غوايات

ربما في مكان آخر

(هيا أذهب وساعد «نواره» في الخروج، لقد تأخرنا عن موعدنا مع الطبيب، وربما نفقد فرصتنا في الدخول إليه اليوم)
قالتها أمي بذات التوتر المتكرر في كل مرة نكون فيها على موعد مع الطبيب. نهضت من مكاني في تكاسل جاء بلا قصد، لكنه -ربما-نتيجة لقناعة بعدم جدوى هذا العلاج، فلمدة شهور بقيت ذات الزيارات تترى، بكثير من العلاجات، ولمزيد من الأطباء؛ لكن دون تحسن.

كانت تلك أيضاً نظرة عمتي إلى الموضوع، إلا أنها بقيت أكثر جرأة في إظهار ذلك، معبرة عن إستيائها بالهمهمات المستنكرة والنظرات المستفزات إلى أمي، دافعة بها إلى شجار طويل يضمن لها ضياع موعدنا مع الطبيب، لكن يبدو أن أمي كانت أكثر حرصاً على الموعد، فمارست تجاهلاً متعمداً تجاه عمتي على غير عادتها.

أمسكت بيد نواره -ابنة عمي التي تكبرني بخمس سنوات من الصحبة والفرح-أمسكتها لنخرج في هدوء تتقدمنا أمي بخطوات سريعة، أبطأ من سرعتها صوت عمي حسن قادماً نحونا بحماسه المعهود، في عجل ألقى عليّ بالتحية وعلى نواره، سائلاً لأمي عن وجهتنا. توقعت أن تستنكر أمي  سؤاله، فأي أبٍ هذا الذي لا يعلم بمواعيد علاج ابنته، ولا تفاصيل هذا العلاج! لكن أمي فأجائتني عندما أجابته مذكرة إياه بموعد زيارة الطبيب، مستعرضة في سرد هادئ ورقيق رحلة تحسن مردود العلاج كما تحسب. لم تكن ردة فعل عمي مبالية، بل أكتفى بمدح أمي والثناء على تفانيها، بالإضافة إلى تربيتة على كتفي غير مناسبة ولا متوقعة في اللحظة تلك.

لطوال الطريق كنت محاولاً فتح حوار مع نواره، لكن بلا جدوى. هي فقط تنظر بعيداً، لا تعير كل ما يحيطها إهتماماً، حتى توقفت الحافلة عند بوابة المستشفى. رقِبتُ وجهها الذي بدت عليه بوادر إنزعاج طفيف لحظي سرعان ما تحول إلى حالة التيه اللا إرادي تلك واللامبالاة تماماً حين وقعت عيني على اللافتة الصدئة: مستشفى الأمراض النفسية والعقلية.

تتملكني ذات مشاعر الخوف الممزوج برهبة غريبة في كل مرة كنا ندخل فيها إلى هذا المستشفى. لربما مرد ذلك لتصوراتي بأن كل مرتاد له هو شخص غير واعٍ بأفعاله، غائب الذهن وفاقدُ لعقله، لا يتورع عن أذية نفسه ومن حوله، أو ربما هي تلك الفكرة المشتطة تلك في أن كلهم عارٍٍ تماماً من كل ما يغلف الذات، كل ما يحجب عنها حقيقتها. قادرٌ على القول في شجاعة وقحة سافرة بكل ما نخشاه والذي نخجل منه، مخترقاً لكل الجدر التي نبنيها في محاولاتنا العقيمة لحماية ذواتنا، مخترقاً لكل تلك الترهات بكلمة صدق تفجأ زيفنا، أو حتى بنظرة حُبلى بالكثير.

إنتهت زيارتنا إلى الطبيب، وكما توقعت بلا جديد، فقط المزيد من العقاقير والتوصيات. كانت حالة نواره مميزة كما يقول الطبيب، وكنت أشعر أن لفظ (مميزة) هذا فيه الكثير من القسوة والأنانية، لم تكن حالتها سوى مستدعية للوجع، لم أر طوال حياتي شخصاً له من إسمه كل شئ، مثلها. كانت نواره بالفعل، لم يخطر ببالي أن تتوقف ضحكات نواره يوماً، أو أن تختفي وإلى الأبد كل تلك البهجة الضاجة  ليحل مكانها صمتٌ طويل ونظرات خاويةٌ تحدق في اللاشئ، متجاوزةً للزمان والمكان.

انتهى اليوم بحسابات مدينة الخرطوم التي صارت تنام باكراً. هي تنام باكراً ربما متعبة. ولربما تردد سراً ” لو كترت عليك الهموم اتدمدم ونوم”.

عدنا والشمس على عجلٍ وداعها، لكأنها على موعد ما. دخلت نواره إلى غرفتها، نامت سريعاً لكأني به هروب عظيم تتقصده إستعداداً لأرقٍ يطول. استلقينا أنا وأمي في “حوش المنزل” ننظر في سكينة نحو النجوم المعلقة على سماء هي الأخرى معلقة في سكينتها ورضا، وذاك الثبات العجيب. كانت عمتي في إنتظارنا، متربضة راقبة؛ حتى تتأكد من أن لا تحسن في حالة نواره، مهاجمة لأمي بصوت حادٍ ونبرة ساخرة: من الأفضل أن نتجه إلى الشيوخ وأولياء الله الصالحين، سوف تضيع هذه البنت بسببك، لطالما كان شفاء الإنسان في قربه إلى الله وليس في يد بشر كهؤلاء الأطباء الذين مهما بلغوا من العلم لن يدركوا ما وصله أولياء الله الصالحين وأصحاب البركات”. أمي بدورها قدمت مرافعة طويلة، متحدثةً فيها عن دور العلم في حياة الإنسان وعن أن ما تقول به عمتي هو في حد ذاته بعدٌ عن الله. حقيقة لم أكن مهتماً بالتركيز على هذا الحوار المكرور بقدر تركيزي على منبع حجة أمي، ومن أين واتاها هذا الإيمان العميق بالعلم، كونها إمرأة لم تكمل تعليمها، وحتى بعض التعليم الذي حصلت عليه لم يكن كافياً لجعل حياتها سهلة رغيدة، بالإضافة إلى استغراقي في تأمل تعابير تلك الأوجه. وجه عمتي الغاضب، ووجه أمي الواثق، ووجه عمي الجالس بينهما، والذي لم ألحظ وجوده إلا بعد مناوشة محترفة من عمتي، قصدت أن تستبين فيها رأيه، خاصة وأن هذه المسكينة التي يدور النقاش حولها هي ابنته الوحيدة. كان سؤال عمتي مباغتاً له، فبقي ينظر نحو أمي لتعاود مرافعتها، وكأنه تلميذ صغير وجّه له المعلم سؤالاً عصياً، فلاذ بنظراته نحو زملائه مستنجدا. لتنطلق هي في حماس وبنبرة طفولية تثير الغيظ عند عمتي. كان ذلك مشهداً عادياً يتكرر كثيراً. فقط كان المختلف هو رد عمي على هذه المرافعة، إذ قال بصوت طروب ويدٍ ملوحة في بلاهةٍ وطرب لا يناسب وحدة الحوار المشتعل: “التخاترو لي لا شك جميل. يا جميل”. كانت أمي جميلة الملامح -للأمانة-مفعمة بالشباب والحيوية. فكان ذلك الرد من عمي كافياً ليدخل عمتي في حالة من الغضب، نفثته بموجة إستغفار هيستيري وتسبيح كاد أن يفرط من بين يديها حبات المسبحة المغلوب على أمرها. أما أمي فقد أدهشتني للمرة الثانية وهي تعبر بإبتسامة صافية وعيون لامعة عن رضاها الكبير. ذلك رغم أني كنت أرى عمي في تلك اللحظة رجلاً سمجاً لا أكثر، قفزت إليَّ صورة والدي فجأة وعلى غير العادة، لم أفهم لم، وفي تلك اللحظة تحديداً، لكنه حضر في ذهني بصورة قوية، ربما اشتقت إليه. لا أدري. المدهش أن الصور المخزنة في ذهني لوالدي محدودةٌ بصورة مريبة. أتذكر وجهه عابسً أو حازماً يرتدي الزي العسكري. أغلب مشاهدي تلك تظل صامتة أو مليئة بحوارات قصيرات مقتضبة، تثير عندي خوفاً ممزوجاً بمحبة خفية، كنت أعزي شكل هذه العلاقة إلى رحيله الفجائي المبكر. لازلت أذكر ذلك اليوم وكأنه بالأمس، برغم مرور سبع من السنوات عليه الأن. كنت في العاشرة من عمري -أتذكر-والبيت مزدحم بأناس لا أعرفهم، وبنحيبٍ متصل، أخبرني عمي وقتها بأن أبي قد استشهد في بسالة وهو يحارب أعداء الوطن. لم أعلم من هم أعداء الوطن ولم أفهم ما معنى أنه أستشهد، حتى سمعت أحد المسؤولين الذين كانوا حاضرين ببزاتهم الفخمة وسيارتهم الفارهة في منزلنا المتواضع. كانوا يقفون بفخر كأنهم جاءوا بوالدي بين أيديهم، أو لكأنهم أنقذوا الوطن من هؤلاء الأعداء المتربصين. كانت هيئاتهم وإبتساماتهم وسط ذلك الحزن، تفصح عن جبروت وشر كبير، حتى ظننتهم هم الأعداء. لم يقطع تلك الإبتسامات سوى صوت أحدهم صائحاًً: “زغردي يا أم الشهيد”، ثم مواصلاً بحديث لم أفهمه وأنا ممسك بطرف ثوب أمي التي كانت تنتفض بكاءً، برغم زجر أحد هؤلاء المسؤولين لها، ومطالبتها إياها بالصبر والفرح على حسن خاتمة زوجها!! -على حد قوله-ليواصل “زغردي يا أخت الشهيد طيب” لتطلق عمتي زغرودة طويلة تتوسط دموعها، تزاحم صوت النحيب في البيت وارتجاج أمي بكاءً، وعيوني متسعة بالدهشة ظللت أراقب المسؤول فاغراً لفاهه ومبتسماً بوقاحة، مشيراً إلى الأغراض التي جاءوا بها كدعمٍ أو ربما هو تعويض على فقد أبي. كانت ليلة باردة وموحشة، المكان الشاغر لسرير أبي في الحوش كانت تنام فيه جوالات السكر التي عوضتنا بها الحكومة عنه. لم يقطع سيل الذكريات المنهمر في ذهني سوى صوت نواره وهي تغني، كان هذا تعبيرها عن كل الألم الذي يعتمل في دواخلها، فقط تغني، وبصوت طروب ورثته عن أبيها، متفوقة عليه بإحساس أعمق. كانت تغني كأنما تبكي فنبكي كلنا معها حتى عمتي، والذي تلوذ به بعد أن تفرغ من الإستغفار، فتجري أدمعها غير أبهة بمحاولاتها لضبط مشاعرها، بخاصة اذا ذكرت نواره اسم “عادل” حبيبها وزوجها المستقبلي وتوأم روحها كما تقول، وهو ابن عمتها العزيز الذي رحل عن منزلنا قبل عام ليتغير كل شئ من بعده. (الجزع الكبير هذا هو مس من جنون أو قلة إيمان، لذا لابّد أن تزور هذه البنت أحد الشيوخ، الجلد هو مفتاح النجاة من كل هذا) ولا أحسب فراق عادل يهز وجداناً كوجدان أمه، ولكني أحمد الله على إيماني وجزيل عرفاني لكرم الله اللامحدود…) قبل أن تفرغ عمتي من حديثها احتضنتها أمي في حنو وشفقة، فهي تعلم أن ما أن تبدأ عمتي هذا الموال الإيماني حتى تدخل في نوبة بكاء طويل تواصله وهي تصلي. رغم ظننا في تلك الليالي الحالكة المشحونة بالأسى والمعطونة بكاء، بأن لا صبح سوف يأتي، إلا أن كل شئ هو دوماً منتهياً ومتبدد، و كأنه لم يكن لتأتي الشمس معلنةً عن يوم جديد، معتدة ساخرة من كل حكي الليل كأنه لا يخصها.

