شجرة الحوصلة
وصلنا إلى البيت المنشود بعد حلول الظلام بقليل. أبهرتني فخامة البنيان، فلم أكن أتوقع في كل الأحوال أن الرجل الذي يقصده صديقي عمر للاستعانة بقدراته فائقة التأثير يسكن في قصر بهذا البهاء. عند البوابة الخارجية استقبلنا رجل بِسِمات كهنوتية؛ رأس أصلع ولحية كثة مستديرة وعينان ناعستان، مرتدياً بدلة سوداء كاملة مع قميص أبيض ورباط عنق أسود. عَبرَ بنا مسافة قصيرة خلال حديقة مزهرة إلى أن أوصلنا إلى بوابة أخرى داخلية وجدنا أمامها رجلاً آخر بِسِمات بوذية يرتدي جلباباً واسعاً أصفر اللون وبيده مسبحة طويلة. استَلَمَنا الأخير وقادنا إلى الداخل. قطعنا مسافة قصيرة داخل بهو أسطواني عملاق مزدان باللوحات والتحف الفنية ثم فجأة وجدنا أنفسنا أمام رجل يتربع على كرسي فخيم وأمامه يفترش الأرض مجموعة من الرجال والنساء.
جلسنا قرابة النصف ساعة صامتين والرجل يحدق في الأشخاص الجاثين أمامه وعلى وجهه تعابير جامدة، خمّنت أنها واحدة من طرائقه للتأثير على زبائنه قبل البدء الفعلي في العمل. المهم، أخيراً دخل الرجل الكهنوتي الأصلع ومعه الرجل الآخر بوذي السمات، اقتربا من الشيخ وتبادلا معه كلاما قليلا ثم وقف الأصلع عن يمينه بينما وقف الآخر عن يساره. تحدثت امرأة أولا وقدمت شكوى باكية عن زوجها ونساء أخريات شريرات يردن خطفه منها، طمأنها الشيخ بهمهات قصيرة وطلب منها ترك اسمها واسم زوجها قبل انصرافها. تكلم بعدها شاب طفولي الوجه شكا من تعطله عن العمل لسنوات طويلة منذ تخرجه، وعن يأسه ورغبته في الانتحار. قدم له الرجل وعظا مختصرا عن إثم الانتحار ووعده بحل مشكلته خلال أسبوع، وطلب منه أن يبقى حتى انتهاء المجلس. تحدثت بعده امرأة مسنة وشكت من حال ابنها المريض ورغبتها في رؤيته معافى قبل وفاتها؛ بكت بحرقة، فوعدها الرجل خيرا وطمأنها أن ابنها الآن الآن يتماثل للشفاء وحين تعود إلى المنزل ستجده طيبا تماما.
بعد حين من الزمن، وبعد أن بدأت أشعر بالملل وأتشاغل بِعَد ثريات السقف الكثيرة المتدلية فوق رؤوسنا؛ حان دور صديقي عمر، فنهض واقفا وقال بصوت قوي: يا شيخنا فريد الدين. لكن قبل أن يكمل جملته صوَّبه الرجل الكهنوتي الأصلع: قل يا أستاذ فريد الدين.. الأستاذ لم يبلغ المشيخة بعد. التفت عمر نحوي منزعجا، فتبسمت شامتا، بلع شماتتي وقدم شكواه، وكيف أنه “مقصود في الشغل” ولا يستقر به المقام في بلد، وكل سنة ينقل إلى أقاصي الدنيا، وحين يعود إلى العاصمة لا يمكث شهرا حتى يعاد مرة أخرى إلى المناطق الملتهبة، تكلم بمرارة حتى خفت أن ينفجر باكيا. طمأنه الشيخ أو الأستاذ بكلمتين فقط: قضي الأمر. قالهما وحول بصره نحوي متسائلا: وأنت؟ أحسست بقشعريرة حين التقت نظراتنا. لكني قلت في ثبات: أنا مرافق فقط. وأشرت إلى عمر. لكنه سألني مرة أخرى: لابد أن شيئا ما يجول بخاطرك وتود معرفته، اسأل ما بدا لك.
أحسست في كلماته نبرة تحدٍ واستهزاء، وبما أنه لم يكن لدي أي شيء شخصي لأطلبه منه فقررت أن ألعب معه لعبة مختلفة. قلت له: أنا شخصيا لا أطلب شيئا، فحياتي تمضي بالشكل الذي أريده ولا يتحكم فيها لا زوجة ولا رب عمل، لا أب أو أسرة.. أنا حر، لكني لو تسمح أحب أن أسألك عن شأن عام. عدل من جلسته لأول مرة وأشار نحوي بيده بما فهمت أنه يعني تفضل. قلت: أتساءل إن كان العالم سينتهي قريبا، يعني هناك حروب طاحنة في مشارق الأرض ومغاربها، وهناك تهديد دولي مستمر باستخدام الأسلحة النووية فهل تتوقع أن ينتهي العالم أو يتبدد قريبا؟ أجابني الأستاذ أو الشيخ بقوله: لا أتوقع، بل الأمر محتم. العالم سيتبدد في غضون ثلاثة أعوام من الآن، لن تنهيه الحروب المشتعلة هنا أو هناك ولن تدمره الأسلحة النووية، بيد أنه إلى زوال بفعل أوان اكتمال نمو شجرة الحوصلة. أشفقت على نفسي وأحسست بالازدراء تجاه المدعو الأستاذ، بيد أنه قبل أن أترجم إحساسي هذا إلى كلام قال لي: تزدري هذا الكلام بالطبع، وتحس بسخف أقوالي، هذا ما أراه يتشكل بداخلك.. لكني سأريك الآن كيف سيموت العالم. استقام فجأة وتقدم خطوتين من كرسيه الفخيم، بدا لي شابا وسيما أنيقا ممشوق القوام في بدلته الزرقاء الكاملة وحذائه الأسود اللامع. دفع يديه في الهواء ثم حركهما فتشكلت أمامه شاشة إلكترونية ممتلئة بالعلامات الزرقاء والخضراء. جاس بأصابع يديه الاثنتين في تشكيلات الشاشة الهلامية المتكونة أمامه فظهرت خريطة كونية للكرة الأرضية وبقية الكواكب التي تحوم معها وحولها في الفضاء، حرك أصابعه مرة أخرى فانحسرت الكواكب وتمددت الكرة الأرضية حتى أخذت شكلها الخرائطي المعروف، أشار بأصبعه إلى نقطة وسط أحد المحيطات وقال: هذه جزيرة عين الشيطان، لم تسمعوا بها من قبل لكنها موجودة. حرك يديه مرة أخرى فتقلصت الخريطة وقفزت الجزيرة إلى الأمام حتى ملأت الشاشة الإلكترونية. بدت الجزيرة جرداء ليس فيها شيء سوى الصخور الملساء وموج المحيط يضرب هادرا على شواطئها. حرك الأستاذ – الشيخ يديه فبدا وكأن المشهد يغوص في باطن أرض الجزيرة. قال: ركزوا على هذا الشكل. تكون أمامنا شكل أسطواني أقرب إلى جذع الشجرة، تعلوه أوراق شجرية عريضة صفراء اللون. قال الأستاذ: هذه هي شجرة الحوصلة، إنها في آخر مراحل نموها، وما سيحدث بعد ثلاثة أعوام سأريكم له الآن. حرك يديه فأظلمت شاشته الإلكترونية لثوانٍ ثم شعت من جديد وظهرت مجموعة من الصور الموزعة في مربعات صغيرة تظهر جزيرة الشيطان في كل واحدة منها. قال الأستاذ: تابعوا هذه الصور، فهي تبين مراحل نمو وصعود شجرة الحوصلة. في الصورة الأولى بدأت الشجرة بالنهوض والاقتراب من قشرة الأرض من باطنها. في الصورة التي تليها بدت الأوراق الصفراء وكأنها تغطي أرض الجزيرة بأكملها. في الصورة الثالثة بدا وكأن أرض الجزيرة تتفت في الفضاء متطايرة. في الصورة الأخيرة ملأت الشاشة شجرة عملاقة صفراء الأوراق كأنها تنمو شامخة في المحيط الهادر بينما اختفت الجزيرة تماما. قال الأستاذ: هذه هي الحوصلة وقد نمت كشجيرة واستقبلت شعاع الشمس بأوراقها الجائعة.. شاهدوا ما يلي. أزاح الصور بيده وأبدلها بصورة أخرى زرقاء يتضح من ترقرقها المائي أنها تعكس قاع المحيط. أشار بيده إلى ما يشبه الكيبلات العملاقة وقال: هذه جذور الحويصلة بدأت في التمدد، انظروا. حرك يديه فتتالت الصور. الجذور العملاقة تضرب في جميع الاتجاهات، تملأ مساحة المحيط فتتدفق المياه نحو الأراضي اليابسة في كل أنحاء العالم. تخرج الجذور من المحيط إلى الأرض فتبدأ بالتشقق والانقسام. تظهر فجأة قارة أستراليا وهي تتحول إلى جزيئات متكسرة ومتطايرة، ثم تليها بقية القارات قارة قارة، الأرض بأكملها تخترقها الجذور العملاقة وتفتتها وتحولها إلى جزيئات متكسرة عائمة في الفضاء. أخيرا حرك الأستاذ يده فظهرت شجرة الحوصلة من جديد وهي منتصبة وحيدة في الفضاء وجذورها تسافر في اللامكان. قال: بعد ثلاث سنوات من الآن سينتهي العالم، ستلتهمه الحوصلة ويتبدد إلى الأبد. قلت لنفسي: كذاب ومنافق.
قال الأستاذ: كذاب ومنافق من ظن أن الفناء ألعوبة.
ههههه.. وأنا أتابع القراءة المجتزأة على فيسبوك؛ طُلِب مني اتباع الرابط للمزيد.. قلت في نفسي: لو دخل منصور جحر ضب لتبعته ولم أندم.
كتابة ماتعة وأفكار خلاقة ومتناسقة.. هي من جنس الخيال العلمي بالضرورة.. وقد وظف الصريم إلمامه وإحاطته بالتكنولوجيا كشيء حتمي وحيوي وبديهي؛ كأجمل ما يكون..
منكم نتعلم