لما للاستقبال من دلالات تشي بالعظمة والرفعة وعلو الشأن، كما تحيلنا مفردة (أخرى) لمعنى تكرارية الفعل وكأن الشيخ هو ملك الحانة وكبيرها والمستقبِل الحصري لكل أنثى وافدة جديدة.. هناك أيضا مظهر للمشيخة والزعامة وهو تصفيق الشيخ للساقي فالتصفيق سيمياء مناداة وطلب حضور الأقل للأعلى، وفعل الأمر (زدنا) المصحوب بضمير المتكلم (ناء الجماعة) يستخدمه الفرد للفخر؛ وكل ذلك يرسل انطباعا مفاده علو منزلة الشيخ؛ وبذا يمد العنوان جذوره نحو أعماق النص.
وعلى الرغم من بساطة البناء الفني للنّص والبسيط دونما تفريط في العمق إلا أنّه يستميلك للاسترسال في إيقاعه المنتظم، حيث يتضح من بنية النص أنّ القصيدة تنتمي إلى جنس شعر النثر الحر بتخليها عن اعتماد التفعيلة الواحدة و”سيمترية” الإيقاع كما في القصيدة الكلاسيكية العربية، وبرغم ذلك لا يخلو النص من توالد موسيقي وإيقاع داخلي قائم على حركة مكوّناته ونسج العلاقات الناهضة بينها؛ شأنه في ذلك شأن شعر الحداثة. وبإمكاننا استشعار هذا الإيقاع من خلال مؤشرات التركيب اللغوي حين ينتظم في أنساق من الموازنات والتقطيع حيث نلحظ في البيتين الأولين وحدات صوتية بأكملها يرتكز إيقاعها على “هاء التأنيث” التي تلحق الاسم، وهي تنطق هاء إذا سكنت، وتاء مربوطة إذا حركت:
هذي الخمرُ الشاحبةُ السُمرة
تتوثّبُ في الإبريق الماثل شعلا مستعرة
وتقابلنا ذات الهاء في وحدات صوتية كاملة آخر القصيدة:
شيخي يغرز في اللحم البض أحزان البارحة المرة
ويصفق للساقي أن زدنا لا تبقي قطرة
للصّحو التافه فينا لا تبقي قطرة
فغدت الصور والإيقاع في حركة دائرية من الخمر مبتدأ إلى الأنثى توسّطا ثم إلى الخمر منتهى.. وذات الوحدات الصوتية الكاملة تتكرر لكن مع اختلاف الحرف:
يهمسُ في أُذن الوافدة الريّا الأَرداف
أحلى ما استَحقَبَ من حيل الأَسلاف
شيخي تغمُره اللحظةَ كلّ الأطياف
ومن خلال أسلوبية قصيدة الشيخ ندرك أننا أمام محاور ثلاث هي (الشاعر- الخمرة- الأنثى) ومنسجمة فيما بينها بلا اصطراع.. فالشاعر يؤدي دوره متنقلا بين ذاتين: “واصفة” و”موصوفة”.. حيث تصور الذات الأولى ” الواصفة” ما يجري في الحانة، وتتمظهر من خلال البنية الكلية للقصيدة عبر عدد من المفردات والإشارات، وتقوم اللغة فيها بدور فاعل؛ فالتضاد اللفظي (الشاحبة/ شُعلا) (السُمرة/ مُستعرة) (الضوء/ دخان) يساهم في كشف توتر الذات، ويمهّد السبيل أمام انقسامها وترددها بين خيار “الوصف/ الحياد” وبين خيار “الموصوف/ الفاعل”.. الذات الثانية الموصوفة هي المحرك الديناميكي للأحداث وإتيان الأفعال كالتجرّع، والاستقبال، والتواصل، والتلوي والهمس والاشتهاء، والطلب والغرز وغيره؛ وتتضح في الأبيات:
شيخي يستقبل سيدة أخرى
يهمسُ في أُذن الوافدة الريّا الأَرداف
أحلى ما استَحقَبَ من حيل الأَسلاف
شيخي تغمُره اللحظةَ كلّ الأطياف
يتلوى شبقا
يتنزى شبقا
ينجرفُ على صدر الموجات
شَيِخي يغرزُ في اللحمِ البضّ أحزانَ البارحة المُرّة
ويُصَفقُ للساقي أَنْ زِدنا لا تُبقيِ قَطْرَةْ
للصَّحوِ التافهِ فينا لا تُبْقىِ قَطْرةَ
وتتميز الذات الموصوفة بقلةً ضمائر المتكلم المنحصرة فقط في “زدنا” “فينا” بينما تتكاثف فيها الضمائر المقدرة بـ “هو” والواقعة في موقع الفاعل المستتر بعد أفعال المضارع مثل (يستقبل) (يهمس) (ينجرف) (يتلوى) (يتنزى) (يغرز) (يصفق).. والأفعال المضارعة داخل النص تبلغ 12 فعلا تنصرف إلى معاينة حالة من طغيان الفعل والاستثارة، وتعكس أيضا حالة من الصراع الداخلي والرغبة الجارفة والتعطش. كما تفيد هذه الفاعلية معنى الزمن الحاضر والاستمرارية في الفعل، بينما أفعال الأمر- بما فيها المضارع المسبوق بطلب – انحصرت في ثلاثة أفعال فقط: “زدنا” والفعل “لا تبقي” الذي تكرر مرتين، وجاء في نهاية القصيد..
ويشغل المحور الثاني “الخمر” المستوى الأول والأخير من القصيدة، والحيز الأقل. وينتمي حقل مفرداته المعجمية واللفظية كـ “الخمرُ” “الشاحبةُ السُمرَة” “شُعلا مُستعرة” “الساقي” “زدنا لا تبقي قطرة” “للصحو التافه” أحزان البارحة المرة “الإبريق الماثل إلى دلالات الإيحاء بالغياب، والنشوة، والارتواء، و”الحزن العميق المودي بأهله إلى معاقرة الكأس المترعة” والانقطاع والتخفف من أعباء الواقع وضوابطه الاجتماعية.
أما محور الأنثى الثالث فيعد الحيّز الأوسع في القصيدة، وكأنّما مهدت دلالات علامات التأنيث في الأبيات الأولى “اسم الإشارة هذي” ومفردات (شاحبة، سمرة، مستعرة، دائرة) لحضور الأنثى “ريّا الأرداف البضة” في باقي القصيدة، وتطغى على هذا المحور العاطفة وهيجان الغريزة والشهوة والتعطش والرغبة بدلالات مفردات: “حِيَل” “شبقا” “سيدة” “الأَرداف” “يغرز” “اللحم البض”. كما تشي حركة المدود وهاء التأنيث في بعض الكلمات مثل: “أرداف/ أسلاف/ أطياف”، “يتلوى/ يتنزى”،” مُرة/ قطرة/ سُمرة/ مُشتعلة” بالرغبة في التنفيس والتمدد لاسيما إذا علمنا أنّ الهاء حرفٌ يشبه حروف العلّة كما أنّه يشابه المدود في صلاحيته للوصل. والهاء حرفٌ ضعيف “مهتوت” وفي الأمر دلالة أنّ الضعف يتماشى مع حالة الشيخ الذي ينسى وقاره ويضعف أمام الخمر والنساء.
تُمسِك لفظة “شيخي” المتبدية في عبارات (شيخي يستقبل سيدة أخرى) (شيخي تغمره اللحظة كلّ الأطياف) (شيخي يغرز) بعصب التكرار والتمفصل في حركة نمو القصيدة؛ وهذا النمو محكوم بتغير زمن الواقع من خلال حركة الأحداث والفواعل العاملة، وتكرار مفردة “شيخي” يشكل فاصلة كرونولوجية -تسلسل زمني، تعاقبية- في حركة النمو هذه، وتؤدي وظيفة استمرار زمن الفعل ودرامية حركة “الشيخ” بما يعكس حالة النفس البشرية وتدرجها الطبيعي عندما تُسرج دابة الشهوة..
تمثل حركة النمو الأولى في عبارة (شيخي يستقبل سيدة أخرى) بداية الحركة الدرامية في النص والفكاك من دال الخمر إلى دال الأنثى، وتشي لفظة “أخرى” كأنّ العبارة استفتاح وبلاغ وإخبار بأن هذا “الاستقبال” هو فعل عادي متكرر يوميا، مجرد لقطة فوتوغرافية تحدث دوما؛ لتبدأ بعده الشحنة الرمزيّة تحت عبارتي (يهمس في أذن الوافدة الريّا الأَرداف/ أحلى ما استحقب من حيل الأَسلاف) لتتجسر المسافة بين الدال والمدلول وليحدث انزياح عن المعنى الاصطلاحي لتعبير “يستقبل” إلى معانٍ أخرى.
وتبدو الحركة الثانية (شيخي تغمُره للحظة كلّ الأطياف) كحركة طبيعية لتطور إيقاع فعل “الهمس” و”استحقاب الحيل” ومتوالدة عنها لتذهب في التسارع، وكأن فعل “تغمره” يعبر عن رغبة حركته في التجاوز الصيروري ليصل إلى مرحلة “التلوي شبقا” “والتنزي شبقا” ومن ثم الانجراف على صدر الموجات.. وتشغل هذه الحركة الحيز الأكبر من جسم القصيدة وحركتها المتقدة، وهو حيز ما قبل الذروة قبل أن يغرِز الشيخ في اللحم البض أحزان البارحة المُرة. وتتميز بأنّها حركة نفسية داخلية ذات أبعاد صراعية، كلها غمر وتلوٍ وشبق واستنزاء وإفرازات ولفظة “الموجات” دلالة على التوغل بشدة في الحالة والشروع في الفعل بلطف اللمس والجس “لتقوم خلايا الجلد بعد هذا التأثير الحسي اللطيف بإرسال موجات محرضة (كهروشبيقية) ويقول أهل العلوم أنّ مشاعر الرغبة والغرام تطلق موجات وإشارات كهربائية إلى الجهاز العصبي المستقبل وعن طريق العصب السمبثاوي لتصل الموجات الكهربائية إلى عدة مناطق في جسد الإنسان.
وقد أدرك الشعراء قبل الأطباء منذ وقت بعيد معنى احمرار خد الحبيب خجلا نتيجة لتمدد الأوعية الدموية السطحية بالوجه التي تتأثر بالموجات العصبية التي تنتقل من المخ إلى الجهاز العصبي المستقل الذي يزيد تنبيه العصب “السمبثاوي”، وهذا العصب هو الذي يغذي بشدة الوجه عن طريق زيادة إفراز هرمون “الأدرينالين والنورادرنالين” وتنبيه مستقبلات معينة داخل جدار الأوعية الدموية السطحية فتتمدد ويحمر الوجه من مشاعر الحب والشوق، وعبّروا عن ذلك كما في قول ابن عبد ربه:
بيضاء يحمر خدها إذا خجلت
كما جرى ذهب في صفحتي ورق
وقول ابن المعتز:
بياض في جوانبه احمرار
كما احمرّت من الخجل الخدود
وما حركة النمو الثالثة “شيخي يغرزُ في اللحم البضّ أحزان البارحة المُرّة” إلا مشهد ختامي ونتاج بديهي لحركتي النمو السابقتين؛ عالم “الاستقبال والهمس” وعالم “الإثارة” حيث تأخذ كل حركة من الحركات الثلاث بتلابيب الأخرى، ويتجلى ذلك من خلال الآلية التي تحكم بنية القصيدة في سيرورة مكوّنات عوالم الحركات الثلاث؛ فحين تنظر للعلاقة السببية بين حركتي النمو الأولى والثانية تظهر الأولى “شيخي يستقبل..” مجرد أثر للثانية “شيخي تغمره..” ومن ثمّ تصبح الثانية أثرًا للثالثة “شيخي يغرز..”.
اتجاه حركة النمو الأولى “شيخي يستقبل..” يتميّز بأنّه خارجي فاستقبال الشيخ للسيدة مشهد محسوس للرائي يكون بمظاهر الاستقبال سواء المصافحة أو العناق، بينما تتميز الحركة الثانية “شيخي تغمره اللحظةَ كلُّ الأطيافْ” وما يستتبعه من شبق وإثارة باتجاهها الشهواني الداخلي المعنوي، لتأتي الحركة الثالثة “شيِخىِ يغرز في اللحمِ البضّ أحزانَ البارحةِ المُرّة” جامعة لاتجاهات الحركتين: داخلي/ خارجي بوصفها تأكيدًا على النتيجة الحتميّة والتراكمية لتوالي الحركات والأحداث التي ظاهرها المحسوس الغرز في اللحم البض وباطنها المجرد اللذة التي تغسل أحزان البارحة.
أجاد شابو في هذه القصيدة مقولات الأسلوبية “الانزياح والتركيب والاختيار” حيث صوّر تركيب “يتلوى شبقًا” حالة الشيخ الشهوانية ببراعة، وكان بإمكان الشاعر أن يختار كلمة أخرى بخلاف “يتلوى” مثل “يعاني” أو “يقاسي” لكنّه اختار لفظا أقدر على حمل المراد وتعبير يتلوى يرادف الألم والتوجع والانعطاف نحو الاضطراب ويقال: “يتلوى ألمًا”، “يتلوى من الجوع”، “يتلوّى النّهْر في مجْراه” أي يتعرّج وينْعطف، وتلوّى البرْق في السّحاب: اضْطرب.
ومثالا آخر لحضور الانزياح وروعة التركيب عبارة “يتنزى شبقا” فاختيار “يتنزى” كان عبقريا ماتعا في شعريته لاسيما إذا علمنا أنّ “الأَنْزاء” حركات التيوس عند السِّفاد – العُشار- ويقال فحل كثير النَّزاءِ أَو النَّزْو.
ولا تخلو القصيدة من الصور الشعرية والمركبات المجازية من جنس قصيدة النثر التي تختلف في مقاربات وتشبيهات ومناسبة المستعار منه للمستعار له عن الشعر التقليدي، فالصورة في قصيدة النثر ليست سهلة الإدراك وذلك لتعدد مستويات الشبه وبعد المسافة بين طرفي التشبيه والاستعارة.. وحين نقف إزاء مفردة “استحقب” في مقطع (أحلى ما استحقب من حيل الأَسلاف) نتساءل عمّاهية هذا الاستحقاب الذي يعني الادخار؛ هل يعني المراودة أم نصاعة التجربة وحذق القول وسعة الحيلة.
ولغويا استحقب من “الحَقَبُ” وهو الحزام الذي يلي حقو البَعِير، والحقو هو ما فوق الورك أو الفخذ وقيل: “هو حبل يشد به الرّحل في بطن البعير مما يلي ثِيلَه: أي “قضيبه” تقول منه: أحقبت البعير. وحَقِبَ حَقَبا أي: تعسر عليه البول من وقوع الحقب على “عضوه”؛ ولا يقال: ناقة حقبة لأن الناقة ليس لها “قضيب”. واربط هذا المعنى “الاستحقاب” مع تاليه من أبيات الشبق والاستنزاء وغرز اللحم في اللحم لنقف مشدوهين أمام هذه الشاعرية التي تجيد نصب فخاخ التشويق وتناسق المعنى مع المبنى وسلاسة البنية العميقة والسطحية للقصيدة بتواتر وحبكة مدروسة.
ثم انظر كرة أخرى لمفردة الأسلاف لتكتشف أنّ من الأخذ من الأسلاف يعني استقاء الحكمة والعبر، وبالتالي تصبح لفظة “شيخي” المختومة بياء المتكلم ليست تبجيلية فحسب؛ بل صفة لمرحلة عمرية “الشيخوخة” وهذه الصفة العمرية تستوجب وتفترض في صاحبها الحكمة وسعة المعرفة وحسن التصرف في تعاطيها مع المواقف.
وكذلك تدل تراكيب “الريّا الأَرداف” و”البضة” على سعة شعرية شابو وضلاعته في اختيار تراكيب اللغة وتفجير طاقات المفردات الكامنة فيها، فقد وصف أرداف السيدة بأنها (ريّا) أي ممتلئة، ويتناسب ذلك الوصف مع تركيب “اللحم البض” أي الناعم الملمس، مذكرا إيّانا بقول النابغة الذبياني عند وصفه للمتجردة:
محطوطة المتنين غير مفاضة
ريا الروادف بضة المتجرد
*كاتب من السودان