نخرج أنا وأمي باكراً وفي نشاطٍ وهمة. تعمل أمي في نفس مدرستي بائعة للمأكولات اللذيذة، تشارك زملائها روحها الخفيفة وحكيها الطريف، وتغدق أمومتها الوفيرة على زملائي. كريمةً هي رغم ضيق العيش، ومغدقة لشعورها الكريم قبل كل شيء. كانت أمي صمام أمان لي في المدرسة، أحب وجودها القريب، ويزدهر وجودي أنا بقربها. تحكي لي في الطريق، وفي كل يوم عن طموحاتها وآمالها كلها التي تجاوزت ذاتها لتضعها على كاهلي أنا، تضعها برفق وحنو وأمل كبير. و لضيق العيش لم يكن دوام المدرسة ومأكولاتها تكفي متطلبات المنزل، بخاصة بعد رحيل والدي وعمل عمي المحدود، فعمدت إلى بيع المشروبات الساخنة في المحطة القريبة من المنزل من بعد دوام المدرسة، أساعدها كنت في إعداد المكان فتزجرني لأعود متابعاً لدروسي، إيماناً منها بقيمة أن تكون متعلماً، وحينما أحتد مناقشاً لها، داعماً حديثي بما حدث لعادل الذي أكمل تعليمه لكنه لم يكمل حياته، فتذعر أمي من هذا الحديث وتهرب مبرراتها ودفوعاتها الجاهزة على الدوام، لتزجرني قائلة : (طير من هنا يا ولد)، فأضحك كثيراً ليس، استهتارا ولكن كانت تلك دعوة أمي الوحيدة التي تعاقبني بها، وكأن قلبها لا يقوى على أن يأتي لسانها بغير ذاك، فتقولها مغضبة وهي تمازحني في كل حالاتها، حتى فقدت جملتها تلك مدلولاتها الغاضبة ذات الحس العقابي، أضحك أنا وتضحك هي ملتقطة لعدوى الضحك مني في مرح وسلام كبير.

“النار يا الله

سبب النار يا الله

أبوي قال لي ما تبيعي الملح

أنا ببيع الملح عشان عدولي السمح

النار الله جوا النار يالله “

تغني نواره بصوتها الباكي، فأحسبها فعلاً ملهوبة محمومة بنار الفراق والخذلان والموت، وأظنها لن تنسى عادلها، ولا أظن أني أيضاً سوف أنساه، كان بهجة دارنا، وبوابتنا نحو العالم الخارجي. طَموحاً ومتطلعاً نحو آفاق بعيده أحسبها لا تخصنا حتى. آفاقٍ جعلته يركب البحر الغامض الغادر راحلاً إلى بلادٍ تحترم أدميته -كما يقول-.. بلادٌ لا يخاف فيها من غدٍ، بلادٌ يتعامل مع حاضرها بكامل الرضا، بلادٌ يسعد فيها نواره. رحل في رحلته تلك الأخيرة، قاطعاً وعوده لهاَ بغدٍ أفضل. أوصى نواره أن تجهز نفسها لأنه سيبعث لها من هناك قريباً، وعد أمه بزيارة لبيت الله الذي تحب، عبأنا بالوعود الوعود، ولعلها هي ذاتها -لثقلها-أغرقته في عرض البحر. كان خبر رحيله صادماً قبل كل مقام، محبطاً بل أحسبه هزيمة، نقله لنا على إستحياء أحد أصدقائه. لازلت أذكر ردة فعل عمتي، كان ملاذها سؤالاً واحداً: هل مات إبني غريقاً؟ هل مات شهيداً؟ وما أن تأكدت حتى أطلقتها زغرودة عالية كتلك التي صدحت بيها في يوم رحيل أبي، أخاها. وشهيدنا الأول. وكأنها تحتمي بالشهادة من هول الفجيعة وتصبراً بها على ما أصابنا، تكسو نفسها بشيء يفرهد لشكل الموت وطريقته، لكنه لن يقدر أن يخفف في يوماً جرحها. وعلى عكس يقينها كانت نواره في حالة إنكار تام. إذ من يصدق بفساد الأمنيات وذوبانها  إلى الأبد؟

ظلّلنا لشهور نبحث أنا و نواره عن من ينفي الخبر، عن صديق يقول عادل بخير، هي فقط مزحة ثقيلة  منه. حتى قابلنا أحد أصدقائه ممن كان معه في ذات المركب ليقطع بقسوة أخر خطوط الأمل في قلوبنا قائلاً: ” كنا ثلاثة سودانيين و معنا بضع شباب عرب و أخرون أفارقة، و مع مرور الوقت و في كل لحظة تعلن عن تقدمنا نحو هدفنا، يخبرنا  قبطانُ المَركب الصغير بضرورة تخفيف العبء عن  المَركب، فنشرع كلنا برمي أغراضنا في زهدٍ و تسارع كبير، و مع تكرار طلبه بات واضحاً أنه لابّد أن نتخلص من أحدنا، الكل كان عدو للآخر حيث لا أمان و رائحة الموت تعم المكان، كنا ثلاثتنا نتناوب على الحراسة فيبقى أحدنا مستيقظاً حماية لنا من غدر من معنا، و في ذلك اليوم و في غيهب الليل الحلوك  كان ذلك دور عادل في الحراسة، لنستيقظ  على صوت ارتطام قوي و صرخة  هلعٍ لا تفارقُ أذني، كان عادل قد غفى قليلاً و داهمه نوم مميت جعله فريسة لغدر أحد من معنا في المركب ليرمي به إلى الموت، لم نعلمْ أيٌ منهم  فعل ذلك ربما أحد العرب أو الأفارقة، و لكن لا فرق،  فبينهم نحن غرباء و سنظل..”.

