غوايات

حلم

اِلتقيتُها في غفوة ظهيرةٍ ما. كانت منهكةً ويبدو عليها التعب، وبالطريقةُ التي نظرتْ بها إلي، عرفتُ بأنها لم تتوقع أن يزورها أحد. تململتْ: (أجي يا بنات أمي، ده شنو كمان، جابت ليها مصاقرة في نص النهار!) وحين لم أبدِ أي قرار  تقدمتْ نحوي منتهرة: (وووب عليك الله سريع سريع، أصلو ده وقت راحتي). وهمتْ مستسلمةً لنزع رداءها.

كان المكانُ مألوفًا، غرفةٌ فارغةٌ للأحلامِ السريعة، به سريرٌ تجلسُ عليه بت إبليس التي باتت الآن عاريةً ومباعدةً لما بين فخذيها.

ندهتْ عليَّ: (راجي الري؟! إنت قايل ما وراي غيرك).

أنا لم أكن قط متهيئًا للقاءِ كهذا، ليس بهذي الطريقة، وفي الأصل لم أعرف ما الذي أتى بي. قلت لها: (مافي مزاج).

 لعنتني: (وهو العنده مزاج منو؟! أمس نـ**** نص خلق الله، والليلة نصهم التاني).

هززتُ رأسي، الأمرُ برمته لا يعنيني، ثم انشغلتُ بمراقبة ساعةٍ فضيةٍ على الحائط. تبرمتْ بت إبليس وارتدتْ ملابسها بإهمال، بجامةٌ فضفاضةٌ قصيرة، وانتظرتْ علّي أظهر تعقيبًا ما، مواساة ما، لكنني لم أفعل… فاستوتْ على السرير تتأملني ثم همست: (قافلة معاك؟!)، وافقتها بإيماءة. قالت: (طيب يا أبو قافلة معاك، وقت ما حنعمل حاجة، ممكن أرتاح جوا حلمك ده؟) وضَحِكَتْ: (بس أوعك تصحى، أريتو كل الأحلام ساهلة كده). بعد ذلك، حرفيًا، لم نفعل شيئًا، جلسَ أي واحدٍ منا على الجانبِ المقابلِ من السرير. انشغلتْ هي بتسريحِ شعرها الأسودِ ولفهِ على شكلِ كعكاتٍ وتثبيته بالمشابك، بينما ظللتُ أنا أتطلعُ إلى الساعة الفضية، ولاحظتُ أن عقاربها تتحركُ عكسيًا.

      (هوي مقهي وين، أنا جعانة، ممكن تحلم لي بي غدوة؟!) سألتني بت إبليس، وعندما استفهمتها قالت: (ما تتبلم لي كده، موش ده حلمك إنت، إتصرف).  فكرتُ في أنها ربما عَنَتْ أن حُلمي تحت المشيئة،  فحاولتُ أن أتخيلَ لها طعامًا، لكن ظهرتْ خلافًا لذلك مكتبة قديمة، فتهكمت بت إبليس: (سجمي، إنتَ مثقف؟!). ومستسلمةً سحبتْ كتابًا وبدأتْ تقلبه: (ووب منكم ضعفانين وهلكانين من أكل الورق، قبلكم وحدكم يا المثقفاتيين).

لم أصغِ لسخريتها، فقد انحصرَ تركيزي في حسابِ الوقت العكسي، كانتِ الأرقامُ على حوافِ الساعةِ الحائطية عبارة عن كلماتٍ متغيرةٍ تظهر وتختفي بسرعة، مما عقدَ من ملاحقتي للزمن، وعندما قررتُ أن أحددَ لحظة انطلاقٍ كانت العقاربُ تُشير إلى شوكِ اللالوب-ساعة، الكجيك-دقائق، وهذياناتِ خط الحاج يوسف سوق ليبيا-ثوان. قلتُ بصوتٍ مسموع: (كابوس)، وأشرتُ بإصبعي لبت إبليس. لكنها بدورها قذفت بالكتابِ نحوي قائلة: (بسْ، عدم الشغلة بعلم المشاط، هسي الكتاب ده بدور ليه علام). أخذتُ الكتابَ الذي أزعجها فتفاجأتُ بأنه ”الروض العاطر في نزهة الخاطر“، النسخة الكاملة، واستغربتُ لأني كنت في أشد الحوجة إليه لعملِ رسالة بحث، ومندفعًا بدهشةِ طفلٍ بدأتُ أطالعه، بيد أن الخيبة تملكتني فصفحاته كانت غيرَ متوافقةٍ، شظايا ذاكرة من مدار السرطان لهنري ميلر والديكاميرون. أرجعتهُ إلى مكانه وفكرتُ أن الحياة أيضًا غير متوافقة؛ ما أن نجهلُ شيئاً حتى نستبدله بتجارب موازية.

اقتربتْ مني بت إبليس عند إحساسها بتوتري، فمسحت عن جبيني العرق ووضعت رأسها على كتفي، بينما شرعتُ أنا أتفحص عناوين الكتب في مكتبة أحلامي؛ ماركيز دو ساد، نابكوف، يوسا، وديفيد هربرت… ومحاولًا أن أتذكر تمتمتُ بأن كل الكتب التي قرأتها أو سمعت بها موجودة هنا. تثائبتْ بت إبليس وغفتْ على حجري، لكنها سرعان ما جلستْ ونظرت مباشرة إلى عيني، قالت: (عاين، إنت موش عارف أنا ممكن أبقى ليك أي حاجة)، هززتُ كتفي مستفهمًا، فابتسمت لي: (لو عاوز ممكن أبقى ليك ولد). وتماماً كظلٍ -تغيرتْ عنه زاوية الإضاءة- تبدلت طلتها إلى ولد، ود إبليس، وليزيل عني التوجس والرهبة قال ود إبليس بصوتٍ خشن: (أنا زي المراية، البتفكر فيهو في عقلك الباطن ببقاهو ليك)، سألته: (أنا المنحرف ولا إنت؟)، اهتزَ جسمهُ ضاحكًا، كانت البجامةُ النسائية تتحولُ ببطءٍ إلى عراقي شفاف واختفى شعرُ رأسها لينبتَ شاربٌ خفيف، قال: (في الأحلام الناس دي كلها منحرفة، أنا، إنت، شيخ الدين، ويبقى لي حتى الآلهة النايمة وغرقانة في أحلامها المقدسة، ذاتها مرات مرات بتنحرف)، آنئذ بصقت على الأرض، وشعرتُ بألمٍ في معدتي، ودوارٍ خفيف، كانت الساعة الفضية تشير إلى منتصف الجنون-ساعة، وشيطانات بركة ساكن-دقائق، والسترة والفضيحة متباريات-ثوان. قلتُ كأني أوجه كلامي إلى لا أحد: (الوقت اتأخر). فوقف ود إبليس متحمسًا: (المكان ده ما ظابط صاح؟)، وبدون مقدماتٍ تحولت الغرفة إلى صالة انتظار في محطة قطار عامة.

ارتعبتُ وتساءلت : من يقود الحلم، أنا أم الآلهة النائمة؟ لكن ود إبليس قال: (القطار ده ظط يا عمك، مع السفر مافي قرد بسألك إنت منو وجنسك شنو، تعمل التعملو وتكبرها)… ثم جلس بجانبي على مقعدِ انتظار الركاب، كان ما يزال يحمل في يده كتاباً لتانازاكي، وضع نظارة وبدأ يقرأ بتركيزٍ واهتمام، بينما راقبتُ أنا لوحة إعلاناتٍ فضية تحمل ساعةً مضيئةً تدلُ على وجهة القطار القادم. قلتُ لود إبليس: (القطر الجاي الماشي الأراضي المغمتة والضلامية حيجي بعد ثورة فطيس ساعة وخرطومية دقيقة)، فأنزل هو الكتاب وقال لي: (قرب والله، حقو أمشي أقطع تذكرة، أقطع ليك معاي؟)، وقبل أن ينتظر ردي غادر.  كانت مشيتهُ غريبةً، وانتبهتُ إلى أنه أعرج، ولوهلة ثارت في داخلي مشاعر متناقضة، تحديدًا تجاه العرَج، خفقَ قلبي وتوترت؛ فهو لم يكن يبتعد عني بالمعنى، إنما كان مشيه الأعرج إلى الأمام لكن أيضًا ظلت المسافة بيننا تقصر، حتى وصل إلى كابينة قطع التذاكر ووصل في ذات الآن إليّ، قال لبائع التذاكر، وقال لي: (تذكرتين لا نهائيتين، ذهاب بس، ذهاب بلا عودة) وابتسمَ  ابتسامةَ فكرةٍ مكبوتة.!

إ.ج.م

كاتب من السودان

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى