حَمَائِمْ
في البدء.
حَمائِم الحبيبات.
نقلاً عن السَرّاد أبي حازم بن الجالي ، عن الشاعر خالد بن عبد الله، قال:-
“الحمائم التي أهدت هديلها لعينيك
كنت سأنسف قلبي حنطة لها
لولا أن قصيدة قالت لي لا تكن متهوراً
ونحو ذلك”
حمامة السيدة.
كنت سأذبحها، لولا أن سيدةً صغيرةً جميلة صاحتْ: لا. لا تفعل.
رفعتُ السكين عن عنق الحمامة، واستقمتْ.
السيدةُ الجميلةُ الصغيرة وَضعتْ راحتيها على خصرها، أمالت رأسها قليلاً إلى الوراء، ثم سألتني:
– أمختونٌ أنت؟
وأردفت:
– إن لم تكن كذلك، فلا تذبح الحمامة. الصبيان لا يحق لهم الذبح ما لم يُختنوا.
استفزني ما قالت.
حمامةُ بيضاء،
حمامُتها،
كنتُ سأذبحها. لولا أنها أمرتني بألاّ أفعل. ولم أفعل.
أَفلتُها من يدي.
طَ
ا
رَ
تْ
حلقتْ في سماء الله الفسيح.
يدي التي أفلتت الحمامة، رفعتْ جلبابي إلى أعلى.
الأُخرى – التي قذفتْ بالسكين قريباً من مكان الذبح– سحبتْ ما يسترني، لترى السيدة أمختونٌ أنا أم لا.
غطّتْ السيدةُ الصغيرة الجميلة وجهها بكفيها وشهقتْ. لم تصرخ. صرختْ الخادمة. الخادمة وسيدتها هرولتا إلى داخل السراي.
ثَبّتُ نظري على المشهد الإيروسي ـ مثلما أفعل كل يوم ـ حين تنزل السيدة إلى الحديقة، تعتلي أُرجوحتها المربوطة على أفرع شجرة زيتون، تدفعها الخادمة برفق من الخلف. أتظاهر حينها بجز العشب وتشذيبه، بينما كل حواسي تظل متيقظة للحظة طلوعها الدرج.
لا أدري كم كان عمري حينها. لكنه يزيد عن عمر السيدة الصغيرة الجميلة بأشهر.
أمي تقول: إن فطامي كان يوم وُلِدَتْ السيدة -هكذا يؤرخ لمواليد العمال في سراي السادة -كل شيء مقترن بحياة السادة والسيدات أصحاب السراي. ربما لم أبلغ سن الفطام، لكن أمي فطمتني لتتفرغ لخدمة السيدة الكبرى لمدة أربعين يوماً.
سادةٌ وسيدات يملكون أفدنة ذات مساحات لا متناهية. سراي على النمط الفيكتوري. حدائق غنّاء وخيول. خيول أفنى والدي عمره في رعايتها. أبي سائس خيول السادة. خيول أصيلة:
كحيلان، صقلاوي، ومعنكي. يغسلها، يمشط شعرها، يقلم حوافرها ويعطرها كل جمعة. يوم نزهة السيد الأكبر.
خيولٌ طعامها تمر ودخن، بينما يأكل سائسها وأهله القديد.
سرى الخبر وسط أُسر عمال السراي.
ابن السائس قلّ أدبه على السيدة -هكذا تداولوا الأمرـ
عند المساء، لم أكُ قادراً على النوم من شدة آلام الضرب. لم يسألني أبي عما حدث. إنما انفرد بي خلف الإسطبلات وأوسعني ضرباً، تركني والدماء تسيل من سائر جسدي. ظلت أمي تعالج جروحي بماء الملح طوال الليل.
بعد حين، تماثلت إلى الشفاء.
تقرّر نفيي.
مثلي مارق. مارقٌ أنا. المارقون ينفون من أرض السادة.
سيشيعني السادة والعمال باللعنات يوم النفي، سيتحلق الناس حولنا نحن المارقون، قليلو الأدب، السكارى، المتمردون، مخالفي الأوامر. تم حشدنا في مبنى خصص لهذا الغرض، ننتظر إلى حين أن يأمر السيد الأكبر بترحيلنا. نانس وحدتنا القسرية، نتسامر، نحكي. كلنا يستمع حين يحكي سيد المارقين، العم جودة، يقول إنه أتى السيد الأكبر ذات أمسية وباغته مستفسراً: أتقول أن جدك الحسين؟ حسناً. أنا أبي هو آدم وأمي حواء، الحسين أخي. آدم أبانا الذي أنجبنا، أخي مات شهيداً، أدعو له بالرحمة، دعه بسلام في مرقده الأبدي واذكرني. هو لن يسمعك. أنا حيٌ يرزق، أسمعك. قل جدي جودة.
لولا أنه شقيق رجل من ثقاة السيد الأكبر، لشُنِق ليلتها، بيْد أن أخاه مكلف بطَي العمامة المقدسة على رأس السيد الأكبر، ويشغل أيضاً منصب مراقب عمائم الرعية لردع كل من يحاكي طريقة طي العمامة المقدسة، إلى جانب رئاسته لحراس السراي. لولا ذلك، لشُنق العم جودة، ولِما عرفنا منه أنه استُجْوِبَ، ومَنْ استجوبوه قالوا إنه سكير يجب نفيه. لكنه يقول بثقة إن ما شربه في تلك الأمسية لم يكن (مريسة)* مثلما أفاد الذين كلفهم السيد باستجوابه، كان يصر أنها خلاصة الذرة المختمرة، والذرة طعام حلال، شربها ليزيل آلام بطنه، وله فيها مآرب ليلية أخرى. هو سيدنا جودة. كبير المارقين.
كلنا إلى المنفى، مكان في (الصعيد)* جهة الجبلين. سيبقى من يشمله عفو السيد أو السيدة، لم يحدث ذلك سوى لرجل ضخم كان يحمل السادة على كتفيه حين يخاطبون الحشود في المناسبات، تعثر ذات مرة فسقط سيد شاب من على كتفيه. أمروا بنفي الرجل، لكنهم سرعان ما تراجعوا وعفوا عنه. لا أحد يستطيع حمل السادة البُدناء غيره، تركوه ليركبوه مثل الدابة.
وفي ذات السياق.
حمائم الجد.
هنالك. عند المشاريع الزراعية التابعة للسادة، في تلك الأصقاع البعيدة، يقطن جدي، مشرفاً على العمال وقيِّما على أملاك السادة. الحياة تعني لجدي.. الله، طاعة السادة، الجنة. في أصقاعه تلك، كان يربي حمائم ينتقيها بعناية، يرعاها ويسهر على راحتها، يحوِّطها بالتعاويذ من هوام الأرض من إنس وجان، يسقيها ماءً مُحلَّى بالسكر، يطعمها كسرات خبز ممزوجة بالحليب، تنمو الحمائم زاهية، نضرة وشحمانة. كل عام يأخذها في ميقات محدد إلى سراي السادة.. طعاماً هنيئاً للسيد الأكبر.
وعطفاً على ما سبق..
حمامة نوح.
جاء في الأثر.. في قصة الطوفان العظيم..
(بعدَ أربعينَ يوماً تَوقّفَ المَطَر.. وشيئاً فشيئاً انقَشَعَتِ السُّحُب، وأشرَقَت الشمس، وظَهَر في الأُفقِ قوسُ قُزَحٍ الجميل.. قوسٌ ملوّنٌ فيه الأخضرُ والأزرقُ والأحمرُ والبُرتقالي والبنفسجي.. ألوانٌ جميلةٌ تَرسِمُ الأملَ في الحياة.
أطلَقَ سيدُنا نوحٌ غُراباً، طارَ الغُرابُ في السماء.. دارَ في الفضاءِ ثم عاد.. عادَ لأنّه لم يَجِد أرضاً يابسة.
في المرّةِ الثانية.. أطلَقَ سيدُنا حمامةً بيضاءَ..انطَلَقتِ الحمامةُ، راحَت تَطيرُ فوقَ المياهِ إلى أنِ اختَفَت.
بعدَ مُدّةٍ.. عادَتِ الحمامةُ وهي تَحملُ في مِنقارِها الوَردي غُصنَ زَيتون).
جدي يقول إن الحمامة جَلبتْ غصن الزيتون من أرض السادة المبجلين.. من الشجرة التي تتدلى من أفرعها أرجوحة السيدة الصغيرة الجميلة.
وفي ذات المنحى..
حمامة السيد الأكبر.
(انتخبوا مرشحكم.. رمز الحمامة).
عادة يبارك الناس للسيد الأكبر فوزه منذ أن تظهر هذه الإعلانات كل حين، مقرونة بصورته معتمراً عمامته المقدسة. لا يهمهم الأمر كثيراً، ما يهمهم أنه موسم الطعام المجاني. تذبح الذبائح. تقام الولائم في الشوارع والقصور والسراي. نحن المنفيون كان آخر موسم لنا. يأتينا الحراس كل يوم عند المساء، نساق كما القطيع إلى حيث الولائم المبذولة في سراي السادة، يحيطون بنا وهم على صهوات جيادهم المجيدة.
جاء جدي من أصقاعه البعيدة في غير موعده، ليبارك للسيد الأكبر فوزه في الانتخابات. كان فرحاً حتى أنه تمطى عند مدخل السراي وطلب من أصحابه أن يذبحوه قرباناً للسيد الأكبر. كان يبكي وهو يطلب من أصحابه أن يريقوا دمه حتى ينطّه سيده.
لم يذبحوه، ولكنهم أخبروه عني، أوعزوا له أن من يستحق الذبح هو حفيده.
الوشاة قالوا لجدي: حفيدك، الذي هو من صلب ابنك السائس، قلّ أدبه على السيدة الصغرى.
يقال أنه بكى حتى أغمي عليه، ولما استفاق، صب جام غضبه على ابنه الذي لم يعرف كيف يربيني.. لم يعلمني احترام السادة، وتقديس السيدات.
قال إنه سيشنقني صباح الغد أمام الملأ، وسيمكث في السراي إلى الأبد، سيترك أسرته ومواشيه وكل أملاكه.. سينذر حياته لخدمة السيدة، عسى أن تغفر لسلالته.
وعليه..
حمامة زاجلة
أتى الحراس عند المساء لنُساق إلى السراي حيث الولائم. لأول مرة يأتي معهم رئيسهم، شقيق العم جودة. أمر بعزلنا عن بقية المارقين ـ العم جودة وأنا ـ أوقفوا المارقين صفوفا متتالية، ونحن في المقدمة كإمامي صلاة. خلفنا الحراس وفي مواجهتنا رئيسهم على صهوة جواده، بعد أن بسمل وصلى على النبي الكريم وأصحابه الميامين، خلفائهم والسادة المبجلين. ذكّرنا بطاعة أُولي الأمر وما يحدث من مخالفة أوامرهم، وتحدث كثيراً عن احترام السادة وتقديسهم. وختم حديثه مخاطباً بقية المارقين قائلاً:
أنتم ستنفون نهار الغد، أما هؤلاء الاثنين سيقتلان حتى يكونا عبرة لمن يتطاول على سيده، الصبي سيشنقه جده، وأنا سأقطع رأس شقيقي بسيفي هذا. ستشهدون ذلك صباح الغد قبل أن تغادروا إلى منفاكم.
ساد صمت مهيب على المكان. لم يقطعه سوى توجيهات رئيس الحراس بأن يساق بقية المارقين إلى السراي، ونبقى نحن الاثنين تحت حراسته.
لم يتمالك العم جودة نفسه فانهار جاثياً على ركبتيه يبكي. لم أكترث للأمر كثيراً، لأنني لم أتخيل أن جدي الذي أحمل اسمه سيفعل ذلك، أبي سيمنعه، أمي ستقاتله، كنت على يقين بأن ذلك لن يحدث.
غادر الجميع. بعد حين، انقطعت أصوات الحراس وهم يوبخون المارقين ويحثونهم على الإسراع في المشي. هدأ العم جودة، وقف بصعوبة وجرجر رجليه حتى اقترب من سور المبنى العالي، جلس واتكأ. ظللنا داخل المبنى حتى المغيب، بدأ الظلام ينسج خيوطه. ظل على صهوة حصانه طول هذه المدة، يذرع المكان جيئة وذهابا، لم يتحدث معنا قط، ولكنه عندما حل الظلام، نزل عن جواده واتجه صوب أخيه، وقف أمامه. ناداني. اقتربتُ.
أمر شقيقه بالوقوف. نظر إليه طويلاً ثم احتضنه وبكى. ابتعد قليلاً، أخرج حبلاً من تحت السرج. مدّه إلينا وقال:
هيا أوثقاني جيداً، خذا حصاني وانطلقا حيث شئتما.
***
خارج السياق..
حمامة مارسيل خليفة.
في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي.
حمامة عتيق*.
اذكريني يا حمامة كلما ساجع ترنم بي هواي وحب جمالك.
حمامة الكاتب
طَ
ا
رَ
تْ
بالأحرى، قُصّتْ.
إهداء:
إلى الحمامة التي طارت.
الهوامش
*الصعيد: يعني جهة الجنوب بلغة أهل وسط السودان.
*مَرِيسة: خمر شعبي يصنع من الذرة.
*عتيق: الشاعر الغنائي محمد بشير عتيق.