شهادات

مع الدكتور خالد الأمين

في محاولة استنطاق الطبيب والمثقف خالد الأمين، حول الوضع بالسودان في ظل الثورة، ومعركة العالم مع جائحة الكورونا.

حوار : فاتن علي

– نظرة الطبيب تختلف كلياً عن الآخرين، كيف تصف واقع حياة مجتاحة من قِبل فيروسٍ مهلك، يحاربه العالم ولا ينتصر؟

‏‎يتناسب مستوى الغرابة طردياً مع الرعبِ الناتج من كارثةٍ كهذه التي صاحبت تَسيُّد فيروس كورونا المشهد العالمي، فمنذ استتباب السلطة المعرفية للمؤسسات الطبية بفضل التطور التقني في الطب، خواتيم القرن العشرين، حتى صار ما يعجز عنه الأطباء بمثابة الكارثة لازمة التحقّق. لمستُ وقع الجائحة على حياة الناس، خصوصاً في الجانب النفسي لها، بخلاف الجوانب الأخرى، الصدمة النفسية التي وصلت لمستوى الرعب المرضي، أو ما اصطلحنا عليهCOVID19 ” induced panic and anxiety” ليست خافية علينا في المستشفيات أو في المجتمع، ولدينا إحصائيات جيدة لعدد الحالات التي تستوجب رعاية نفسية.

الضغط علينا في المؤسسات الصحية لم يكن بالقليل قبل بداية الجائحة، فالأمراض المختلفة كالسرطان وأمراض القلب وغيرها تحصد الأرواح منذ زمن. هنا كان على المرضى مواجهة واقع جديد، الجانب الأول هو الدعوة لعدم معاودة مؤسسات الصحية إلا في الحالات القصوى في محاولة لحصر انتشار العدوى. ومن ناحية أخرى تخوَّف جزء كبير من المرضى من تلقي العناية الطبية خوفاً من الإصابة بكوفيد ١٩، وبالتالي واجهوا أوضاعاً قد لا تكون مثالية في غياب الرعاية الصحية.

– كثيرون مثلك بدول المهجر، والمهتمون بالشأن العام، من تلك المسافة كيف تنظر لمستقبل السودان السياسي – والاقتصادي بعد كورونا؟

‎هل سيبقى العالم كما هو بعد جائحة كوفيد ١٩؟ سؤال يشغل تقريباً كل الدوائر، من السياسة الدولية والاقتصاد العالمي حتى الألعاب الرياضية، دور السينما والسلوك الاجتماعي والفردي. ما أستطيع قوله الآن، إن الحياة لن تعود تماماً كما كانت، على الأقل في المدى القريب.

‎فيما يخصُّ المشهد في السودان، فإن الآمال العريضة في التغيير لم تُترجم كما كانت التوقعات، فشابَ التقصير قيادة الثورة السياسية، واصطدم الجهاز التنفيذي بمعوقات إضافية متمثلة في هجين العسكر والمدنيين الذي أفضت إليه المساومة مع المؤسسة العسكرية، وتمدَّدَ نشاط النظام السابق في عرقلة المشهد السياسي – الاقتصادي، إضافة لهذا وذاك جاءت جائحة كوفيد ١٩ لتزيد المشهد تعقيداً.

‎تتمثل أبعاد أزمة كوفيد ١٩ على المشهد السياسي بوضع ثقل اقتصادي إضافي على كاهل السلطة الانتقالية، خصوصاً في القطاع الإنتاجي المرتكز على الزراعة والثورة الحيوانية والتجارة، ويصعب تجاوز الازدحام في النشاط التجاري مثلاً مع عقبة توفير معدات الوقاية المطلوبة. هذا الموقف تجاوزته الدول الصناعية بإيقاف هذه القطاعات تماماً وتعويضها بدعم من الحكومات المركزية لمنع انهيارها، وهو أمر  غير ممكن في وضع السلطات الانتقالية.

‎تفاقم هذه الأزمة الاقتصادية وَضْع السلطة الانتقالية وتعطي القوى المناوئة لها الفرصة لتحريك الجماهير – اللاعب المحوري – في الاتجاه المضاد، الأمر الذي قد يجهض جهود المرحلة الانتقالية.

‎من ناحية أخرى، فإن المجتمع الدولي قد يؤدي دوراً مهماً في نهوض الاقتصاد السوداني، رغم التلكؤ حتى الآن بسبب عدم استقرار السلطة الانتقالية وعدم ثقة المجتمع الدولي في الوجود العسكري داخل السلطة، وقد يذهب هذا الدور نهائياً في حال اضطراب الكابينة السياسية بسبب جائحة كوفيد 19.

– مقارنةً بجميع الأوبئة التي ضربت العالم، وحتى اللحظة، بماذا ساهمت التكنولوجيا، والتقدّم الطبي في المعالجة؟ 

تتمثل مخاطر جائحة كوفيد ١٩ بالأساس في العزل الاجتماعي، تشخيص المصابين و تقصي المخالطين، في مقابل ما اصطلحت عليه منظمة الصحة العالمية WHO اعزل، افحص، عالج، Isolate, Test, Treat. هذا الأمر نقل الدور الأساسي في مجابهة الجائحة من داخل المؤسسات الصحية إلى المجتمع.

تنوعت تجارب الدول في هذا المحور، بينما اعتمدت التجربة السودانية على أرقام هواتف وعناوين الوافدين عبر المعابر الجوية – بالأساس – في الاتصال بهم وبمخالطيهم، إضافة إلى خدمة مراكز الاتصالات للتبليغ عن الاشتباه بالمرض، الأمر الذي وضع عبئاً على موارد الدولة في الوصول للمرضى والمشتبه بإصابتهم ونقلهم إلى مراكز العزل. اعتمدت دول أخرى كأيرلندا على نقل الخدمة للمجتمع عن طريق مراكز الفحص في الأحياء وعبر فرق الإسعاف وأطباء الأسرة، والاعتماد على العزل في المنازل ومتابعة أوضاعهم لمعرفة من يحتاج إلى تدخل طبي، إذ تشير الإحصائيات الدولية إلى أن 80% لا يحتاجون إلى تدخل طبي، بينما وصلت حالات الشفاء الكامل في أيرلندا بتاريخ كتابة السطور 89.5%، دول أخرى كسنغافورة اعتمدت على نشر خارطة بالمصابين توضح عناوين سكنهم “تقريباً” و”أعمالهم” حتى تسهل عملية العزل الاجتماعي، الأمر الذي قوبل باستغراب في بعض دول أوروبا الغربية التي ترى في مثل هذا الأسلوب انتهاكاً للخصوصية الشخصية للمرضى.

أدت الميديا من قنوات تلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي دوراً جيداً في توفير المعلومات اللازمة للحماية من المرض ومعرفة أعراضه الأولية، كذلك قدمت شركتا Apple وMicrosoft مقترح برنامج تعقّب للمصابين والمخالطين لهيئة الصحة الوطنية البريطانية NHS يمكنها من معرفة وضع المصابين لتوفير التدخل اللازم مبكراً قبل تدهور الحالة الصحية، وبذلك تتفادى تكلفة مراكز العزل الحكومية والاكتفاء بمتابعة المرضى من داخل منازلهم.

على المستوى السريري clinical فإن التعامل مع كوفيد ١٩ لم يتطلب أي تقنية طبية حديثة إضافة لما هو مستخدم في أمراض مشابهة، ففحص PCR الذي يعتمد على أخذ عينة من الحمض النووي DNA ومضاعفته مرات كافية لتحليله والتعرف على التركيب الجيني – تم اختراعه في العام 1984 بواسطة الكيميائي الأمريكي Kary Mullis وحصل على جائزة نوبل في الكيمياء عليه في العام 1993 – هو الفحص الأساسي المستخدم في تشخيص الإصابة بكوفيد ١٩ إضافة إلى فحوصات أخرى لمعرفة آثار ومضاعفات الإصابة على مختلف أجهزة الجسم كالأشعة المقطعية CT Scan وغيرها من التقنيات الطبية ذائعة الانتشار في العالم.

– الثورة كمنصة للوعي، وواجهة لملامح جيلٍ جديد، كيف نضمن استقامة استمرارية العمل، إذا مالت المؤسسات؟

هذا سؤال عام جداً يفترض إجابة عامة، لكني سأختار مدخلاً واحداً برغبة أن يطرح أسئلة تقود بدورها للإمساك ببقية خطوط الصيرورة الثورية.

 قامت الجماهير السودانية بالانتفاض في وجه الظلم الذي مثله النظام البائد، بهدف الحصول على العيش الكريم. من هذا المنطلق تأسست شعارات الثورة التي انطلقت من واقع الجماهير في مضارعتها تعقيدات الواقع اليومي الذي تتشابك فيه الصراعات المسلحة في أجزاء الوطن مع التكتلات الإقليمية والدولية والتي تنعكس بدورها على طاولة الغداء، بمكونات وجبة الأسرة ومخاوف أفرادها وهمومهم اليومية التي وصلت حد الانفجار.

انطلقت شعارات ثورة ديسمبر المجيدة من هذا الواقع مناديةً بـ”حرية سلام وعدالة”. هذا الشعار الذي – وفي الواقع السوداني – يمثل الطريق الأمثل للوصول للغاية الكبرى للمواطن البسيط المتمثلة في الحياة الكريمة.

ومنذ بدايات الثورة في مخاضها المبكر انفجر محمول ثوري كثيف جداً بدرجة أنه لم ينتج من شخص أو جهة أو مؤسسة بعينها، إذ هو – المحمول المعرفي للثورة – يتكشّف مباشرة في أزقة الثورة ومعتركاتها اليومية: “عندك خت، ما عندك شيل، نحن أخوانك يا بليد، انتو اشتغلوا شغلكم ونحن بنشتغل شغلنا، يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور، الثورة أنثى”، إلى آخر هذه المحمولات الكثيفة التي انفجرت بين أيدينا ونحن نُكابد أحلام الجموع وأشواقها التي لا تحدها الحياة الكريمة بل تتجاوز ما أبدعته البشرية في تاريخها الطويل كالسرديات الكبرى والمبادئ العليا كالحق والخير والجمال.

بالنظر لمفهوم الثورة الذي أراه كتغيير جذري في مفاهيم وقيم وعلاقات المجتمع على المستوى النووي، الفرد، مروراً بتشكيلاته التي ابتدعها من أسرة وحي وقبيلة وطوائف وتشكيلات مهنية ونقابية ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب وغيره، إذ ينسف التغيير الثوري كل ما سبقه ويؤسس واقعاً جديداً ينقل المجتمع ككل إلى مرحلة حضارية جديدة، هذا هو التغيير الثوري الذي يرتكز على الفرد والمجتمع معرفياً وقيمياً، وتنعكس آثاره على صندوق الاقتراع والدستور الدائم وصولاً للمشروع الوطني.

من هنا يأتي مدخلي في الإجابة على سؤالك: “كيف نضمن الاستمرار؟”، في النظر إلى جوهر التغيير الثوري، في مستويين: الأول هو مسؤولية كل فرد في عملية التغيير الثوري، والآخر يتمثل في الثورة في مستواها المجتمعي، هنا تحدث النقلة الثورية ويتحرك المجتمع ككل درجة جديدة في الدورة الحضارية، هذا التغيير هو الوحيد والأوحد الذي يفرض رؤاه وقيمه على المستوى الكلي، بدايةً بصياغة المشروع الوطني مروراً بمؤسسات المجتمع والدولة، وهو الكفيل بمنع حدوث الردة أو الانحراف عن المسار الثوري.

هناك مقاربات مختلفة حاولت كلها تلمّس هذا المستوى من التغيير الثوري كالـ micro revolution أو الثورة الذرية التي تنطلق من مبادرة يقوم بها أحدهم وتتمدد لتجميع توافق أكبر يسود في المجتمع كأحد أدبيات الثورة إلى أن تصبح تراثاً إنسانياً، مُسلّماً به كجزء من عادات وتقاليد المجتمع إلى أن تأتي دورة حضارية جديدة ويقوم الشعب نفسه بالثورة عليها.

قدم هذا الأنموذج قفزات كبيرة للمجتمع الإنساني خلال التاريخ، كمثال في الحالة الأثينية الانتقال من حكم الأسرة إلى حكم الفرد المتسلط، حيث يحكم هذا الديكتاتور ليس بفضل ما تملكه أسرته من مكانة اجتماعية واقتصادية وإنما بفضل قدراته الذاتية وحكمته الفردية، ثم ما لبثت أن ثارت على هذا الأنموذج وأنتجت حكم الشعب بشكله البرلماني التمثيلي الذي ترتكز عليه أغلب برلمانات الدولة الأوروبية الحديثة.

المقاربة الأخرى هي الثورة الاجتماعية، والتي في حالة ثورة ديسمبر المجيدة لها مقومات نشوئها على أسس صلبة تدعمها لجان المقاومة كابتداع ثوري سوداني أنجح أولى معارك الثورة في التغيير السياسي وما زال حاضراً وعاملاً مهماً، إضافة إلى روح التكافل السودانية، وهي بالطبع ليست جديدة، لكن تجددت فيها الدماء أثناء الحراك الثوري، وفوق كل هذا وذاك المسؤولية الاجتماعية التي ظهرت في مبادرات “حنبنيهو” وغيرها.

– إذا أخذنا المقاربة الأخيرة  – الثورة الاجتماعية – كيف يؤثر الفن في ظل موجات الحداثة – من تغيير الوجدان السوداني – وقلب موازين الحياة النمطية، تبعاً لذلك؟

‎عند قراءتي الأولى لهذا السؤال تخيلت أن تتضمن إجابتي عبارة “أني لم أتوقع سؤالاً بهذه الصعوبة”!

‎والآن وأنا أكتب ردي وجدت كم النوافذ التي فتحها لي والتي سأتفرّغ لها الأشهر القادمة لمزيدٍ من النحت والدراسة، وحرصاً على عدم الإطالة سأشير إلى المقاربات التي اعتمدتها في النظر للقضية من جانب عملية التغيير الاجتماعي، ومن ثم دور الأدب والفن في هذا التغيير.

‎من منظور سوسيولوجي تناولت عدة نظريات عملية التغيير الاجتماعي، حيث تنطلق النظريتان الوظيفية والصراعية من أن عملية التغيير الاجتماعي تعتمد على تفسير طبيعة القوى الخارجية التي تدفع الناس إلى نمط معين من الأفعال، سواءً كان ذلك صراعاً طبقياً، معتقداتٍ دينية، عاداتٍ اجتماعية أو غيرها وإظهار صلاتها بغيرها من مؤسسات المجتمع.

‎يذهب ماكس فيبر إلى أن الفعل الاجتماعي – لا البنية الاجتماعية – هو العامل الحاسم في عملية إنجاز التغيير، فبخلاف ايميل دوركهايم وكارل ماركس لا يعتقد ماكس فيبر أن للبنى الاجتماعية وجوداً مستقلاً عن الأفراد، بل إنه يرى أن البنى في المجتمع إنما تتشكل بفعل تفاعل تبادلي معقد بين الأفراد، وأن الدوافع والأفكار البشرية تقف وراء التغيير الاجتماعي.

‎أجدني أقترب كثيراً من منظور ماكس فيبر في التشديد على دور الفردانية وروح المبادرة، والتي وإن نظرنا إلى مسيرة ثورة ديسمبر حتى الآن نجد أنها المثال الأنموذجي الذي يشرح مدخل الفعل الاجتماعي، فمبادرات “حنبنيهو” و”عندك خت ما عندك شيل” تنتصر لنظرية الفعل الاجتماعي على النظريات الوظيفية/ الصراعية التي تعتمد دور القوى الخارجية والمؤسسات كالأحزاب والطبقة الاجتماعية.

‎بالنظر لتاريخ الثورات الثقافية في العالم، نلاحظ الرابط السحري بين الأدب والثورات الاجتماعية، فإذا أخذنا حركة الأدب الرومانطيقي نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر نجدها احتفت بالفردانية والتمرد والراديكالية، وأعلت من قيمة الحدس والشعور على المنهج العلمي، والتي يمكن النظر إليها كرد فعل صارخ على المجتمع الصناعي، الأرستقراطية في نمط الحياة والمشهد السياسي، وباتجاه المنهج العلمي في تفسير الحياة. تقدمت الحركة الرومانطيقية بكسر كلِّ قواعد المجتمع الصناعي، الذي حول الإنسان لترس داخل ماكينة كبيرة، تنتج ما يستهوي سوق العمل، حتى وصفها البعض كمضادٍ لعصر التنوير، فهل نعتبر الحركة الرومانطيقية معبرة عن هذه التغيرات الاجتماعية أم ناتجة عنها؟

عندما سألت الأستاذ يحيى فضل الله في حوار إسفيري عن الدور الذي يجب أن يمارسه الفن في ثورة ديسمبر، أجابني بضرورة إيجاد نظرية أدب تُعالج المسألة؛ ووجدتني حينها أتساءل: هل يجب أن نُفرد الطريق للأدب لكي يعبر عن هذه الثورة، هذا الانقلاب في حياة الشعب السوداني أم نجند المثقفين لكي ينتجوا لنا أدباً يقود هذا التحول ويوصله إلى شواطئه المنشودة، من حرية سلام وعدالة؟

 ‎يبدأ ثيودور أدورنو في كتابه نظرية الجمال من الصفحة الأولى بالقول إن “كل الجهود الساعية لاستعادة الأدب بإعطائه وظيفة اجتماعية – والتي يبدو الأدب غير واضح تجاهها ويقوم بعكس غموضه الخاص – هي جهود محكوم عليها بالفشل”؛ إلا أنه يعود داخل ثنايا الكتاب لمحاولة عملية بناء مزدوجة الأولى باتجاه الحركات الأدبية الحديثة من مدخل فلسفة جمالية – وهو قد أعد إهداء هذا الكتاب للكاتب صمويل بيكيت- والأخرى باتجاه فلسفة الجمال لدى إيمانويل كانت وهيجيل من منظور الأدب الحديث.

‎ينظر أدورنو للأعمال الأدبية الحديثة كوحدات اجتماعية، بحيث أن التوتر الذي لا محالة منه داخل هذه الأعمال يعكس الصراع المحتوم داخل العملية الاجتماعي-تاريخانية التي تنبع منها وتنتمي إليها هذه الآداب.

‎تُدْخِل هذه التوترات الأعمال الأدبية داخل صراع الأديب مع المحمولات الاجتماعي-تاريخانية، وتقوم بجذب هرمونطيقيا متشاكسة أغلبها لم يحسن قراءة التوترات داخل هذه الأعمال الأدبية ولا تقاطعاتها مع صراع المجتمع ككل.

‎ينظر أدورنو لهذه التوترات والصراع كعقبات يجب العمل عليها وحلها، حيث لا يكتمل حل هذه العقبات إلا بعمل تحولات عميقة في المجتمع ككل.

‎هل يذهب أدورنو إلى أن حل التوتر والصراع في الأعمال الأدبية من خلال نظرية للأدب سيؤدي إلى إنجاز التحولات العميقة في المجتمع أم أنه انعكاس لهذه التحولات نفسها؟ لا أدري لكنه بهذا يذهب بالأدب بعيداً من أي وظيفة مباشرة في التغيير الاجتماعي ويُعقِّد المسألة – في رأسي – لدرجة أني أقترب من المقولة اللغوية القديمة، أن اللغة تتحدث عن اللغة فقط ولا ترتبط بالواقع بأي حال من الأحوال، إذ تأتي قصة الفيلسوفين اللذين قدما إلى مطعم فيلسوف وطلبا ستيك بقري، قدم لهما صاحب المطعم قدح خنزير وعندما اعترضا بأنه غشّهما، قال لهما: لم أكذب أبداً، فتعبير ستيك بقري مجموعة أصوات تخرج من أفواهنا لا تتضمن أي لحم بقري، وبالتالي لا رابط أبداً بين كلمة بقر وما أُقدّمه في هذا القدح.

‎أدخلني هذا التساؤل إلى حوار – ما زال مستمراً – مع دكتور Eberhard Ortland إذ اختلف معي فيما ذهبت إليه كثيراً قائلاً: “أعتقد أن أسئلة التغيير الاجتماعي والثورة الاجتماعية تظهر – عندما تظهر – كاستجابة لمعضلات اجتماعية محددة أشير إليها بقصور في مؤسسات المجتمع المحدد، وفي العلاقات العضوية بين أفراد المجتمع، كما أن مكانة الأدب والمؤسسات الأدبية تختلف باختلاف المجتمعات الإنسانية، دعنا ننظر للمجتمعات التي تهتم أنت بها قبل الحكم بقابليتها من عدمها للتغيير/ التثوير الاجتماعي”.

‎أعلم أنه بهذا الرؤية ينطلق من تجربة المجتمع الألماني الذي عاش التجربة القومية وانتقل بين الاشتراكية والرأسمالية، حتى وصل لنضجه الحالي، والذي يصعب معه تصور أي سؤال عن تغيير اجتماعي.

‎هل بالضرورة أن يكون الأديب نتاج أسئلة واقعه وبالتالي أي أديب لا يخاطب قضايا شعبه لا ينتج أدباً حقيقياً؟

يعمد جون ديوي في محاضرته “الأدب كتجربة”، إلى إرجاع الأدب إلى حقل التجربة اليومية في سعيه لإنجاز نظرية للأدب. يعتقد ديوي أن نظرية الأدب يجب أن تحرره من إطار اللوحة، سجن المتحف وسلطة الإمبريالية – التي تعج بمقتنيات الشعوب المسلوبة – إلى حياة الميكانيكي في ورشته والعامل في السوق، إلى ظروف اليومي الذي يشد الحبل بين القصد والمتعة إلى الفن، يحاول أن يتلمس الفارق بين طرق النجار على الخشب للإتقان وبين اللذة المحرمة، لاقتناص لحظة انشقاق الأرض عن أدب، هل نسجن الأدب حين نسجن القصيدة بين دفتي ديوان، تقرأ في ليلة شعرية أو تقتنى في كتاباً مطبوعا، أم نبثه بالمجان في تفاصيل الحياة اليومية والأحداث المعتادة، بالتأكيد هذه لحظة فارقة لم تخطر ببالي من قبل، إلا أني أختلف معه هنا، إذ أرى أن الفن يتناول شيئاً أبعد بقليل عن مقبض أيدينا، خارج حدود حواسنا الخمس، يخلق ما لا يمكن حدوثه في الأرض في الظروف الطبيعية. يبدأ الشاعر من ورقة بيضاء وينتهي بأوديسا، يخلق طعماً مستحباً للخيانة اللذيذة، ويُخبز سيريالية لم نكن لندرك العالم بدونها، وبالتالي يبتعد الإبداع عن المألوف بدرجة تسمو عن الاعتيادي ولا تهوي في اللامعنى.

 سأقوم بقلب مدخل جون ديوي رأساً على عقب، وبدلاً من إرجاع الأدب إلى ميدان التجربة اليومية، سأذهب الى إذكاء التجربة اليومية، وفي حالتنا هذه ثورة ديسمبر بتشجيع علاقة جدلية بين الأدب والعمل الثوري، وفيها يكسب العمل الثوري الأدب أصالته ويُمهّد الأدب الطريق للمسار الثوري حتى يتشبك الاثنان معاً في حقل اجتماعي – ثوري- أدبي متسق.

سأعيد، ذات السؤال الذي طرح للمفكر العالمي  تشومسكي، في مجتزأ عن انهيار المجتمع الأمريكي:

– ما هي أفضل طريقة لفهم العلاقة بين وسائل الإعلام، والطبقة السياسية، والشعب في المجتمع السوداني المعاصر؟

‎أنظر للمكونات الثلاثة للسؤال أعلاه كجُزُر مُتجاذبة، حيث لم يخاطب الشعب السوداني نفسه من خلال الإعلام قط، كما لم يخلق لدينا السياسي المصنوع بتصويت الجماهير على برنامجه، وهذا لأسباب متعددة لا أريد أن أضعه كله في سلة الهندسة الاستعمارية وطبقة النخب المنتجة لإدارة عجلة الدولة بعيداً عن أزقة واقعها، لتنتج مثقفين يجيبون للشعوب الأخرى عن أسئلتهم إذ أننا لم ننتج أسئلتنا بعد.

‎عند النظر لتاريخنا الحديث نجد ظهور الإعلام ممثلاً في الصحافة الورقية كمجلتي الفجر والنهضة والتي سبقت أو عاصرت ظهور الأحزاب السياسية في المشهد منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، حاول الإعلام ممارسة دوره في عملية تأسيس الدولة الناشئة ونشر التنوير بجهود أقل ما توصف بأنها جبارة عند مقارنتها بما وصل إليه حال الصحافة والإعلام بعد قرن من التقدم الصاروخي وعمليات التحديث المتسارعة في العالم.

‎إلا أننا و بعد هذه المسيرة الطويلة لم نستطع إنجاز مشروع وطني واضح المعالم ومستقر ليعكسه الإعلام أو تعمل على ترسيخه الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع، وبالتالي أعتقد أن التردي في حال الإعلام الآن، كما هو الحال في الصراع الجنوني بين اللاعبين السياسيين أرجعه لانعدام المشروع الوطني أكثر منه فشلاً في الجهازين العجوزين.

‎حاول الإعلام أداء دوره المطلوب إلا أن الزخم السوسيو -ثقافي الأيديولوجي جعل مهمته صعبة  جداً، فنجد تنوع مقاربات الإعلام بين تجارب الصحف / الصفحات الثقافية، الصحافة الشبابية، والصحافة الاجتماعية؛ لم تنجح تماماً في تجسير الهوة بين الإعلام والجماهير، وبالتالي لم نرَ أي نبض للشعب داخل جهازه الإعلامي.

‎كما خاطبت المؤسسات السياسية الجماهير بطرق مختلفة، بينما اتخذت الحركة الإسلامية إعلام الألعاب السياسية داخل أروقة المؤسسة الحاكمة نفسها وتقديمها في شكل فضائحي تجذب قراء كسالى يتابعون دراما سياسية لا يلعبون فيها سوى دور المتفرج، حاولت الحركة الشعبية الاقتراب من الجماهير من خلال تجربة أجراس الحرية إلا أن الفرصة لم تتسنَّ لها مع انفصال الجنوب، نرى أيضاً إعلام الحزب الشيوعي الذي قلما أحدث تأثيراً خارج عضويته وأصدقائه.

‎الآن أتاحت لنا ثورة ديسمبر سانحة جيدة جداً لوضع المؤسسة الإعلامية في المسار الصحيح كما تدعو الأحزاب السياسية للتعلم من أدبيات ثورة ديسمبر بحيث ينحصر الصراع داخل الأطر الوطنية، وهذا وعي لم نجربه من قبل لكن يطول الحديث عنه هنا.

‎الهوامش و المراجع

1- Giddens, Sociology, 4th edition 2001 – Anthony Giddens

2- Aesthetic Theory- Theodor W. Adorno

3- Art as experience – John Dewey

‎- الدكتور Eberhard Ortland أستاذ الفلسفة في جامعة Munster المانيا ‎قام بإعداد مجموعة محاضرات ثيودور ادورنو للنشر في كتاب ” نظرية الجمال ” المترجم للانجليزية 2018

‎:::

فاتن علي

كاتبة وشاعرة من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى