النّحـات
ترتجف خوفًا عند تذكرها لما تعرضت له، تبكي فرحًا عندما تنظرُ إليه بجوارها، تبتسمُ لوالدتها وتبادلها هي الابتسام وتلمعُ سنها الذهبية.
يقفُ العروسان وجميعُ الحاضرين، يخاطبُ القسيس العروسين في باحةِ كنيسةِ التوحيد؛ أعرقِ الكنائس: أيها العزيزان، لقد جئتما إلى بيتِ الله، كي يعطي الربُ زواجكما أمام القسيسِ وأمام الكنيسةِ طابعًا مقدسًا، إن المسيحَ يباركُ الحب الزوجي، ويُغني المعمدين، ويقويهم بسرٍ مقدسٍ خاص، يحفظون به دومًا الأمانة المتبادلة، ويقوّمون بما يمليه الزواج من واجبات، لذلك إني أطلب الآن منكما أن تجيبا صراحة، أمام جماعة المؤمنين على الأسئلة التالية.
يسأل القسُ العروسين: يا أركماني وياحورية، هل جئتما هنا لتعقدا الزواج، بحريةٍ تامةٍ ورضىً أكيد وبلا إكراه؟
العروسان: نعم.
القس: هل أنتما مستعدان لأن يبادلَ كل منكما الآخر المحبةَ والإحترامَ طيلة أيام حياته؟
العروسان: نعم.
القس: هل أنتما مستعدان لأن تقبلا البنين، بحبٍ من يد الله، وأن تربياهم بموجب شريعة المسيح والكنيسة؟
العروسان: نعم.
هنا يوعز القس للعروسين بالإعراب عن رضاه.
القس: بما أنكما عازمان على أن ترتبطا بعهد الزواج المقدس، ليمسك كل منكما يد الآخر.
مسك كل منهما بيمينِ الآخر.
ليسأل القسُ العريسَ: يا أركماني، هل تريد أن تَتَّخذ حورية زوجةً لك، وهل تَعِدُ أن تكون لها أمينًا في الضيقِ والرخاء، في المرضِ والصحة، فتحبَّها وتُكرِمها طول أيام حياتك؟
فيجيب العريس: نعم أريد.
ثم يسألُ العروس: يا حورية، هل تريدين أن تتخذي أركماني زوجًا لك، وهل تعدين أن تكوني له أمينة في الضيقِ والرخاء، في المرضِ والصحّة، فتُحبيه وتُكرميه، طول أيام حياتك؟
فتجيب العروس: نعم أريد.
العريس: أنا أركماني، أقبلك، يا حورية، زوجةً لي، وأُعدك أن أكون لك أمينًا في الضيق والرخاء، في المرضِ والصحة، فأحبك وأكرمك طول أيام حياتي.
العروس: ياسيدي القس لقد أكرمني قبل أن يعرفني، ألا يكرمني وأنا زوجته؟
تنظر إليه وتنهمر دموعها بغزارة: أنا حورية أقبلك يا أركماني، زوجًا لي، وأعدك أن أكون لك أمينةً في الضيقِ والرخاء، في المرضِ والصحة، فأحبك وأكرمك طول أيام حياتي.
بعد أن يتحقق القس من رضى العروسين، يمدُ يده عليهما ويقول: فليؤيد الربُّ العطوف رضاكما هذا، الذي أعلنتُماه أمام الكنيسة، ولْيُفِض بركته عليكما. ولا يُفَرِقَنَّ الإنسان.
الحاضرون: آمين.
***
انتقلت مراسمُ الزواجِ من كنيسةِ التوحيد في فن فينة بالقربِ من منبع قيشون، إلى معبدِ المصورات شرق الروح. موسيقي هادئة تنسابُ في بهوِ معبد المصورات الصفراء، بعض المدعوين من أصدقائهما، أمها ورهطها. ينظرُ في عينيها، يتيهُ في جمالهما، يمضي بعيدًا، وتمضي.
***
ترتجفُ خوفًا، تستحمُ بعرقها المدبوغ برائحة الزنجبيل، فُطمت على شرب القهوة الداكنة السمرة، المنكهة بالزنجبيلِ الحار، صار عرقها زنجبيلي، تشتمُ رائحته؛ تعرجُ بها كبساطِ ريحٍ إلى ذاكرتها؛ تحجُ إلى منزلها في فن فينة، تجدُ والدتها في المنزل، تحت عريشةِ العنب المتوسطة لدارهم في سفحِ الجبلِ الأخضر، بادرته بالتحية قائلةً: صباحُ الخير.
رد الجبلُ مبتسمًا: صباحُ الصحةِ والعافية.
أشرقت عليه الشمس؛ أضفت على خُضرته غلالةً ذهبية، أوصاها كوني بردًا وسلامًا عليهم، راشقته مياهُ الوديان تعكسُ زرقة سماءها؛ ضمها على خُضرته بحنو، كونت ألوانَ طيفٍ أبرزها البنفسجي وقال: كوني مغتسلًا باردًا وشراب، أتتهُ الريحُ تحملُ أشواقَ جبلِ البركل والأهرامات، قال لها: أقرئيهم مني السلام ولتأتي ببذور الحبِ والخير، أما ذرات ترابه المتفتتة من صخره بلون آدِم فقال لها: أنا أتعهدكِ بالعناية والخصوبة، أودعها ورهطها إلى أُمهم، وظل يراقبهم جميعًا عن كثب.
تتطابقُ ملامحها وأمها، ترتديانِ الزوريا البيضاء الباردة صيفاً والدافئة شتاءً، خاطتِ الأمُ من ذاتِ القماش غطاءَ شعرٍ، تلبسهُ دائمًا، الجو هنا معتدل.
جاهلةً بالوقت، تصحو على رائحةِ تحميصِ البن، استيقظت أمها باكرًا، أنهت مهامها اليومية الصباحية، وهاهي تُروِّح عن نفسها بشربِ البن، انضمت إلى أُمها ورهطها في العريشة، يشربون القهوة، يضحكون، تبتسم الأم، تلمعُ سنها الذهبية، تتأكد من سلامتهم، واستعدادهم لاستقبال اليوم الجديد، يمضون على مباركتها، قهوة أمها ذات نكهةٍ مميزة، وطقوسٍ مختلفة، لسفحِ الجبل فنجانٌ محدد، يوضعُ بين الفناجين؛ تصبُ له من القهوة البكر، يظلُ في مكانه حتى يستقيم مزاجهم ومزاجه، فهو يشاركهم حياتهم.
***
داكنةُ السمرة؛ تُبعِدُ شعرها الغزيرَ المبعثرَ المتناثر عن وجهها، لم تمشطه منذ اختطافها، زادها ذلك شراسةً على شراستها، التي ذادت بها عن نفسها، لما هوجمت في أثينا وقبيل اختطافها. تبعهم من هناك، موانئهم الجوية والبحرية والبرية..
تنظرُ إليه، تتوقعُ هجومه في هذه اللحظة، تفصلُ بينهما مسافةٌ سنتمترية، تجلسُ على الأرض، متكورةً ضامةً ركبتيها، يخفي الورمُ عينيها الواسعتين العسليتين، يسيلُ المخاطُ من أنفها الأشم، تزكمهُ رائحةُ الأرضِ بعفونتها، ترددُ كلماتٍ مبهمة، تتحركُ شفتاها القرنفليتان، إذ لا صوتَ يخرجُ من حنجرتها، تغلبها بعض هنهناتِ البكاء، يسمعها ولا يلقي لها بالًا، يرقدُ مستقيمًا، ساقاه أمامه، عيناه صغيرتان، يحكُ أنفه بطرفه الأمامي، حكاتٍ متتالياتٍ متوترات، يشتمُ رائحة خوفها؛ مختلطةً برائحةِ عرينه العطنة، يَحولُ حاجزٌ ما بينه وبينها، يحسُ تجاهها بالإلفة. أكلَ كل اللواتي أُهدين له في أوقاتِ الوجبات، قطّع لحمهن؛ رمى عظامهن؛ لعق دمهن بلسانه؛ منظفًا فمه وأسنانه، الطقس هنا إستوائي حار. تثاءبت عظامٌ نائمةٌ بجوارها، أزعجتها رجفةُ الوافدة الجديدة، تململت، دغدغها شعرُ الضحية السابقة المعجونُ بالدمِ فسألته: أمازلت هنا؟ ألم تعدك الأرض إلى مكوناتك؟
قالت الأرضُ بصوتٍ فخيم: هو ليس مني، يحتاج لبعض الوقت لإعادته .
العظام المتراكمة المتراكبة: كم نحِنُ للأوبة؟
تبتسمُ الأرضُ إبتسامةً رزينةً وتقول: ستعودون بلا شك.
قالت عظمةٌ مشاكسة: يمضي العالم إلى الأمام وأنتن تُرِدن الأوبة، أنتن عظماتٍ خرفات.
ردت الأرض بذات ابتسامتها: وإن تقدمن إلى الأمام فهن عائدات.
ينتظرُ مختطفوها لحظة انقضاضه عليها، هم قومٌ يبحثون عن رسولتهم التي بعثها إلاههم، في الهضبةِ الأولى البعيدة، ووصفها كالآتي:
عمرها ثمانية عشر عاماً، لا تزيدُ يوماً ولا تنقص، عذراءُ لم يمسسها رجل، منحوتٌ على رسغها الأيسر؛ رمز العنخ منذ الولادة، عند لقائهم بها، أمرهم أن تُمتحن أصعب الامتحانات، عندما تتجاوزها؛ يقلونها إلى هضبتهم الثانية، يُدخِلونها معه، فإن لم يلتهمها يُخرِجونها، ينصّبونها ملكةً عليهم، انطبقت عليها جميعُ مواصفاتِ الرسولة، لم يبق إلّا الشرط الأخير.
***
تحيطُ بصحنِ معبدِ الخراف، حجراتٌ كثيرةٌ ومتسعة، يقيمُ كل كاهنٍ في مكانه المحدد، حسب ترتيبه العقائدي ووظيفته التي يؤديها، من أكبرهم حتى أصغرهم، شربت أرض آمون رع من دمِ القربانِ المقدم له ماشربت، كان الناذرون التائبون يقدمون له القرابين في المعبد. دعا كبيرُ الكهنة إلى لقاءٍ عاجل، تحادرتِ الخطى تقصدُ قاعةَ الاجتماعات، قطعت أجسامٌ معتمة؛ رحلةَ أنوارِ القمر الممتدة؛ مما لفت انتباهه، فسأل الروح عما يجري قائلًا القمر: نعمت مساءً ياصديق.
الروح: نعمت مساءً لا أدري عما تسأل.
القمر: هناك حركة مريبة بجوارك.
الروح: لنسأل أرض المعبد.
القمر والروح لأرض المعبد: نعمت مساءً.
أرض المعبد: نعمتما مساءً.
القمر والروح: ما الذي يجري بأرضك.
أرض المعبد: لا شيء بعض خطوات حادرة، تتجه إلى قاعة الاجتماعات.
تقدمهم كبيرهم، كان وجهه شاحبًا ومتغضنًا، نجحَ في ارتداءِ قناع الحزن، له عدةُ أقنعةٍ يرتدي منهم ما يناسب مهمته المُقدم عليها، عيناه ثعلبيتان، أنفه عريضٌ وشفتاه سميكتان، أمرد.
تسللَ الهواءُ الباردُ إلى القاعة، راقصَ شمعاتِ حوائطها، أضافت بظلالها لمحةَ أسىً على وجهِ كبيرهم، توجسَ البقية، يترقبون أمرًا جللًا، حملتْ النسماتُ بنات الهواء، عطرَ بخورِ القاعة إليه.
***
أقرأ آخر كتابٍ صدر في أثينا، وصلني لتوه عصر اليوم، أدونُ بعض ملاحظاتي على ورقةٍ وأحتفظ بها داخل الكتاب، الكتابُ الذي بين يدي شيقٌ وجميل وكُتِب بلغة جزلة. أتخففُ من كل أحمالي عندما أقرأ، الزي الملكي، التاجُ والصولجان، عندما تقرأ يجب أن تكون تلميذًا تطلب العلم والمعرفة، القصة التي بين يدي تروي حكاية عروس البحر.
***
علمتُ بمروري بمعبدِ الخراف، بحياكةِ خيانةٍ ما، لم أتبيّن ماهيتها، حملتُ عطر البخور المميز، دخلت عليه، لم أجد الملك أركماني، وجدت فيلسوفاً ومثقفاً، يعكفُ على قصة، يقرأها ويحللها، استنشقني، اشتم عطري، شاغلتُ حدسه، أغلق الكتاب، خرجَ إلى مجلسه؛ نادى الحاجب، أمرهُ بأن ينادي أحدهم ليتقصى أمر المعبد، نجحتُ في مهمتي، لفت إنتباهه لما يدور بعيدًا، وددتُ لو أكملت معه، قصته الشيقة، أسطورة عروس البحر.
سمعتُ القصةَ من جدتي ذاتَ ليلٍ، كنتُ في المهدِ، أنامُ على حكاياتها، وها أنذا أجدها عند آخرين باختلافٍ طفيفٍ في التفاصيل، عروسهم بيضاءُ كقطعةِ ثلجٍ، ذاتُ شعرٍ أشقرٍ طويلٍ تسرحه وهي تجلسُ على الشاطئ، عروسنا سوداءُ كلؤلؤةٍ نادرة، ذاتُ شعرٍ قوي كثيفٍ ومبعثر، تجلسُ في صخورِ الشلالات، هي صعبةُ المنال، عروساتهن غضبت عليهن أمهاتهن فأهدوهن للبحر، عروساتنا رضيت عليهن آلهتهن وأُهدين للروح، أتمنى لو أحظى بإحداهن.
***
علمَ بما يحاكُ بالمعبد، تغاضى وفي نفسه أمر، يجلسُ على عرشه بين حاشيته، أتتهُ الرسالة الكهنوتية التي تنص على:
(أنا الإله أمون رع
آمرك بأن تقدم روحك قربانًا لي، عبر تقليد الاغتيال الطقوسي، فإن أجدادك يحتاجونك، لفض بعض الأمور الشائكات هناك، وقد رأينا أن صلاح مملكتنا في أن تكون بينهم
دمت ذخرًا لنا ولمملكتك في الحياة وبعدها)
رسمَ ملامحَ التوترِ على وجهه بإتقان، التقليدُ انتحارٌ محض، بتجرعِ سمٍ معين، يقومُ كبيرهم بتحضيره، يُخلطُ بقهوة الزنجبيل داكنةِ السمرة، تعدها القربانة المنتظرة، وعلى الملك الاستسلامُ التام لأمر رع وسُم كهنته وقهوة قربانتهم.
***
ترتجفُ خوفًا، تستحمُ بعرقها، المدبوغِ برائحةِ الزنجبيل، فُطمتْ على شربِ القهوة، المنكهةِ بالزنجبيل الحار، صار عرقها زنجبيلي، تشتم رائحته؛ تعرجُ بها كبساطِ ريحٍ إلى ذاكرتها؛ تحج إلى المعبد. تجدُ كبيرهم في غرفةِ الاغتيال الطقوسي المتوسطة للمعبد أعلى جبل البركل، بادرته بالتحية قائلة: مساء الخير.
الكاهن: هذه آخر ليلة لك في الحياة.
القربانة: أعلم ياسيدي، علمت أن آخر واجباتي إعداد قهوة موت الملك.
***
يقتلني حزني عليها فهي في ريعان شبابها، غدًا ستكمل الثامنة عشرة، وهي مباركةٌ، مولودةٌ ورمز بيا العظيم منحوت على رسغها، تمنيتُ تزويجها بأحد نبلاءِ المملكة، تمنيتُ حمل أحفادي ألاعبهم وأُسهم في تربيتهم، لكن الكهنة سيقدمونها غدًا قربانة وعروس بحرٍ لآمون رع.
غلبها النعاس؛ قلبها مفطور على ابنتها، تختلفُ المسميات والموتُ واحد، رأته في منامها يقفُ بكل شموخه وعزته، ورأت رهطها معها، في غابةٍ كثيفةٍ، بجانب منابعِ الروح، والشمسُ تحيي الأرض معلنةً حضورها، كانوا يرتدون الزوريا البيضاء، الدافئةُ شتاءً، الباردةُ صيفًا، يرقصون رقصةً طقوسيةً، لم تعرفها من قبل، كانوا صفًا، مكونًا من خمسةَ نساءٍ ورجلين، ابنتها في منتصفِ الصف، ترقصُ وتضحكُ وترمي الشبال، بشعرها يمنةً ويسرةً، كانوا يمدون أياديهم أمامهم، يلاقونَ بها سيقانهم، كمن يركض، يعيدونها مرتين وفي الثالثة يُرفِقون الشبال، ويبرز نحت بيا العظيم في رسغِ ابنتها عروسِ البحر، يرددون نشيده بكلماته القوية :
ﺧﻠﻘﻨﺎ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﺴﺠﺪﻧﺎ ﻟﻪ ﻭﺟﻌﻞ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻴﻬﺘﻒ ﻟﻨﺎ
ﻓﻨﺤﻦ ﺍلأﻭﺍﺋﻞ ﻓﻰ ﻛﻮﻧﻪ ﻭﻛﻞ ﺍﻟﺒﺸﺮ أﺗﻮﺍ ﺑﻌﺪﻧﺎ
ﻓﻴﺎ ﻣﺠﺪ ﻛﻮﺵ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﺍﻟﻤﺠﻴﺪ ﻓﻤﻦ في ﺍﻟﻮﺭﻯ ﻳﻚُ ﻣﺜﻠﻨﺎ
ﻭﻛﻨﺪﺍﻛﺔٌ ﺗﻨﺴﺞُ ﺛﻮﺏَ ﺍﻟﻤﻬﺎﺑﺔِ ﻋﺰًﺍ ﻭﻓﺨﺮًﺍ ﻟﻴﺒﻘﻰ ﻟﻨﺎ
يرقصون بالقوة ذاتها، استيقظت وهي تدعوه بأن يحفظ عروس البحر، وأن يختار فديةً تقدمها له بدلًا عن ابنتها، تيقنت من حدوث ذلك، بعثت في قلبها الأمل، ابتسمت ولمعت سنها الذهبية.
***
منكبٌ على منحوتتي، عليّ أن أكملها فيما تبقى من اليوم، أزيلُ بعض الزوائدِ بحوافها، أبتعدُ عنها، أنظرُ إليها، أفخرُ بها، تمثالي يحاكي التمثالَ الأصلي لأباداماك، مستأنسٌ به كمن نحته قبل اليوم.
أتخفف من كل أحمالي عندما أنحت، الزيُ الملكي، التاجُ والصولجان، عندما تبدعُ يجب أن تكون ناسكًا ينتظرُ الوحي والإلهام، التمثالُ الذي بين يديّ يحكي مجدَ أمةٍ. علمت بمتابعتي لهم في شوارعِ أثينا، بأن جريمةً ما تتم، ضحيتها الفتاةُ داكنةُ السمرة، حملتُ رائحة عرقها الزنجبيلي المميز، دخلتُ عليه في أستديو النحت، لم أجدِ النحاتَ العالمي المشهور، وجدتُ فيلسوفًا ومثقفًا، يعكف على منحوتته، يُعمِل إزميلهُ عليها ويزيلُ الشوائب، استنشقني، اشتمَ عطرها، شاغلتُ حدسه، وضع الإزميل، خرج إلى باحة المعمل؛ نادى أحدهم، طلب منه ترتيبَ شأن غيابه، نجحتُ في مهمتي، لفت إنتباهه لما يدور بعيدًا، وددتُ لو أكملت معه نحت تحفته الفنية، تحفته الأسطورية.
***
تهيأ معبد الخراف، لاستقبالِ أركماني الملك، الذي سيأتي لتنفيذ أمر آمون رع، الناص على أن يقتلَ نفسه بتجرعِ السمِ المخلوط بقهوة الزنجبيل.
تهيأ قصرُ المصوراتِ الجديد، لوداع أركماني الملك، الذي سيذهب لينهي أمر آمون رع، الناصِ على أن يقتل نفسه، بتجرع السم المخلوط بقهوة الزنجبيل.
تهيأت لأن تُرمى بقلبِ الروح قربانةً وعروسَ بحرٍ لآمون رع، وأنه سيأكلها بعد أن يجوع .
تهيأوا للبحث عن آلهة أخرى، إذا ما إلتهم هذه التي في عرينه، كما تهيأوا لتنصيبها ملكةً أيضاً إذا لم يفعل.
تهيأت الأمُ لاستقبال ابنتها، المرهقةُ مما عانته، ثم ترآءت لها.
جاهلةً بالوقت، تصحو على رائحةِ تحميصِ البن، استيقظت أمها باكرًا، أنهت مهامها اليومية الصباحية، وهاهي تُروِّح عن نفسها بشرب البن، انضمت إلى أمها ورهطها في العريشة؛ يشربون القهوة، يضحكون؛ تبتسم الأم؛ تلمع سنها الذهبية، تتأكد من سلامتهم؛ استعدادهم لاستقبالِ اليومِ الجديد، يمضون على مباركتها، قهوة أمها ذات نكهة مميزة، وطقوسٍ مختلفة، لسفحِ الجبل فنجانٌ محدد، يوضع بين الفناجين؛ تصب له من القهوة البكر، يظل في مكانه حتى يستقيم مزاجهم ومزاجه، فهو يشاركهم حياتهم.
أشرقت عليه الشمس، أضفت على خضرته غلالةً ذهبية، أوصاها كوني بردًا وسلامًا عليهم، راشقتهُ مياهُ الوديان تعكسُ زرقة سمائها؛ ضمها على خضرته بحنو،كونت ألوان طيف أبرزها البنفسجي وقال: كوني مغتسلًا باردًا وشراب، أتته الريحُ تحملُ أشواقَ جبلِ البركل والأهرامات، قال لها: أقرئيهم مني السلام ولتأتي ببذور الحب والخير .
أما ذراتُ ترابه المتفتتة من صخره بلون آدِم فقال لها: أنا أتعهدك بالعناية والخصوبة ..
أودعها ورهطها إلى أمهم، وظل يراقبهم جميعًا عن كثب.
***
تحرك جيشُ أركماني العظيم من المصوراتِ الصفراء قاصدًا معبد الخراف في قمةِ جبلِ البركل المنحدرِ على الروح، ليُنهي أمر آمون رع القاضي بموته، كان ذلك قبل بزوغ الفجر بقليل. الطبولُ تدق، تقدمتهُ فرقةُ موسيقى الجيش، أوقفهم ليردد نشيد بعانخي العظيم :
إنني لا أكذب
لا أعتدي على ملكية غيري
لا أرتكبُ الخطيئة
قلبي ينفطرُ لمعاناة الفقراء
لا أقتلُ شخصًا دون جرمٍ يستحقُ القتل
لا أقبلُ الرشوةَ لأداءِ عملٍ غير شرعي
لا أدفعُ بخادمٍ استجارَ بي إلى صاحبه
لا أعاشرُ إمراةً متزوجةً
لا أنطقُ بحكمٍ دون سند
لا أنصبُ الشراكَ للطيورِ المقدسة
أقدمُ الخبزَ للجياع
الماءَ للعطشى
الملبسَ للعرايا
أفعلُ هذا في الحياة الدنيا
أسيرُ في طريق الخالق
مبتعدًا عن كل مايغضب المعبود
لكي أرسم الطريق للأحفادِ الذين يأتون بعدي
في هذه الدنيا والذين يخلفونهم وإلى الأبد
سمعتْ والدتها كلماتٍ في صحوها، تماثلَ ذلك النشيدُ في منامها، قامت ورهطها تقدموا الجيشَ راقصين رقصة الهايبو، تلك الرقصة التي رأتها في منامها، لكن عروسَ البحر لم تكن بينهم، كانوا كالمنومين تمامًا.
***
كان جسيمًا ذو هيبةٍ، تعلمَ فنونَ القتالِ منذ صغره في الغابة، هناك التقاه، كان متألمًا وجريحًا، لم يتوقع أن ينقذه، توقعَ أن يُجهز عليه ويقتله خوفًا ورهبةً ، أو أن يذهب إلى شأنه إستصغارًا وإستضعافًا.
لم أُلبي توقعاته، ولبيتُ ندائي الداخلي، بأن كل روحٍ يجب أن تحيا، كان شبلًا عندها، انغرز سهمُ صيادٍ ماهرٍ أسفلَ عنقه، كان جرحهُ غائرًا ودمهُ فائرًا، كان عليّ أن أتحلى بالقوةِ والجلدِ والقسوةِ لإخراج السهم، كان أنينهُ خافتاً يغالبُ ألمه.
حملني رغم ثقل وزني، فهو فتيٌّ وقويّ، أسندَ رأسي على دبة من الأرض، رفعَ رأسي فازدادَ الألم، تأوهتُ بصوتٍ عالٍ.
استجمعتُ ما أوتيتُ من قوة، أمسكتُ بالسهم بكلتا يدي، سحبتهُ فخرجَ من أسفلِ عنقهِ مسببًا جرحًا غائرًا، اندفعَ الدم وغاب عن الوعي.
لم يكتفِ بذلك، بل أخذَ من ثمرةِ شجرةِ القرض، التي ترميها القرودُ على مرتادي الغابة لملاعبتهم.
طحنتها كما حكتْ لي جدتي في إحدى قصصها التي أنامُ عليها، أن ثمرةَ القرضِ الصغيرة المُرة تُبرئ الجرح، ولها فوائدٌ أخرى، صنعتُ منها عجينةً بأن صببتُ فيها قطراتٍ من ماءِ الروح، ووضعتها على جرحه الغائر.
كان يعيدُ تطبيبي يوميًا قبل أن يبدأ تدريبه، وبعد أن ينهيه، استمرَ ذلك لأسبوعٍ كاملٍ بعدها مضى إلى قلب الغابة وكنا نتقابل لِمامًا.
***
كان جسيمًا ذو حظوة، لامع السواد، أنفه عريض، عيناه حادتان، شفتاه ممتلئتان، شعره كثيف، قوي خشن، رأسه كبير، يتناسب وقامته، يضع عليه تاج الذهب المطعم باللآلئ السوداء النادرة، يحمل صولجانه بذات اليد التي طبب بها الأسد، يغطي صدره العريض، درع الحرب الموروث عن بيا العظيم، سيفه في غمده، وقوسه وسهامه في كنانتها، يركب حصانه القوي المتين، الذي يحبه ويخلص له.
موكبه مهيب، مؤيدوه ومحبوه على جانبيّ الطريق، الأم ورهطها يرقصون أمامه، رقصة تحاكي ركض صديقه الحميم، عندما يريد اصطياد فريسته، جيشه خلفه، تصحبه دعوات جدته التي لا تحب الخراف، هو من عل يتراءى في الأفق كلوحة مرسومة من خطوط نور ذهبية، مضى على بركة كل هؤلاء، تنتظره عروس البحر…
وصل نبأ الموكب إلى الكهنة، في معبد الخراف، لم يعلموا أن للملك، نية غير التي عرفوها، أعدت عروس البحر قهوة بالزنجيبل، حتى تخلط مع السم..
صهل حصانه وصلهم صوته زئيرًا، تداخلت أحاسيس من كانوا في المعبد، سمعت القربانة صوت غناء أمها من بين الجموع، ابتسمت؛ لمع سن والدتها الذهبية، خطفت خطوط الشمس تلك اللمعة ظناً أنها جزء منها، رسمت الخطوط صورته في أفق جبل البركل، ظل يتراءى له، يتبعه، وكلما اقترب منه صهل حصانه وعلا صوته زئيرًا مجلجلًا، هز أرجاء المعبد وزلزلها على من فيها.
قالت: اقترب خلاصي
***
يسمعها ولا يلقي لها بالًا، يرقد مستقيمًا، ساقيه أمامه، عيناه صغيرتان، يحك أنفه بطرفه الأمامي، حكات متتاليات متوترات، يشتم رائحة خوفها؛ مختلطة برائحة عرينه العطنة، يحول حاجز ما بينه وبينها، يحس تجاهها بالإلفة، يترك لها عرينه ويخرج…
يصفق الشعب البدائي الذي كان ينتظر انقضاضه عليها، يبكون يهنئون بعضهم، فعناءهم لم يذهب هباءً، وفقهم إلههم في العثور على رسولتهم ومليكتهم…
هو مندس بينهم لم يلقوا له بالًا في غمرة فرحهم…
***
كان جسيماً ذو حظوةٍ، لامعَ السوادِ، أنفهُ عريضٌ، عيناهُ حادتان، شفتاهُ ممتلئتان، شعرهُ كثيف، قويٌ خشن، رأسهُ كبير، يتناسبُ وقامته.
ترتجفُ خوفًا من تلك العجوزِ الشمطاء، التي أتت لاصطحابها، لإكمال مراسم تنصيبها كملكة .
أنا لا أعرف لغتهم وماذا سيفعلون بي؟
من هم؟ ماذا يريدون مني؟
كنت في طريقي لإكمالِ دراسةِ الفنون الجميلة في أثينا، لكنهم اختطفوني، قطعنا المطاراتِ والموانئ، سرنا راجلين لأيامٍ عدة، لم يقدموا لي فيها الطعام، فقط بعض الماء، في هذه الغابةِ الكثيفةِ الأشجار، وَعرةِ المسالك، أتوا بي إلى قلبها، أدخلوني معه في عرينه وعلمت من حديث العظمات والأرض، أنهم قدموا له الكثيرَ من الفتياتِ قبلي، أكلهن بلا ترددٍ، لم يأكلني تركني وذهب، أتتني هذه العجوز وخوفي منها أكبر من خوفي منه.
سأخلصها من بين يدي هؤلاء الجهلة، وسأخطفها كما فعلوا، سأعيدها إلى ديارها، ثم أعرفُ منها حقيقة ماتعرضت له، هي تشبهُ منحوتتي التي تركتها في المتحف.
لكن لماذا تركها ومضى خارج عرينه؟
لا يعنيني أمره، مايهمني الآن هو تخليصها من حارستها العجوزِ الشمطاء، التي تدخن باستمرار وتضع علامة حمراء على جبينها.
سمعتُ من أحدهم القصة، عن الملكة وكانوا يعنونها، تكلمَ ذلك الرجلُ بإنجليزيةٍ فقيرة عبر هاتفهِ النقال، كان يشرحُ لمحدثه أهميةَ الحدثِ بالنسبة لشعبهم وضرورة أن تأتي القنوات التلفزيونية، الإذاعات والصحف لتغطيته، لم يكن يعلم أنني خطفتها، وأنهم لايملكون مليكة ولا رسولة لتنصيبها.
***
دكت خيولُ الملك أركماني جبلَ البركل، زُلزلت أرضُ معبدِ الخراف، الكهنة الخراف ركضوا إلى الروحِ ارتموا بين موجاته هربًا من بطشه، أغرقتهم موجاته، جزاءً لغدرهم بمليكهم المحبوب، زغردت عروس البحر، احتضنتها والدتها، وقفت في منتصف صف الراقصين، واستأنفوا الرقصة مكتملي العدد، تحقق حلم الأم.
رآها أركماني، خلبت لبه، ربما تحقق حلمه بالزواج من حوريةٍ من حوريات البحر، منحوتٍ على رسغها الأيسر مفتاحُ الحياة، لها ولأحفادها القادمين.
انتهى عهد آمون رع وبدأ عهد أباداماك، رسمه لهم بخطوطٍ ذهبية كما رآه، نحتوه بقلوب تحيا بحب أركماني وحب أباداماك، كتب الشعر في حبه، تلى هذا النشيد في مدخل المصورات فرحا بنصره :
لك الشكر يا أباداماك.؛ رب النقعة .
الإله العظيمُ ؛ ربُ المصورات
الإله الضخم؛ أسد ُالجنوب القوي اليد
الإله العظيم؛ الإله الذي يأتي لمن يستدعيه
الإله العظيم الذي يحمل السر الخفي في وجوده
السر الذي لا تراهُ العيون
هو رفيق الرجالِ والنساء
لا يعوقه معوقٍ في السماء أو على الأرض
في اسمه يمكن الإزدهار للبشر
ينفثُ اللهيبَ على أعدائه، باسمه العظيم ذي القوة يقتل العدو
هو الإله الذي يعاقب من أجرم في ذاته
ويهيئ مكانًا عليًا للذين يهبون أنفسهم لخدمته
ويعطي من ينادي في حضرته بالإله السيد العظيم
ويرد عليه قائلًا:
إني أعطيكم كل شيءٍ يخرج بالليل وكل شئ يحدث بالنهار
أعطيكم بسرورٍ سنوات الشمس والأشهر القمرية
هكذا يقولُ رب المصورات الصفراء، الذي يعطي الحياة كإله الشمس إلى الأبد.