القوّات المشمشيّة*
حقَّاً، ما الذي تَوَقَّعته القوّات المسلَّحة؟ هي في الحقيقة ليست المؤسسة الوحيدة من مؤسسات العالم الماضي المنهارة التي لن تتعلَّم الدرس، وأن العالم الذي كانوا يعيشوه بسلطاتهم الأخطبوطيَّة كلها، الاجتماعية والسياسية والعسكريّة والثقافيَّة، قد زال في الحقّ، ولكنّ أجساده، بيونيفورماتها ودبابيرها وأشرطتها وألقابها العلميَّة وامتيازاتها العرقيّة ومناصبها الإداريّة الهرميّة إلخ، لا تزال عالقةً في الفراغ. لا جذر يربطها مع الأرض، ستظلّ تتناقض وتتناقض إلى أن تتفتَّت أجسادها التي لا تملك من القوّة سوى العنف، العنف في شتَّى سبله وصولاً إلى درجاته الأشدّ بروزاً في اللوحة: القتل والاغتصاب.
تعمل آليّة تفتيت المؤسسات من الداخل، أي أن بذور فنائها زُرعت داخلها بيدٍ لا تزال غامضة الإيقاع والإشارة، لكنها واضحة المصدر؛ إذ تتبدَّى في الشبكة الطبيعيّة الأصليّة التي تربط كل شيءٍ وكائنٍ في هذا الكوكب، وتتجلَّى لدى الإنسان في الحب أحياناً، بل ربما كان الحب أرقّ ملامح الشبكة وأشدّها التباساً.
الآن يبدو نموذج القوات المسلّحة بخطابها التهديدي الأخير، رغم تشديدها على اتباع السبل القانونيّة، مؤشراً فادحاً وخارقاً لانهيار المؤسسات في القرن الواحد وعشرين، مؤسسات الحداثة الرأسماليّة الاستعماريّة الحدودية.
في عالمٍ لم تَعد فيه حدودٌ على أرض الواقع، لا تزال الدول تصرف ميازنيّاتها لحمايتها من “أعداءٍ” يهددون سكّان الرقعة بأخطار أشدّ بؤساً وقهراً من الفقر والجوع والمسغبة.
تبدَّت سلطة القوّة العسكريَّة جليَّةً مُتغطرسةً متهكمةً –من خلال الفيديوهات- خلال مجزرة فض اعتصام القيادة العامّة؛ حيث كان الجنود يهللون ويسخرون من أشلاء الثوّار أمام بوّابات القيادة العامّة للجيش. ورغم تغاضي أغلبيّة الشعب عن المجلس العسكري في السلطة بعد هزيمته الساحقة في الثلاثين من يونيو، إلا أن الجيش “لم يُطق صبراً” من ما أسماه “الإهانات المستمرّة على مواقع التواصل الاجتماعي”، من قبل من أسميناهم مؤخراً بـ”القُوَّات المشمشيَّة”*، وبما أنهم ليسوا بمعتصمين أمام بوّاباته، ولا في أيّ مكانٍ في الأرض حتّى ترضخ أسلحتهم الفتّاكة “الكلمة، الصورة، الفن” لأسلحتهم الهزيلة “الذخيرة والسلاح”، فإن المعركة، من سَلَفٍ، خاسرة. قَلبت القوّات المشمشيَّة الطاولة على الجميع كما هو متوقّع، وتبنَّى المئات هاشتاق ( #عشان_الجيش_مايزعل )، وطبعاً تفجّر الفن، وأنتج وضوحُ العريِ الفاضح لهياكل المؤسسات المنخورة حتّى النخاع، سيلاً هادراً من السخرية المباشرة والذكيّة، تماماً كما تفجّرت ذات الأسلحة منذ بدايات مواكب ثورة ديسمبر العُظمى.
لم تتعلّم جميع المؤسسات هذا الدرس، ولكنها كذلك لن تستلم. لماذا؟ لأنها، باستسلامها ستنتقل إلى المستقبل، وهي لا تملك الروح التي من الممكن أن تتحمل بها الاختلاف الحاد للمستقبل عن عوالم الماضي ومؤسساته السياسيّة والأخلاقية والاجتماعيّة والثقافيّة، غير المتسقة من تفاهة وحقارة العالم الذي خلقته، بل تدعي أنها تعيشُ فيه وتقاوم الفناء لأجل إصلاحه! وبينما أَهِي النتيجة واضحة زي الشمس، لكنها تُنازعه في خريف عمرها وكأن العالم ابنها (مِلِك): بوضع اليَد!.
لن يستسلم العالم الماضي، وإن عدم استسلامه هذا بالذات هو الأمل الوحيد للمستقبل وأجياله. نراقب الآن “الطوّة المقدّسة” تطهو المصائر بحرفةٍ على نيران الإصرار والوقاحة والرفس الأخير الذي يُميّز المحتضر، وكلما أنكر نُزعت عنه القشور ورأى الناس الهيكل.
ــــــــ
* “القوات المشمشيّة” اختراع بيني ومحمد بابكر. الكثير من الأصدقاء يعلّقون بأنني (بقيت مسكين ساكت) وبعضهم يقول والله هديت وعِقِلت)، بينما لم يُصب الفريقان. كلّ ما في الأمر أنني أصبحت بلا فائدة في هذا المضمار. تتضاءَلت قدراتي أمام جرّافات القوّات المشمشيّة لكل ما هو زائف، بجذريّاتها الثوريّة الذكيّة وثقافتها العالية. في الحقيقة أجد متعةً في الجلوس على مقاعد الفرجة، بل إن عمري –بمقاييس العالم الجديد- هو عمر البحث والقراءة والتمتّع بمراقبة لوحات المستقبل وهي ترسم بملايين الألوان ومختلف الأقلام. كلّما ظهر زائفٌ على السطح أجد نفسي مطمئناً لألاعيب الطوّة المقدسة التي أصبحت تقدّم اللحوم المجانية لبرابيكيوهات الأسافير اليوميّة، صحيح أن بعض القصص مؤثرة، ولكن في النهاية تجدُ أن (الزول بيستاهل).
الجملة أصبحت كالآتي: ديل؟ ديل بس خليهم للقوات المشمشيّة.