حِكَايَاتْ الضّلْع المُقَوّس
(… فالضلعُ المُقَوّسُ في صلصالِ آدم، كان متخماً بالأسماءِ والحكايات، حتى إذا أخذ حواء، فهي حكّاءَة لأنها جاءت من حكاية، والنساءُ توارثن مهمةَ نقلِ لقاحِ الحكايات).
-طارق إبراهيم فاضل
بطل رواية (ترمي بشرر).
(المرأةُ الأولى يمامةٌ
تتألقُ عيناها في وهجِ
النصلِ كالحمى
حين تفترشُ ظهيرةَ اللحمِ
المنفوش)
-من قصيدة (نساءُ القطيعةِ والالتباس).
للشاعر السوداني محمود محمد مدني.
***
الضلعُ المُقَوّس كان مُتخمًا بالأسماءِ، أسماءهن: امرأةُ العزيز، بلقيس، أماني ريناس، ماري أنطوانيت وجنيفر لوبيز (جي لو).
الضلعُ المُقَوّس كان مُتخمًا بالحكايات. حكاياتهن، حكاياتٌ أزلية، مستمرة.
(1) حكاية امرأة العزيز :
نسوةُ المدينةِ لم يرينهُ كيف كان يبدو : جميلًا، مبهرًا، ساحرًا كأنه ملاك.
نسوةُ المدينةِ المترفات، اللائي يعشقنَ الخمرَ والفتيانَ الوسيمين؛ كنت أعرفُ أنهن يمارسنَ النميمةَ في غيابي، يتناقلنَ أخبارَ القصرِ والذهب. سِير الرجال – الأقوياءُ منهم والضعفاء- ضحاياهن أيامَ المراهقة. كنت أعرفُ كل ما يدور في جلساتهن. كل كبيرةٍ وصغيرة. مغامراتهن، مكرهن، دسائسهن وتفاصيلهن السرية. كل ذلك يأتيني في قصري.
الماشطةُ التي تُرتِّبُ زينتهن منذ أمدٍ؛ وتدخلُ قصورهن، تحضرُ جلساتهن الماجنة منها والبريئة. كانت تخبرني بكل شيء.
قالت الماشطة: جئتكِ اليوم يا امرأةَ العزيزِ بخبرٍ عظيم.
قلت: أفصحي.
قالت: كنت بينهن كما العادة، في منزلِ الوزير. جلُ نساءِ المدينة كن هنالك. ران بيننا صمتٌ لبرهةٍ حين صفقت إحداهن في إشارةٍ أن ثمة خبرٌ مهمٌ، عاجل. جميعنا صمت. لا يُسمع لحظتها سوى وجيبُ الترقُّب.
قالت نمّامةٌ جميلةٌ وهي تغمز بعينها: (امرأةُ العزيزِ راودت فتاها عن نفسه).
بخُبثٍ، ضحِكتْ نمّامةٌ أخرى. قصيرةٌ مثيرة. قالت شامتةً: (بتعملا.. أصلها عينها طايرة).
قلت: ثم ماذا أيتها الوفية؟
قالت: نساءُ المدينةِ قلن أنك قد شُغفتِ حباً بفتاكِ الجميل، وأنكِ راودتهِ عن نفسه، وقلن أنكِ قبل ذلك قد أغويتِ أوفيريوس- طباخ القصر- ولما عرف العزيز؛ أخصى الفتى. وقيل أنهما باتا ليلةً في فراشكِ وأنت تقدمين لهما النبيذ مثل جارية.
قلت: كفى.
كظمتُ غيظي، ولكنني أضمرتُ أمرًا.
أعدّدتُ لهن متكأً. طنافسَ من الدمقسِ والحرير، عند غرفةٍ سريةٍ بقصري المنيف. ودعوتهن.
حين أتينَ وجلسنَ على الطنافس؛ قلت لهن: اليوم سترين أجملَ الفتيان. سترين ذلك الفتى الذي لُمتنني فيه.
قالت إحداهن: مهما أوتي من وسامةٍ فلن يطال مكانة (أوفيريوس). أوفيريوس الجميل، الفتى المخصي، طباخُ القصر، وأطلقت ضحكةً ماجنةً.
كظمتُ غيظي ولم أعرها انتباهًا.
قالت أخرى فليأتِ الاثنان. أوفيريوس وفتاكِ يا امرأة العزيز، ولنحكم بعد ذلك.
هي لا تعلم أنني قد أمرتُ أوفيريوس أن يأتي، ولا تعلم أنني أمرتهُ أن يجلبَ نصالهُ الحادةَ التي يستخدمها في مطبخه – بدا مُستغرِبَا حين أمرته بذلك – ولكنه لم يسأل لِمَ عليه أن يجلبها. العبيدُ والمخصيون في القصر لا يسألون. ينفذون ما يأمرون، أوفيريوس نفذَ ما أمرتهُ به. حَمل نِصالهُ وجاء إلى الغرفةِ السرية.
قلت: وزِّع النصالَ على النساءِ المترفات، أعطِ كل واحدة منهن سكينًا.
لما تيقنتُ من أن بيدِ كل واحدةٍ منهن سكينًا؛ فتحتُ بابًا سريًا في الغرفةِ وقلت:
اخرج إليهن أيها الجميل.
خرج الفتى من مخبأه.
سالت دماءٌ عَطِرةٌ على الأرائك، ويقيني أن ثمة مياهًا سالت بين الأفخاذ. قُطِّعت الأناملُ البضة. الشرايين ضختِ الدماءَ خارجَ الأجساد، بخلاياها الحمراءِ والبيضاء، ببلازماها، صفائحها الدموية ولقاحنا الأزلي، لقاح الحكي. نحن النساءُ حاملاتُ لقاحِ الحكايات.
دماءٌ لم تفقد خواصها حتى خارجَ الجسد. دماءٌ طازجة؛ يُعطِرُها الشبق.
قالت نسوةُ المدينةِ هذا ملك.
النمّامةُ القصيرةُ المثيرة، غادرت متكأها وطارت إليه. هربَ الفتى. أوفيريوس كان واقفًا عند الباب. لم يتحرك.
حُمى الرغبةِ اجتاحت النساء. نمّامةٌ استبد بها الشبق، ولم تجد حرجًا من أن تنادي أوفيريوس. لكنه لم يستجب. ظل واقفًا عند البابِ ينظرُ بحياد.
أشرتُ إليه أن تعال – إشارتي أمر – تقدم أوفيريوس صوبَ النساء. قلت أطفئ ظمأهن واشفِ غليلي برؤيتهن والرغبةُ تذهبُ بصوابهن.
جاء الفتى المخصي. تكالبن عليه. طرحنه أرضًا. كان مخصيًا ولكنه وسيم. تلطخَ رداءهُ بالدماء. خلعنه. ألبستهُ رداءَ العزيز، زوجي. تأملته لبرهة.. بدا فاتنًا ولكنه ليس كمثل فتاي الجميل.
قلت: اقترب يا أوفيريوس. تعال. لا تخف. سأجعلك خالدًا مخلدًا. لن تطبخَ بعد اليوم. ستكره الطبخ، وتحب الدماء. غذاءك سوف يمسي دماءً طازجة. هذي الدماءُ ستجعلك خالدًا. مُد يدك يا فتى.
أخذتُ سكيني المقدسَ وجرحتُ ساعدَ أوفيريوس. سالت دماءه. قلت للنسوة: إليّ بدمائكن. النسوةُ وضعن أناملهن البضة النازفةَ على ساعدِ الفتى المخصي المجروح. امتزجتِ الدماء. سرَتْ دماء النسوةِ في شرايين الفتى.
بسكيني المقدسِ مسحتُ على جرحِ الفتى فاندمل.
بسكيني المقدسِ مسحتُ على ظاهرِ خده فبرزت أنيابه.
قلت: الآن.. اذهب إلى العالمين دراكولا.
النمّامةُ ذاتُ الضحكةِ الماجنة كانت أجملَ نساءِ المدينة، نحن النساء كن نسميها امرأة المسك، عطرُ جسدها كان يبزُ كل عطورنا. الماشطةُ قالت أنها من حبكت قصة أوفيريوس في تلك الجلسة.
بسكيني المقدسِ مسحتُ على يدِ النمامةِ ذات الضحكةِ الماجنة. اندمل الجرح.
قلت: الآن.. اذهبي، ولكن يجبُ أن تعلمي أنه في قرونٍ قادمة، وفي مدينةٍ تسمى باريس، سيأتي من نسلك كاهن ٌ للعطور؛ رجلٌ يُدعى (جان باتيست غرونوي)*.
غرونوي الذي كان يسعى للحصولِ على روائحِ النساءِ الطازجةِ في قواريرَ مقطرة.
*بطل رواية العطر لباتريك زوسكِند.