غوايات

شجرةُ اللَّيمون

زرعتْ أمي شتلةَ ليمونٍ، أهدتها لها جارتها. شتلةٌ صغيرةٌ قبيحةٌ تشبه آخر العمر، عندما تبدأ الحياةُ في الانطفاءِ شعلةً إثر أخرى داخلَ الأجساد. كانت أمي تهتم بها اهتمامًا بالِغًا في إصرارٍ يتَّحدى القَدَرَ ذاتَ نفسه، كأنها أرادتْ استعادةَ كاملَ الرَّوحِ إلى النبتةِ دون نقصان. تسقيها يومًا بعد يوم، تُحادثها كل يوم، تقصُ عليها قصصًا ونكاتًا ثم تضحكُ وتقهقهُ رافعةً رأسها إلى أعلى؛ فقد كان الضحكُ يتصاعدُ ويتصاعد، في حين تظلُ النبتةُ صامتةً كجبلٍ كئيب. بعدها، تلمسُ أوراقها حائلةَ اللونِ ورقةً ورقة، بحنانٍ وحبٍ أجزمُ أنه كان يسيلُ من أناملها لينسربَ إلى الأوراق. وإنْ أمي خرجت لمشوارٍ فإنها توصيني بأن أسقي النبتة، لكني لم أكن أفعل.

حدث أنها سافرتْ إلى قريتنا لسببٍ ما لا أذكره، وبقيتْ هناك أكثر من شهر، خلالها لم يهتم أيٌّ منا بسقاية “الليمونة” التي كبُرت، فالتفَّت أوراقها كأنها تحتضنُ بعضها وتواسي نفسها، اصفَّر كثيرٌ منها وسقط. تشقَّقت التربة تشققاً بائنًا حتى إنك تكاد ترى ما في باطنِ الأرض. كانتِ التربةُ فاتحةً أفواهها الكثيرةَ الطوليةَ المتشابكة صارخةً بصوتٍ كتيمٍ، لم نسمعه نحن أبناءُ وبناتُ أمي، حتى لو سمعناه لما فعلنا شيئًا، لكلٍ منا حقدهُ الخاص عليها.

كنتُ غاضبةً من الشجرةِ الصغيرة، ومعظم الوقت أحملُ لها شعورًا بغيضًا، خاصةً عندما تنقزني بأشواكها المؤلمة؛ كنتُ أشعرُ كأنما تتعمَّد ذلك، ولم أنسَ مطلقًا في اليومِ الأول لها في بيتنا وبعد زراعتها بساعاتٍ قليلة، كُسِرت ذراعي اليمنى. كنتُ في التاسعة ورغم تعودي على “التشقلب” على الأرض، إلا أنه في ذلك اليوم كأن شيئًا حملني إلى أعلى فشعرتُ بنفسي عديمةَ الوزنِ كفقاعةٍ تسبحُ ببطءٍ ويأسٍ في الهواء، رفعني الشيءُ إلى أعلى أكثر، ثم رماني على الأرضِ بسرعةِ رصاصةٍ شريرةٍ على عجلٍ لقطفِ حياةِ أحدٍ ما. اصطدمتْ ذراعي بحجرٍ اسمنتيٍ متوسطِ الحجم كنت أجلسُ عليه عادةً عندما أرغبُ في الرسمِ على الرملِ المفروشِ في الحوش. رغم وداعةِ الحجر، إلا أن اصطدامي به هشَّم عظم ذراعي.

 زرعتْ أمي الشجرةَ في حوضٍ خاص في جانب الممرّ الصَّغير بين حائطِ الجيران وحائطِ غرفتنا الخارجية. كان الممرُ يؤدي إلى العريشة، المسقوفةِ بالزنك وهو المكانُ المفضلُ لأمي للمقيلِ فيه ومشاهدة التلفزيون. وبظني أن اختيارَ أمي لتلك البقعةِ تحديدًا من البيت هو رغبتها في أن تكون قريبةً من الشجرة وهي تُنْبتْ كل يوم أوراقها وتتطاول فروعها، كأن أمي أرادت رؤيةَ عملية النّمو في حدِّ ذاتها، وهي الشيء الذي لا يراه كائنٌ غير اللهِ في مراقبته الحثيثة لكل الكائنات.

هذه الصِّلة والقُرب من أمي هو ما كان يزعجني في الشجرة أكثر من غرزها لأشواكها في أذرعي حتى أصبحتْ كالمصفاةِ من كثرةِ الثقوب، بتلك القشرة البُنيَّة التي تتكوَّن على الفتحةِ الصغيرةِ في الجلد تأكيدًا على مرورِ الشوك على جلدي مما يزيدُ من حنقي.

تذمرتُ يومًا وأنا أمسحُ على جلدي: “هذه الشجرة لا فائدة منها، عمرها أكثر من أربعة سنوات ولم تطرح حبةَ ليمونٍ واحدة، لا أفهم لمَ الإصرار عليها؟! “

في اليومِ التالي، فاجأتنا جميعًا بثمرِ اللَّيمون الذي أنتجته. كنا مذهولين من الثَّمرِ الأخضرِ بائنِ الرَّواء. لكن أمي قالت ما معناه: “إن هذا شيء في نطاقِ العادي؛ شجرُ الليمون يخبئُ ثمرهُ بين أوراقه الكثيفة، عليك أن تجتهد لتراه، وأن تجتهد أكثر وتغامر كي تقطفه”.

أحيانًا في أوقاتِ مللي كنتُ أخدشُ جذعها بقضيبٍ حديدي، أكتبُ عليه حروفًا وأرقامًا وذات يومٍ رسمتُ عليه قلبًا يخترقهُ سهم، وهو اليوم الذي تفتق فيه حبي لابن الجيران الذين سكنوا في بيت جارتنا صديقة أمي التي أهدتها النبتة. كان حبًا كالشهاب، التَّمعَ سريعاً وخبا دون أثر. في كل مرَّة كانتِ الشجرةُ تنتقمُ مني. فبدلًا عن الجرحِ الرأسي، بغرزها شوكةً في جلدي، أصبحتْ تُحدث خدشًا طويلًا على ذراعي، وذات يومٍ لم أستطع تخليصَ ذراعي من شوكةٍ كبيرةٍ معقوفةٍ انغرزت فيه، مما اضطرني للصَّراخِ والعويلِ والسَّب. كنتُ أقسمُ أنها ربَّت هذه الشوكة تحديدًا حتى تنغرزَ في لحمي.

صارت علاقتي بها علاقةَ عداءٍ خفي أمام أمي بالذات، لكنه عداءٌ صريحٌ في غيابها. كنتُ أشعرُ بها تسخرُ مني وتمدّ لي لسانها، كان دومًا شعورًا بعيدًا، خالطه كثيرٌ من الخيال.

عندما أتى صديقُ أبي ليشذِّبَ فروعها فرحتُ لمقدارِ الألمِ الذي يسببهُ لها ذلك، وكنت أنتظرُ أن أسمعَ صراخها، وهو ما ضنَّت به عليّ. لكني فرحتُ لأنها لن تطالني بفروعها.

وكمن يسابقُ الزمن، في أقل من شهرٍ انتشرت الشجرةُ مجددًا على أوسعِ مما كانت عليه، شككتُ أنها تخطط لاحتلال كاملِ البيت. وعندما كبرتْ جدًا قررت أمي هدم الغرفة الخارجية. وكان هذا من القراراتِ القليلة التي عارضها أبي، لكنه أذعنَ في النِّهاية عندما خاصمتْه أمي فترةً طويلة، فقرر أن يهدمَ الغرفةَ لإرضائها وليس من أجلِ الشجرة، كما برَّر لي يومها حتى لا أفهمهُ خطأ، وليؤكد لي أنه يقف في صفَّي ضد الشجرةِ اللَّعينة.

كان لدي حدسٌ يطلُّ برأسه للحظاتٍ ثم يتوارى كفأرٍ جبان: أن هذه الشجرة هي أكثر من مجردِ شجرةِ ليمون.  هي حشدٌ، من أرواحٍ، أشياءٍ، وأشخاص. أحيانًا عندما كنتُ أنامُ في الحوش، كنت أحلمُ بها تتحرك، تفتحُ البابَ وتتمشى حتى نهايةِ الشارع. كنتُ في حلمي أرى ظلَّها المنعكس بضوءِ القمر وهو يتمدَّدُ عليَّ كأنها تقفُ في طرفِ السريرِ وتتأملني، أو تنثرُ لعنتها عليَّ. فأستيقظُ بشعورٍ ثقيلٍ يسيطرُ على قلبي طيلة ذلك اليوم. وبتكرارِ نفسِ الحلم الذي لم أعد قادرة على الجزمِ إن كان حلمًا فعلًا؛ رأيتُها وأنا دائخةٌ في تلك المنطقة البرزخية بين النومِ واليقظة، رأيتُها فعليًا تتجوَّلُ في الحوش، أيقظتُ أمي وأنا أصرخُ مرعوبةً، لكنها عادت إلى مكانها في الزمنِ الرفيعِ جدًا بين صراخي وفتحِ أمي عينيها. نهرتني أمي عندما رأت أن الشجرةَ ثابتةٌ في مكانها كما ينبغي لها أن تكون: “عليك السيطرة على جنوح خيالك. تغطي وعودي إلى النوم”. منذ تلك الليلة قرَّرتُ أن لا أنام في الحوش حتى لو سيَّحتني شدِّةُ الحرارةِ في غرفتي الصغيرة ذات المروحةِ المتهالكة.

أمي بكتْ بعد عودتها من القرية وانهارت عندما رأتِ العطشَ الذي استولى على الشجرة، والذي كان يمتصّ روحها ببطءٍ وتلذُّذ. وقفتُ مندهشةً وأنا أرى ردةَ فعلِ أمي المبالغ فيها. لكن ما أصابني بالحمَّى لمدة ثلاثة أيامٍ بلياليها هو رؤيتي للشجرة وهي تنحني على أمي الجالسةُ تحتها لتحتضنها، ثم، تعود منتصبةً مرةً أخرى بعد أن أطلقتْ ضحكةً خافتةً مواسيةً ولم تنسَ أن تغمز لي.

8 يوليو 2020

رانيا مأمون

قاصة وروائية من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى