ثمار

من سويسرا ما تجينا إلا التيبان

“من الريف (مصر) ما يجينا إلا القماش” مثل سوداني

حظرت سويسرا  في عام 2009 بناء المآذن على مساجد المسلمين فيها ،  بتصويت 57 فاصل 5 من شعبها لصالح تعديل دستوري قضى بذلك. ومن أفدح حجج المنادين بهذا الحظر قولهم أن بناء المآذن ليس من جوهر الإسلام لأنها لم ترد في أي نص ديني معروف. ولذلك هي عندهم مجرد رمز للشوكة السياسية الدينية. وهذا تطفل فصلوا به “الجمر عن صندل الشعر” في قول ود المكي عن موت الشاعر. وأوحى لهم بذلك وسواسهم من “الأصولية الإسلامية” التي قال وزير العدل في سويسرا أنه ينبغي أن تؤخذ بعين الإعتبار وبشدة. وروجوا لتطفلهم على معمارنا الإسلامي باستشهادهم بعبارة لأردوغان، رئيس وزراء تركيا، في عام 1997 قال فيها ” المساجد ثكناتنا، القباب خوذاتنا، والمآذن  رماحنا، والمسلمون جندنا”.

الأصولية الإسلامية مخيفة حتى للكثير من المسلمين. والتذرع بها لقطم المئذنة فاسد.ومن اشترى هذه الحجة سيشتري الترام أو برج الفاتح أو الاتصالات. فمأزق أوروبا مع الإسلام هو مأزق مع “الآخر”، أصولي وغير أصولي، حين يقتحم صحن الدار. وأفضل شارح لهذا المعنى هو الدكتور الترابي. وكثيراً ما لفت الأنظار إلى مضمونه. فمن رأيه أن أوروبا تتشدق بمواثيق حقوق الإنسان، تبدي  فيها وتعيد لأنها خلو من ميثاق نفسي تاريخي للتعامل مع الآخر. ولذا لم تجد فقهاً يحول دونها ودون استئصال الآخر متى ثقفته في الدنيا الجديدة: في الأمريكيتين وأستراليا وأفريقيا. وزاد بأن المسلم مقيد بشرع الذمة، الذي أبقى على حياة الآخر وكثير من عقائده مهما كان الرأي فيها في عصرنا الراهن.

بوبت أوروبا فقه الآخر في مواثيقها بحسبانها أنها هي التي ستقتحم الدنيا برجالها ودينها و”إنسانيتها”. وتاريخ تآمرها على الدولة العثمانية دار حول حقوق الأقليات غير المسلمة والنساء. بل أنشأت المحاكم المختلطة في تركيا ومصر لحماية رجالها من قضاء الشرائع “البدائية” في البلدين. ولم تضع أوروبا حساب يوم يقتحمها فيه رجال آخرون ونساء بالهجرة ، وتفد إليها ديانات وعقائد. ولما أراد المهاجرون ممارسة عقائدهم بمقتضى حقوق الإنسان ضاقت أوروبا ذرعاً وأخلاق الأوربيين تضيق. وصدق القائل: “نجيكم تكوركو”.

سيكون من خفة الرأي أن نقف عند حالات سقوط أوروبا في فقه الآخر فرادي ونرد كل حالة على حدة إلى السفهاء اليمينيين منهم. والحق أن أوروبا الليبرالية تبينت في حادث قطم المآذن في سويسرا ، وقاومت الأشقياء الداعين إلى الفتنة مقاومة مرموقة. ومع اعترافي بفضل هؤلاء الفضلاء إلا أن الغلبة كانت دائماً للأشقياء. وفي هذا دليل بأن حقوق الإنسان مواثيق فٌصِّلت بواسطة أوروبا للآخرين “قميص عامر”. أما الأوربيون أنفسهم فلم تبلغ منهم الروح أو شغافها بعد.

ليست مآذن سويسرا معزولة عن خروق أوروبا الأخرى لحقوق الإنسان في ممارسة شعائره بغير مَن أو أذى. سنتجاوز حملة فرنسا الصليبية ضد الحجاب إلى واقعة ألمانية عن مسجد لله في مدينة كولون جرت في عام 2007 ، شوشرت المدينة فيها حول بنائه وتطفلت على معماره. وسبق لي الكتابة عن الواقعة في هذه الصحيفة.وأعيدها هنا كخلفية لفهم أفضل لقاطمي مآذن الله في سويسرا وتنبيهاً للغافلين منا الذين عكفوا على لوح حقوق الإنسان يعدونه المعيار للإنسانية الأوروبية التي تراخينا عنها. وجردهم تقديسهم لتلك الإنسانية المزعومة من ملكة نقد أوروبا. فمجافاتها لحقوق الإنسان عندهم زلات، ولكل جواد كبوة. أما متى ما وقع الخرق في بلادنا فتجدهم تلاوموا في جلد ثقافي للذات مشين.

ومحنة مسجد كولون ليست عن مئذنة طال عنقها كما تذرع السويسريون ، بل هي إسلاموفوبيا – قبل كده – من الدين الذي اقتحم صحن الدار. تقدم المسلمون (وأغلبهم من الأتراك) في مدينة كولون بألمانيا في عام 2007 بطلب التصديق لهم بإقامة مسجد جامع يعد من أكبر مساجد ألمانيا ، بحي عمالي مقابل الكنيسة الكاتدرائية القوطية التاريخية الكبرى في المدينة. وانزعج اليمينيون الألمان واحتجوا على بناء المسجد وساندهم رفاقهم في بلجيكا والنمسا. بل وقف معهم طرف من اليهود بقيادة مستر قيردانو (84 عاماً) الكاتب الناجي من المحرقة اليهودية. فقال في الاحتجاج عليه : إن المسجد تعبير لا ريبة فيه عن الأسلمة الزاحفة إلى عقر بلادنا. وكانت طوائف من الألمان قد احتجت على مساجد لله بنيت في مدن أخرى بألمانيا ، ولكن بناء مسجد بمدينة وصفها البابا الحالي بأنها “روما الشمال” أمر مختلف استثار الخواطر وهيجها. وانفتح من كل ذلك النقاش المعروف عن كيف ومتى  يأذن بلد علماني لأقليته المسلمة بالتعبير عن خصائصها الدينية.

ما أزعج الكثيرين في المسجد، (الذي سيكلف بناؤه 20 مليون دولار يتبرع بها مسلمو كولون البالغ عددهم 120 ألف) هو حجمه واستطالته. فللمسلمين نحو ثلاثين مسجدا بالمدينة الآن. ولكنها محشورة في جنبات الحارات لا تسمعها ولا تراها ، مما أعطى الإنطباع بأن المسلمين إنما يختلسون عبادة ربهم اختلاساً. ولكن المسجد الجديد، بنفرته المعمارية، سيضع المسلمين على خارطة العبادة وأشواق الروح في ألمانيا. فستكون له قبة وسينهض على حيطان زجاجية. ولم يحل طموح المسلمين لبناء هذه المأثرة الروحية دون الحرص على ألا يستفز معمار المسجد وحجمه الزائد عقائد مؤثلة في ألمانيا. فهو لن يبنى بقرب كنيسة أو يتعالى على الحي الذي هو فيه. ولن يرفع فيه المسلمون الآذان عبر مكبر الصوت. وسيحيط به مبني تجاري متعدد الطوابق وبرج تلفزيوني يناطح السحاب ليقزم المئذنتين الرساليتين. وستتقاصر المئذنة عن طول برج الكنيسة الكاتدرائية بمقدار الثلثين منعاً للاستفزاز.

وتتجمع سحب معارضة قيام المسجد من كل فج متشدد. فالحزب اليميني “من أجل كولون” جمع توقيعات أكثرها فاسد عرضها على مجلس المدينة لوقف مشروع المسجد. وقالوا أن قيام المسجد هو خطوة واسعة في طريق قيام مجتمع (مسلم) مواز يشجع على اضطهاد المرأة. ونظم الحزب مظاهرة احتج بها على المسجد ، غير أن نائب عمدة المدينة الاشتراكي الديمقراطي اختار أن يكون بين حشد المسلمين المحتج على المحتجين.

 وماثل قيردانو، الكاتب اليهودي، هؤلاء المتعصبين في عقيدتهم برغم أنه يستحقرهم كفضلات نازية. فقد قال إن المسجد سيفرض علينا أن نرى نساء المسلمين محجبات من أعلى إلى أسفل مثل طيور البنجوين. وعاتبه زميل يهودي على إسرافه في القول وهو من شعب ذاق مر الإضطهاد الديني والعرقي. ولكنه اعتذر له بعلو كعبه بين الألمان الذي يبيح له أن يقول بأن المسجد، بخلاف المعبد اليهودي والكنيسة، هو تعبير سياسي محض. ونبه الرجل المجامل إلى أن سماحة ألمانيا أفرخت بعض أخطر إنتحاريّ الحادي عشر من سبتمبر.  وهذا ما دفع إماما مسلما ليقول : ” لقد انبهمت الخطوط بين الحوار الصريح حول هذه المسألة وبين الديماغوجية العرقية ، فهذا أشبه عندي بالعودة إلى القرون الوسطى ، انطلقت به المشاعر القديمة من عقالها فحملت الصليبيين الجدد إلى الخنادق تربصاً بالمسلمين”.

هل لاحظت أيها القارئ الصلة التي يقيمها رافضة المسجد بين موقفهم واضطهاد الإسلام للمرأة؟ ففي سويسرا أيضاً كان بين عتاة قاطمي المآذن الناشطات الجندريات الجذريات أو الأشاوس. وهذا باب للنظر.

د.عبدالله علي ابراهيم

مفكر ومؤرخ وكاتب وأكاديمي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى