أحلام المنفى:قراءة في الدفتر الشعري لجون قاي يوه

“إن المرء لايرى وطنه بوضوح كما يحدث وهو بعيد عنه”
هنريك إبسن شاعر ومسرحي نرويجي
فرضت ظروف الحرب الأهلية الثانية التي دارت في جنوب السودان خلال الفترة من 1983 – 2005 اوضاعا إستثنائية على كافة الأصعدة، إذ علت أصوات الرصاص مرة أخرى في سماء البلد، إيذاناً ببدء حرب جديدة، وتوقف الحراك والنشاط الذي دب في جسد البلاد خلال فترة الهدنة التي إستمرت عشرة سنوات.
فقد حمل مجموعة من الشباب الثوار البنادق في وجه النظام الحاكم في الخرطوم، لمناهضة ما اسموه الظلم والتهميش وعدم المساواة التي يرزح فيها الشطر الجنوبي، وتقاطروا إلى الثورة الذي كان يقوده أنذاك العقيد جون قرنق دي مبيور وحدانا و زرافات، وسرعانما عمت المعارك انحاء الإقليم مخلفة خسائر بشرية ومادية كبيرة، وفي خضم تلك المواجهات والفوضى العارمة وجد العديد من الشباب المثقفين والاكاديميين ممن هربوا من التحولات السياسية الجديدة، انفسهم خارج اسوار الوطن، وتابعوا تطورات الثورة من بعيد باهتمام وترقب وعايشوا تفاصليها. وعندما طال بهم السفر، وراودهم الحنين للأهل والديار والأصدقاء، عبروا عن ذلك بشتى الوسائل، فنظموا الاشعار وصدحوا بالموسيقى ورددوا الاغاني، ومنهم جون قاي يوه الذي لجأ للأدب للتعبير عن مشاعره وأحساسيه وانفعالاته مع واقعه الجديد، وإستطاع خلال فترة وجوده في المنفى، وقد تغمره الروح الشاعرية، تأليف مجموعة من القصائد والاشعار، يتذكر فيها اللحظات التي عاشها في وطنه، وروائع مسقط رأسه، والحب الذي يحمله لوالدته وتضحيات الرفاق والاصدقاء، وقد قام لاحقا بتجميع هذه القصائد واصدارها في ديوان حمل اسم (أحلام المنفى) صدرت عنها نسخة مترجمة باللغة العربية عن دار رفيقي للطباعة والنشر بجوبا في 2017، ونقلها للعربية الصحفي والشاعر دينقديت أيوك، ويقع في (93) صفحة من القطع المتوسط، متضمنة (18) قصيدة، ويقدم فيها الشاعر أفكاره وتأملاته وأحلامه وهمومه واحساسيه العاطفية بعيدا عن أرض الوطن، فهو يتذكر الامومة الدافئة ومحبة الام وتربيتها ومن ثم رحيلها المرير، واشواقه لبلدته الواقعة على النهر حيث النساء السمروات الباسقات ورجالها السمر فارعي الطول.
ويصفه في قصيدة (بلدة عرفت) قائلا:
“آه يا بلدة عرفتها، كنت بوابتي الأولى إلى ثقافات غريبة، أظني الآن أعرف لماذا أتذكر أني أحببتك، كنت، وما تزالين، وسوف تظلين سحر ذكريات طفولتي الحضرية”.
ويتذكر أيضا تضحيات الرفاق “دينق أجاك أتاك” وآخرين، ومآلات الثورة، والاوضاع البائيسة التي يعيشها أبناء الثوار العظام الذين يسيرون في شوارع المدن حفاة الاقدام، شحاذين وسط الثراء القذر النابت عن بيع عموميات الأمس، بينما يتمتع خونة الأمس بأحدث الموديلات من الصالونات الكبيرة وخلافها، وهنا أتسما لغة الشاعر بالجراءة والشجاعة في مخاطبة الواقع الماثل.
وتميزت القصائد باللغة المباشرة وبساطة الأسلوب مع عمق الافكار، بيد أن الشاعر لم يوظف اللغة العالية أو استخدام الرمزيات والتصاوير والمجازات والإيحاءات كثيراً، مما جعل النصوص أقرب للكتابة التقريرية، كما في قوله:”لم لا أحبك يا عزيزتي، هل أعرف عن الحياة سوى الحب”، وأيضا :”كلما اتخذت عينيك ملجأ لي، أسترجع مخيلتي المسروقة وإبداعي وحين أجلس تحت ظلال أذنيك، أسمع أسرار الكون”.
(1)
“ويعتمد التوظيف المتنوع للغة الشعرية إلى ثقافة الشاعر، وإلى مدى إطلاعه وإدراكه لما يحيط به من قضايا ومعارف واختيارات ويعود أيضا إلى مدى قدرته على تكييف اللفظة الشعرية مع ما يتطلبه السياق التخاطبي، وذلك حينما يجد الشاعر في نفسه المقدرة على استدعاء الكلمات من مظانها ومن مواقعها المعجمية، ويلجأ إلى توظيفها في سياقاته الشعرية المتنوع”، ولكن لا يمكن ان نقيد الشاعر سيما إذا كان السياق التخاطبي في النصوص يفرض عليه الاستعانة بالفاظ ومفردات اخرى قد لا تكون في الظاهر متناسبة مع موضوع شعره.
ويجدر الإشارة في مسالة اللغة إلى ان القصائد كتبت باللغة الإنجليزية، ومن ثم نقلت للعربية، والكاتب هنا يتعامل مع الترجمة العربية بالضرورة، وان اطلع على بعض النصوص بلغتها الاصلية.
(2)
بدأ الشاعر ديوانه بأهداء إلى ذكرى الشاعر الراحل “سر أناي كيلويلجانق”، وذيله باقتباس له :”أعتقد أنه لا يزال هناك أمل للسودان المحرر الخالي من الكراهية والخوف. سودان يتعايش فيه الناس من مختلف الأجناس والأعراق والأديان”.
(2)”وكثيرا ما ينظر جيل الشعراء الحديث بجنوب السودان إلى سر أناي كلويلجانق، الشاعر والمثقف والصحفي، على انه أول من قدم نفسه الى العالم المحيط به بصفة واسم الشاعر، لانه كان مسكون بهذا الضرب الابداعي بدرجة كبيرة و الذي بداه في اواخر ستينيات القرن المنصرم ، فقد كانت القصيدة بالنسبة له المرآة ، الصوت الداوي ، و القضية ، كما جاءت كتاباته الشعرية ثورية مفعمة بالامل وحب الفقراء وهو اتجاه تنامي في ابان ظهور مدرسة الاشتراكية الافريقية و سيادة روح ادب الزنوجة”، وقد قال عن نفسه ذات مرة (انا شاعر جديد للقومية الافريقية ، شاعر جديد للاشتراكية الافريقية)، وتوفى أناي في شتاء 1999م بلندن، ومن مآثره ايضا انه هو الذي تقدم باطلاق اسم (كرامة) للمجلة التي تصدر عن اتحاد الكتاب السودانيين، وكانت محاججته تتمثل في شمول العبارة التي يستخدمها السودانيون جميعا برغم تعدد اللغات ، لكنهم يتداولون الكلمة (كرامة) بذات الدلالات و المغزي في التعبير عن المناسبة.
في قصيدته الأولى “أمي الحبيبة” يتحدث عن مكانة الأم وافضالها، وكيف كانت تغمره بالحب والحنان، وتوليه الاهتمام والرعاية وسط الظروف القاسية وشظف المعيشة، وزرعت في ذاكرة طفلها معاني الحب والجمال والإنسانية، وساهمت في تشكيل شخصيته وما سيكون عليه لاحقا، ويصفها في اسطر محتشدة بالامتنان والوفاء:
وأمي التي بي أهتمت
ومربيتي ..
ما أروع الخواطر حين أتذكر
طفولتي تحت إشفاقك وهيامك ..!
زرعت في ذاكرتي كل شيء عرفته
عن الحب والجمال والطبيعة بعلمك
المثالي وتعاليمك ..
نعمة وجود المأوى
وحقيقة كوني إنسانا تذوقتها منك ..
أيا، أماه، كنت جوهر الدنيا والحب الذي عرفته ..
شكلت ما سأكون وجعلتيني أصدق
أنك عشت مستقبلي قبل أن أعيشه
ولا يتوقف الشاعر عن وصف الأم “المرأة المحبة التي حافظت على روحه ورعته في أصعب أحوال المنفى، بمستوى عال من الإشادة والمدح بطريقة تدل على الحب الذي يكنه لها”، إذ يعبر عن شوقه، وتأثره الشديد برحيلها المؤلم دون أن يمنحها القدر عمرا مديدا حتى ترى ثمرة جهدها والبركة التي حلت بفلذة كبدها، واستخدم الشاعر تعابير بسيطة وصور بيانية جميلة واسلوب وصفي سلس احتشد به كل ما يجيش في فؤاده :
آه لو انتظرت بعض الوقت
لترى كم بوركت، ونحمد الخالق على ما قمت به ..!
استريحي في سلام يا أماه،
واعلمي أني أتوق لرؤيتك
كلما تذكرت
كم كنت ترعاني ..
شكرا لك أمي الحبيبة …
(3)
في قصيدة (دينق أجاك أتاك) يمجد الشاعر ذكرى صديقه ورفيقه “دينق أجاك أتاك”، وقد كان مناضلا ومثقفا بارزا واحد طلائع الفكر والتنوير في صفوف الحركة الشعبية، انخرط مبكرا في حوارات ونقاشات فكرية عن حضارة كوش، والحضارة السودانية، وظل ينشر آفكاره وآرائه في هذا الشأن، إلى ان وافته المنية في وقت لاحقا دون أن يتاح له كثيراً مشاهدة ثمار نضاله الذي أفنى فيه زهرة شبابه.
ويتحدث الشاعر عن مأثر الرجل وتضحياته ونضالاته وبطولاته، ومساهمته المقدرة في إيلاء رأية الفكر وخدمة قضايا الثورة، وكيف لم يستح في الإشارة إلى أخطاء الثوار الوطنيين ونقده للثورة، متحسرا على ما آلت إليه الثورة وأوضاع الثوار، بتعبيرات تغلب عليها العتاب ونقد الرفاق الذي ضلوا الطريق وبرحوا الأهداف والمقاصد، ويتلوا الشاعر قصيدته :
ماذا يمكن أن يعنيه أن يضحي شخص
أن يموت لتحقيق السلام؟
ماذا يمكن أن يعني أكثر من العيش للموت
من أجل تحقيق أحلام أبناء الثوار؟
كان واحداً من هولاء الأبطال
والبطلات الذين رأو ذلك الحلم
الراحل دينق أجاك أتاك …
أو حين يقول :
وكان متاحا دائماً لتقديم أفكاره …
مؤمناً بقيادة ترتكز على الأبحاث ومطلعة،
كان دينق المفكر من أول رواد الدعوة إلى ضرورة فكرية
إفريقاني من الدرجة الأولى، شهيد وثوري
كان دينق مواطن العالم وإفريقيا والسودان
وجنوب السودان ومواطن من مجتمع جيينق في هذا
الترتيب …
(4)
في القصيدة الأخيرة من الديوان المعنونة “يوم لا يضاهيه يوم” يتحدث الشاعر عن يوم الاستقلال ورفع العلم الوطني في 9 يوليو 2011، ويصف كيف جاء حشود غفيرة من كل حدب وصوب للمشاركة في مهرجان ولادة الأميرة الجميلة بساحة الحرية .. الأهل والأقارب البعيدون، والنازحون على ظهر المركبات العامة والدراجات النارية، والأصدقاء القدامى والخصوم، وشيوخ الأرض وأرواح الاسلاف، والصديقين من جميع الأديان ورعاة الابقار والمزارعين، والجبال والوديان والعمى والصم والبكم، وحتى قطاع الطرق والنهابون واللصوص تعطلوا ليوم واحد للاحتفاء بولادة الطفلة الساحرة، فكان يوم لا يضاهيه يوم آخر.
(5)
ينتمى الشاعر جون قاي يوه، إلى فئة شعراء المنفى، وهم شعراء تم اجبارهم او اختاروا طوعا الخروج من اوطانهم، وظلوا في المنفى لفترة زمنية طويلة، وظل يراودهم الشوق والحنين للديار والأهل والاصدقاء، ويعتمد مفهوم المنفى هنا إلى مجموعة من الأسباب التي تدفع الإنسان للمغادرة مثل، إندلاع حرب او خلافه.
(6)
“ويتميّز شعر المنفى بمجموعةٍ من الخصائص، وهي الحنين إلى الماضي، وكثرة كتابة أبيات شعرية حول تفاصيل في حياة الشاعر الماضية أثناء وجوده في وطنه، ويظهر ذلك في الأمنيات التي يطلب فيها أن تعود تلك الأحداث، وتحدث في الوقت الحاضر. استخدام العديد من الأحداث الواقعية، أي أن يقومَ الشاعر بربط قصيدته بحدثٍ، أو قصةٍ صارت معه في السابق، وما زال يذكرها بكافة تفاصيلها”.
لم يستخدم الشاعر الالفاظ ذات الدلالات الواضحة كثيراً، بمعنى ان يشير إلى الأشخاص، أو الأشياء، أو الأماكن باستخدام مسمياتها الأصلية مثلما هو شائع في شعر المنفى، فرغم استخدامه بعض الاسماء الاصلية في قصيدة “دينق أجاك أتاك” و”جبل لبنان” في قصيدة (سحر الحب) ورقصة “تانغو” و “جبال كلمنجارو الصفراء في شهر اغسطس” إلا انه لم يشير إلى مدينته أو الحي الذي سكن فيه، أو إلى اسم بلدته الريفية التي قضى فيها فترة الطفولة المبكرة، وجاء اهتمام الشاعر بالإشارة إلى الرموز في مواقع محددة مثل : تذكره لبلدته “رأيت بلدة على النهر، قسمتها المياه .. أهلها يتكلمون لغات كثيرة”، فيما لم يوظف موسيقا شعرية مؤثرة في القصائد للتأثير على نفوس ومشاعر القراء، وجعلهم يشعرون بإحساس مشابه لإحساسه، عندما يقرأون أو يستمعون لابيات القصائد.
في القصيدتين الأخيرتين “دينق أجاك أتاك” و”يوم لا يضاهيه يوم” يلاحظ من محتواهما انهما كتبتا عقب عودة الشاعر من المنفى، إذ يرثي في القصيدة الأولى صديقه ورفيقه الراحل “دينق أجاك أتاك” الذي يخاطبه حول ما لحق بالثورة وإنحراف الرفاق عن الاهداف والمبادئ، بينما يصف في الثانية المشاهد التاريخية ليوم الاستقلال ورفع العلم الوطني بالوانه الزاهية، والذي يصفه بيوم لا يضاهيه يوم، وبالتالي يثيران اللغط مع العنوان، ولكن القصيدتين تعتبران من أجمل نصوص الديوان اذ برع فيهما الشاعر باسلوبه الشيق والجميل.
(7)
يشار إلى ان الشاعر جون قاي نوت يوه، ولد في محافظة مايوت في جنوب السودان في عام 1964، وأكمل دراسته الإبتدائية والمتوسطة والثانوية في مناطق مختلفة من محافظة أعالي النيل. وحصل على البكالوريوس في العلوم السياسية والماجستير في تاريخ الشرق الأوسط الحديث من كلية الأداب والعلوم في الجامعة الأمريكية في بيروت وحاصلا على درجة الدكتوراة في السياسة الدولية من جامعة جنوب أفريقيا في بريتوريا، مهتم بالشئون الأفريقية، خاصة في علاقاتها الدولية وفي المنظمات الدولية والإقليمية.
ومن اهتماماته أيضاً إدارة وفض النزاعات في إفريقيا والتاريخ السياسي للإرساليات المسيحية والإسلامية في الشرق وفي القرن الأفريقي، صدرت له ستة كتب في السياسة والتاريخ والفكر، إضافة إلى ديوان شعر، ونشر له مقالات عديدة باللغتين العربية والإنجليزية، ما يجعلنا أمام عمل أدبي جيد يجمع بين خيال الشاعر والحقائق المستغاة من الواقع الذي خبره.
——————–
هوامش
(1) اللغة الشعرية وهوية النص – محمد شداد الحراق
(2) الموقف الثقافي – سر أناي كلويلجانق
(3) خصائص شعر المنفى – مجد خضر
*كاتب وصحفي من جنوب السودان