تلك القصة بتفاصيلها المرعبة كانت كافيةً أن تُدخِل نواره في ذلك الكرب العظيم لتداهمها نوبات هلع متواصلة، هلع مشحون بأماكن و أزمان مجهولة تتضامن فيها مع مصاب المعشوق، كيف لا و هو مستوطٌن بالروح.

وككل الصباحات الماكرة بدا صبح اليوم، يتخبأ في أحراش العادية مخفياً ورائه هزةً عظيمةً لهذا الوجدان. خرجنا أنا و أمي في ذات المواعيد إلى المدرسة، تركنا عمتي تستعد لإستقبال بعض النسوة من الحي لدرس ديني تقوم به و تشغل به فراغها و ربما حزنها، خرج عمي حسن معنا بخطوات مهرولة، قائلاً لأمي ” صباح الخير يا جميل، لدي إمتحان اليوم في المستشفى و لابّد أن أسرع، نلتقي في المساء ..” ودعته أمي بابتسامتها الوديعة الواثقة، أما أنا فأظنه لم يَلحظ وجودي بقربها.

في الحقيقة لم يكن عمي أستاذاً أو طالباً، كان مريضاً، تلك هي وظيفته. فبعد اكتشافه لاعتلال وراثي غريب أصاب قلبه قبل سنوات، صارت حياته حول هذا المرض بل صار مصدر رزقه، يَدرسُ فيه طلبة كلية الطب وتلجأ له أشهر الجامعات ليكون مادة الامتحان العملي، ومع ازدياد صعوبة الحياة في هذه البلاد أهمل عمي العلاج متعمداً حتى يظل دوماً حالة مرغوبة، وتوسع في الأمر حتى صار سمساراً يفاوض في المرضى ويوزعهم على الطلبة والكسب هنا للأكثر ألماً.

لا أظن أن هنالك نموذج للقهر كهذا، بل التصالح مع الوجع حد الرغبة في بقائه، كانت أمي تدعوه دوماً للعلاج ورمي كل الهموم ورائه، ليقابلها بالرفض، هو يحسب ذلك قدره في استسلام وتسليم مؤسف.

وفي ذات اليوم ذو الصباح الماكر جاءتني أمي في شباك الفصل قائلة: “سأذهب اليوم للمحطة مبكراً، عدُ إلى المنزل ما أن ينتهي الدوام. نلتقي مساءً.” قلت لها : انتظرينا نذهب سويا و نعود معاً، انتهرتني قائلة بصوتها المازح و وجها الحازم بشكل طفولي واضح : “يا ود طير من هنا, عد إلى المنزل، أُريدك ناجحاً في وجه كل القبيح المحيط بنا”.

عدتُ إلى المنزل و الشمسُ تعلن عن رحيلها، هذه المرة  لم تكن كأنها على موعدٍ بل كان رحيلها أقربَ للهروب، كأنها تخشى مواجهتي، لألمح من على البعد سرداقَ عزاء منصوب أمام المنزل، كذبتُ عينيّ، و مع كل خطوةٍ اقترب فيها يزداد خوفي، لم  يخفف رهبة المشهد سوى تخيل حضن  أمي الذي سأرتمي فيه و أبكي من مات من منزلنا، لمحتُ عمي متجهاً نحوي و بهذا يخرج من دائرة الإحتمالات، تجاوزته مسرعاً إلى الداخل، كان الأمرُ أشبه بعملية رياضية قاسية، فكلما لمحتُ أحداً منهم صار ناجياً و تصير بذلك أمي أول الإحتمالات، كنت أبحث عنها كالمجنون، الكثيرُ من النسوة حول إمراة يبكين، ياإلهي لابّد أنها أمي يواسونها في موت أحدهم، لأجدها عمتي، و قبل أن أسال احتضنتني احداهن لتزداد حدة البكاء و صوته و ينخفض كل شيء و كل صوت في هذا الكون في سكون مُوحِش  و أخير .

ثلاثة أيام وانقضى العزاء، لم أذرف ولا دمعةٍ، لم أفهم كيف ترحل أمي هكذا؟ بل كيف تجرؤ على تركي هنا. سمعتُ قصة موتها عشرات المرات في بيت العزاء، لم أستوعبها، أسمعها كأنها لا تخُصني، يقول عمي: جاءت دورية الشرطة لتأخذ أغراض بيع الشاي من أمك ومن كل الباعة الذين يفترشون الأرض بقربها، لتركض هي ورائهم في محاولة للحفاظ على مصدر رزقها، فتأتي سيارةٌ أخرى وتدهسها موتاً.”.

لن تحوي كل العوالم مشهداً عبثياً كهذا، مشهداً تسلبُ فيه الروح بكل هذه المهانة، البساطة و الجبروت.

مضت عشرة أيام عدتُ بعدها للمدرسة، كان الذهولُ سيد الموقف، ذهولٌ ممزوج بغبن وأسى لا ينتهي. هذا الذهول تواصل عندما سمعتُ حواراً غيّر وفسّر الكثير من الأشياء، الحوار بين عمي وعمتي لتقول له بصوت غاضب: كفاك حزناً وجزعاً، إنه لكفرٌ مبين، ليست هي أول الراحلين إنه مصير اللاحقين، مع أني أحسب موتها إنتهاء لعصيانٍ عظيم، عصيانٌ جعلك تعشق زوجة أخيك وتُبادلك هي ذات الشعور، وكأن ما يحدث لنا هو عقاب إلهي وتطهير من هذه الأثام …”. انتهرها عمي قائلاً: كفاك هوساً وأوهام، لا تذكرُ هي والإثم سيان، قد كانت للطهر والنقاء خيرَ مثال، وأنتِ على علم بحدود كل ما حدث والله قبلك أول العالمين. لكن يا إلهي كيف يهزم الموت كل ذلك العنفوان، بركانَ العطاءِ المتدفق وينبوعَ الحياة المتفجر “.

لم أكن أقوى على سماع المزيد، حملتني قدماي بلا هدًى بلا هدفٍ أو مبتغى، لأجدَ نفسي في سطحٍ عال لمبنى غير مكتملٍ بالقرب من منزلنا، أنظرُ للعالم تحتي، كلُ الأشياء صغيرة و عديمة القيمة،  أريدُ أن أحكي لأمي اليوم عن حصة اللغة العربية، عاقبني الأستاذ اليوم. كنت في حوجة  إليك يا أمي , طلب منا كتابة نص إنشائي بعنوان ” لماذا نحب وطننا السودان ” لأُسلِمَ  ورقتي بيضاء كما هي، فقط وضعت نقطة واحدة حتى يعلم أني مررت من هنا، صدقيني يا أمي لم أستطع أن أقول شيئاً  هربت الحروف من ذهني، هربت ذعراً من هول  ما رأيت هنا و من هول الفجيعة  في هذه البلاد.

كانت دموعي تملأ وجهي، بكيت أمي أخيراً، كل ما بداخلي كان يعوي، لتأتي فكرةٌ من رحم اليأس و الغبن،  فكرة أتى بها عقلي ليجعل من أمي مُجرمة اثمة  مسترجعاً حوار عمي و عمتي قبل قليل، يالا مكيدةِ هذا العقل يحاول التشبث بأي شيء ينتشله من هذا الحزن الغميس، بفكرةٍ يجرم بها أمي، مطلقاً سراحَ هذا الحزن من دواخلي ليحل مكانه غضب عليها  يستطيع عقلي  التكفل به. عاتبت نفسي سريعاً فأمي روح الإله لا تستحق مني سوى حب وحزن أبدي هو في ذاته لا يكفيني، فبرحيلها انفرط عقد الأمانِ في عالمي. كم أحتاج صوتها الآن، لتردَ هي كأنها سمعتني، في تقرير لكرمها الموجود على الدوام لأسمعها تقول لي بصوتها المازح الرقيق و لهجتها الحاسمة المفتعلة: ” يا ود طير من هنا” أطلقتُ ضحكةً عالية تزاحم دموعي، و لأول مرة أفكر في تلك الجملة بأعمق ما يكون، ربما المكانُ هنا فعلاً في هذه البلاد لم يخلق سوى للفناء، تتعدد الأسباب و الرحيل واحدٌ، كل ذلك الفعل الدؤوب هو تماهي مغلف بتعامي مقيت، ربما في مكان آخر سينتهي كل هذا اللهاث و الأرق الأبدي، ربما في مكان أخر سوف نصل إلى بر الأمان في معارج الروح.اخذتُ نفساً عميقاً أخيراً من هواء هذه البلاد، تراجعتُ بِضعَ خطواتٍ للوراء وانطلقت بسرعة لأطير من هنا كما تقول أمي.

 

 

 

*قاصة من السودان

تحفة رفعت كامل

كاتبة من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى