غوايات

قافلـــةٌ آيبةٌ في معيةِ بَصيرة

لم أَصنع لإخوتي بئراً أو حُلماً، لفافةُ دمٍ وحيدةٍ سحبتها ممرضةٌ بفوضى لم تُرتِّب رِقتها متاعَ الأصابعِ لأُشبِه بصمةَ قلبٍ ما، ظللتني سحابةٌ وحيدةٌ كانت تُغني بأنفاسِ الظهيرة لابنتها الثلجية وتستفزُ غضبها، كان لي قدمٌ تقفُ في الذكرى الباردةِ وهي تُخْمِد حريقَ نفاياتٍ، ظنِّي يترجلُ لكنَ المغاربَ تبتعدُ بفعلِ الطيورِ القانية، المناديلُ التي أهلكها الدمعُ لم نصنعّ منها وقوداً لكنها تصلحُ للبللِ مرةً ثانية، صديقتي لاتعلمُ أن البنادقَ لازالت تغني، المُغنِّي حِبالهُ تقطَّعت حينَ ركضتْ خِلسةً خيولُ حَنْجَرِته في عِز الجمُّر، كل مافي الأمر أن رجلاً كان يسعلُ صامتاً فاهتزتْ نافذةُ عمرهِ الوحيدة بلحنٍ رخوٍ يَصلُحُ أن يكون صباحاً لمدينةٍ تَسقُط عَواميدُ ذاكرتها كسفاً محترقةً، كانت هناك محاولةٌ أن يطفئها إيقاعٌ يسيلُ على باقة ماءٍ في السوقُ فاغترتْ به أواني الألمونيوم ورقصتْ،في قدحي ينفخُ أصدقاءٌ واجمون(كجمورو) بحساءِ عيونهم، مردةٌ قديمون لم يغادروا جرةَ طينهم فتهشمتْ بالمصابيح، ماذا لو تساقطتْ من كفي خبزةٌ لم تنمو على أرضِ شحاذٍ لايحفظُ مدحةً واحدة؟ ثمة رملٌ يتساقطُ من خدِ حجرٍ ينهضُ للركضِ بوادي شجرٍ يسير، الجنةُ تنمو في الخراباتِ المذعورةِ التي استيقظتْ ظهيرتها، الثمرُ باقٍ في الأرضِ حتى تَخْصِفه المطر، في الجسدِ وحدةٌ تكفي شارعاً هشاً يُضيء أنوارَ حديثِ نميمتهِ بالتتابع، الأبوابُ صاخبةٌ بِنداءاتها وتسعى سعياً مشكوراً للظل، تَجُرُ جنازيرَ الكلامِ المُصفَّدِ في الحوائطِ وتَصرُخ، الشمسُ تَضعُ عَتمةَ الليلِ في حقائبٍ مفتوحةٍ، البريدُ المرسلُ يخلعُ حِدادَ الأقلامِ ويُخْضِع الموتَ في تابوتِ طابعٍ تَنِزُ منه التواقيعُ الحمراءُ المُحذّقة، جفني يخشى القش ولو كان وردةَ إيفوربيا، يتساقطُ الروثُ الحجري على صدري فيطيرُ الريشُ لرؤوسٍ كثيرةٍ تتحسسها، أسطو على غابةٍ متحجرةٍ لا تَكْشِطُ كُعوبها، الماءُ آسنٌ والعرقُ يُغوي طرفَ الوحلِ بالأقدام، ثمةَ طرقٌ محجلةٌ تصنعُ ساحةَ شطرنجٍ لخيولها، لعلها لاتقفزُ في لاَّم الحِوار، أفكِّرُ أن اهتزازَ الأرضِ لايعني أن القبورَ سائمةٌ لوقتِ خليقتها، كأنها تُصفيِّ وجهَ المللِ من الرملِ والحصى، ماذا لو أشعلتُ سيجارةَ نزقي من بركانٍ نفدَ وقوده؟ ستقبعُ النارُ في مسافةِ هواءِ التبغ، حتى تأتي على حشيةِ الإسفنج فتستريح، كلما صادقتُ الوسائد انحنتْ كحوجةِ عجوزٍ لطقطقةِ مبخر، جرَّبتُ أن أصنعَ دخاناً من دميةِ طفلةٍ ترقص، بدلاً عن ذلك وضعتُ ساقاً على ساقٍ وانتظرتها أن تغفو، لم تَنْفُض يديها حين سقطت فكةُ الحيرةِ من صدرها، جربتُ أن أصنعَ لها جدلةً من الطينِ لكنِّي غرقتُ في ضفة خِصرها فتمسكتُ برباطِ قميصها الصليبي، مددتُ ثوبَ العناقِ ولم تَجْثُ على ركبتي بلاطةٌ فاستقامَ ضِلعُها الأعوجُ وركلتني بِنهديها، في الظهيرةِ اللزجةِ سحبتُ يدي ورسمتُ لصفصافِ صدري خطاً، سبحتْ مراكبها طويلاً على قفاي، ناديتُ على نقطةٍ بعيدةٍ في وجهها فرمتني بمنجنيقِ مُقلتيها، لونُ قهوتها الرمادي يُلحِد الشمسَ فيأتي شُعاعُها مخادعاً للصبية، أنا خطافُ الهواءِ ومرسى النهرِ الذي ينمو على خيطِ عنكبوتٍ هجرتْ طرائدها، لوَّعتهُ أحذيةُ الماءِ الغائصةِ في رصيفِ الطينِ والآعيبِ الناموس، ثمةَ حبةُ قمحٍ تنمو في رغبةٍ خميرةٍ لكن سنابلها حِرابٌ مخفيِّةٌ لجوفِ الطواجن، تتيِّهُ بزخرفةٍ مائجٍ جيشها ليعصي أكوامَ سحابٍ يرتجز، كلما صادفتُ شجرةً أشاحت جذورها وأحصّتْ أوراقها فأتبيّنُ كراهيتها لآخرِ ورقةٍ، أخفتْ نسبها مع الشمسِ ثُم أطلقتْ سراحَ أطفالها للخريف، لا أستطيعُ أن أحُكَ ظهري المعتّْل بالشوكِ لكن الأسئلةَ تنغرزُ ولم أُطعم ابتسامتي إكسير الرضا في نافلةِ شوقٍ يُسبِّح بالمغيبِ فيُدرِك خفةَ ضحكتي، ربما يُدركُ مايدورُ خلف كُمِ قميصي من رذاذِ طاهي الملابس، يخدِشُ خلفَ جبهتي من نشوةٍ في عصيرِ البراطيش، تتملكني رغائبّ من أخمصِ قدمي حتى قمةَ رأسي المنعقدة تحت لواء الإنحياز للمطر، كنتُ بتمامِ عاصفةٍ لم تنوي أن تدورَ خلف صِبيةٍ يلعبون بطفولةٍ قابلةٍ للطي في سجادةِ الزمن، لها رسوماتُ جبابرةٍ والآتٌ موسيقيةٌ بطيئةُ العزفِ لا تركضُ طمأنينة جوقتها، صِرتُ أرتبكُ لو سارت بجواري نظرةٌ مسرعةٌ فأصطدم بعمىَّ قلب غيري، كنتُ أناديِّ على إخوتي وهم يدفنونَ البئرَ التي حفرها غريبٌ على الشاطئ…

لكن ماذنبها إذا لم تبتلع سِرهم الوحيد؟ وماذنبي إذا تشبثتُ طويلاً بِدلوِ القافلةِ الآتيةِ في ظهيرةِ فجيعتها؟!

منتصر منصور

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى